تَرَكتُكِ يا أُمِي… بقلم: لمياء أموي
بقلم: لمياء أموي

-1-
لا أدري هل تركتكِ أم تركتهم يأخذونكِ مني، إلى هذا المكان المُوحِش؟
فقدت التمييز ولم أعد أعرف ماذا يجب أن أفعل؟
ما السؤال الذي يجب أن أطرحه الآن؟
هل هي نهاية رحلتكِ، أم أن كتابكِ مازال به صفحاتٌ تُطوى وسطور تُكتَب؟!
يسِيرون هنا وهناك، لا يتوقفون عن الحركة.
أنظر إليهم، أراقبهم ورأسي يذهب معهم يمينًا ويسارًا.
أجلَسَني أحدهم على كرسي في الطرقة القريبة من غرفتكِ. يبدو أنه أشفق عليّ.
هو الوحيد الذي لاحظ وجودي ونظر إليّ.
ربما لاحظ زَيْغ نظراتي، وما أنا فيه من ربكةٕ وارتعاش.
وربما كان يرمي إلى الحصول على بعضِ العشرات من الجنيهات، عند خروجي من باب الرعاية المركزة!

-2-
جلست على الكرسي، وعُدت أراقب الممرضين والأطباء وعاملات النظافة.
وكأني في خلية نحل لا تكل ولا تمل من الحركة.
أصواتهم متداخلةٌ ومزعجة.
كيف لا يبكون عليكِ يا أمي مثلما أبكي؟
كيف لا يخافون من فقدانكِ مثلما أخاف؟
أرى شبحَ الفراقِ يحوم حولي.
أشعر بسخونةِ أنفاسِه، وهي تختلط بأنفاسي، وتخترق رئتاي، وتمر علي معدتي لتستقر فيها.
تصيبني تلك الأنفاس اللعينة بالغثيان، وتُفقدني السيطرة على أناملي، فتخرج أطرافي جميعها عن طوعي، ويسقط الموبايل من يدي.
وإذا بذلك الشخص يُسرِع ناحيتي من جديد، ليلتقط موبايلي ويُعيده إليّ.
كم هو ثقيل الظل! وكم أكره وقوفه إلى جانبي!
لماذا لا يتركني مع مخاوفي ويذهب بعيدًا؟!
شكرته، وقررت أن أعطيه بعض العشرات من الجنيهات، لعله يبتعد ويختفي.
أخذهم وتمتم بتلك الكلمات العقيمة البالية التي سئمت من سماعها يا أمي، منذ أن وطئت أقدامنا هذا المشفى.
“أنا تحت أمرِك لو عزتي أي حاجة …وألف سلامة على الوالدة وربنا يطمنِك عليها…!!”

-3-
سمعِت أحدهم ينادي باسمكِ.
فقفزت حتى يراني، فإذا به يشير إليّ بِيده، فأسرعت نحوه.
يا ترى ماذا يريد؟
هل سيُبلغني أنكِ شُفيتِ يا أمي؟
أم ربما اكتشفوا أن تشخيصهم كان خاطئًا!
أم أن حافظة أوراقكِ الطبية اختلطت بأوراق شخصٍ غيركِ، وأنكِ لم تكوني مريضة من البداية!
كنت في لمحِ البصر أمام هذا المنادي، والذي لم يكن يريد سوى أن يسلمني متعلقاتكِ الشخصية وملابسكِ يا أمي!!ماذا يعني أن أخذ ملابسكِ؟
ألن تعودي لتلبسيها يا أمي؟
لماذا يعطوني نظارتكِ وموبايلكِ و شاحنه؟
لماذا جردوكِ من كل ملابسكِ وألبسوكِ هذا الرداء الأزرق القبيح؟
وجدت مشطكِ وفرشاةَ أسنانكِ في الأشياء التي استلمتها.
كيف ستمشطين شعركِ بدون مشطٕ يا أمي؟
وكيف ستغسلين أسنانكِ؟
حتى مرطب اليد أخذوه منكِ!
لماذا تركتيهم يجردوكِ من اشيائكِ يا أمي؟
لماذا لم تتمسكي سوي بمسبحتكِ فقط؟
كيف استطعتِ أن تُخفيها عنهم؟
ربما وضعتيها حول رقبتكِ كما تفعلين دومًا؟
فعميٌت أعينهم عنها.
ذكية أنتِ يا أمي!

-4-
وماذا بعد؟..
ِيطالبونني بالرحيل..
ماذا جرى لعقولِهم؟
هل فقدوا صوابَهم؟
كيف أرحل وأترككِ في هذا المكان البارد، وسط أصواتهم المزعجة المختلطة بصفارات ورنات وزنات الأجهزة؟
كيف أترككِ وسط هذه الأسلاك و الخراطيم والمحاليل؟
لماذا تستسلمين لهم يا أمي؟
أين ذهبت قوة شخصيتك وهيبتك؟
ألن تنهريهم وتأمريهم أن يكفوا عن العبث بجسدك؟
انهضي يا أمي وعودي معي إلى البيت، فلنا سويًا حديثٌ لم نكمله .
،أحضرت الباذنجان والفلفل الرومي وعصّجت اللحم المفروم .ولم يبقْ سوى أن أضع صينية المسقعة في الفرن يا أمي الجميع في انتظاركِ، ولن تخرج الصينية من الفرن قبل أن تخرجي أنتِ من المشفى.
يريدون مني أن أرحل بحجةِ أن موعد الزيارة انتهى!
وهل أنا هنا في زيارة أيها الأغبياء؟!
أنا هنا بجوار أمي، ولن أتركها حتى تعود معي إلى البيت. لنشاهد معًا الحلقة الخامسة والعشرين من المسلسل!
في هذه الحلقة، ستكتشف الزوجة خيانة زوجها مع صديقتها المقربة يا أمي.
ستكون حلقة مثيرة وتحبس الأنفاس، وسوف أُحضِر فنجانين من النسكافيه مع قطعتين من كيكة الشوكولاتة التي صنعتيها بيديكِ.
كم أحب كيكة الشوكولاتة يا أمي.
حسنًا حسنًا …سأرحل وأعود غدًا يا أمي.
ِلكن عِديني أن أجدكِ على سريرك.

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد