حدود الله: تفسيرها وتطبيقها من منظور قرآني..للكاتب: ماسيمو كامبانيني.. ترجمة: عماد السعيد
عماد السعيد

ماسيمو كامبانيني: (3 نوفمبر 1954 – 9 أكتوبر 2020) فيلسوف إيطالي ومترجم وباحث في الإسلام والفلسفة الإسلامية وتاريخ الإسلام والدراسات القرآنية .
أود أن أوضح، وقبل أن أخوض في موضوع المناقشة، أن ما يتراءى لي من سخرية وإهانة معتقدات الآخرين ورموزهم المقدسة، لا يمكن بأي حال أن يندرج ضمن حرية الفكر. كتبت ذلك مرارًا عقب الاعتداء المأساوي ضد صحيفة شارل إيبدو الساخرة. بكل تأكيد لا شيء يبرر القتل، لكن هناك حدود يجب ألا يتم تجاوزها. حرية كل فرد (بما في ذلك حرية الفكر) تنتهي حيث تبدأ حرية الآخر ( في الواقع ومن وجهة نظر عقلانية بحتة يعتبر السب والقذف جريمة). ففي الحقيقة هي عملية احترام متبادل، لكن من النفاق أن نعتبر سب محمد حرية فكر، وبعد ذلك إذا أنكر فقيه مسلم عقيدة التثليث نتهمه بالهرطقة أو نعتبر أنه من غير المقبول أن يسب مسلم المسيح (وهو ما لن يفعله أبدًا لأنه يعتبره نبيًا)، وهو ما قد يحدث بالتأكيد في الغرب.
حدود الله
قلت أن مواجهة قضية التجديف أو الكفر التي تُنسب للإسلام، تنضوي بالضبط على تحديد ما هي الحدود التي فرضها الله في شريعته التي أوحى بها، خصوصًا تلك الحدود ( حد جمعه حدود ) التي فرضها الله بحكم مُوحى به. في الفقه الإسلامي تمييز واضح بين (حقوق الله) و(حقوق الناس). فحقوق الله هي حدود لا يجب تعديها، فالعاقبة المنتظرة لمن تعدى حدًا من حدود الله عقاب يسمى الحد.
الحد كما يُعرفه جوزيف شاخت: التزام أو أمر الله (حق الله) الذي لا يمكن الصفح عنه أو التسامح فيه. فالشريعة على أساس قرآني، قد أوضحت تلك الخطايا أو الحدود التي تستوجب عقاب وهي: السرقة، قطع الطرقات، الزنا، أو اتهام بالزنا دون بينة أو شرب الخمر. هذه (خطايا) وهي أيضا (جرائم) تُعتبر على التحديد كبائر، ففضلًا عن مخالفة الأوامر الإلهية، فإنها تجعل من التماسك المجتمعي والأخلاقيات العامة في خطر. وقد يُلاحظ أن جريمة القتل لم تُضمّن مع تلك الكبائر، وأكثر ما يهمنا هنا هو الكفر/التجديف.
فيما يتعلق بجريمة القتل، قد يرجع غيابه إلى ديمومته كعرف أو كعادة قبلية بدوية. غير أن القرآن يؤكد أن { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } [ المائدة: ٣٢]. لا قتل مباح ” بغير حق “، لكن قد يكون مباحًا في بعض الحالات ( على سبيل المثال في بعض حالات الدفاع عن النفس حينما يعتدي علينا عدو أو حينما تُطبق عقوبة الإعدام بحكم محكمة ).
نعود ونهتم بالكفر أو بالتجديف، فإن الجذر اللغوي في اللغة العربية الحديثة الذي يعبر عن مفهوم التجديف هو : ج – د – ف. إذًا فالجذر اللغوي ليس بقرآني: فالقرآن لا يتضمن أي لفظة مشتقة من هذا الجذر اللغوي الذي قد يشير إلى الكفر. إن مفهوم الكفر إذًن لمحدث، فلا يوجد له ذكر في القرآن ( يتناول فيه بدلًا من ذلك مصطلح الردة ) حيث أن تصور سب اسم الله أو الله نفسه هو احتمال لا يمكن تصوره لأي مؤمن، بأي ديانة، وبخاصة في حالة المسلم. هناك بالأحرى بعض الألفاظ تشير بطريقة ما إلى محاداة الله ورسوله. فمثلًا يُذكر أن كثيرًا من الأنبياء قد اُستهزء بهم من قبل أقوامهم، بمعنى أن الناس قد سخروا من ادعائهم بأنهم أُرسلوا من قبل الله ( إن أكثر ما وجه مشركو قريش بمكة إلى محمد هو اتهامه بأنه ” ساحر” أو” شاعر” )، ولأجل ما فعله المستهزئون محقهم الله، وجعلهم عبرة.
إن القرآن يدعو ” المسلمين” بأن لا يسبوا ” المشركين” فيسبوا الله عدوًا. ويذكر كيف أن “اليهود” بـ(المدينة) يحرفون الكلم عن مواضعه بهدف الإساءة إلى النبي (الذي جاهد بعد الهجرة أن يُعترف به من قبل اليهود)، فكانت عاقبتهم هي ( لعنهم ) من قِبل الله. إن القرآن يحذر من أن تُتخذ آيات الله هزوًا، كعدم الاعتقاد باليوم الآخر أو بعث الموتى. ومع ذلك فأهم تهمة يوجهها القرآن إلى غير المؤمنين هي (الافتراء على الله كذبًا). فهذا التعبير يظهر بالقرآن في مناسبات عدة، بما لذلك من مغزى { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون } [ النحل: ١٠٥ ] وأما المراد بمحاداة الله ورسوله في الآيات { ومن يحادد الله ورسوله فأولئك في الأذلين } [المجادلة: ٢٠]، و{ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدًا فيها } [ التوبة: ٦٣ ] فهو الكفر ورفض الإيمان والتقوّل على الله بأشياء خاطئة مثل أن الله ثالث ثلاثة، فليس المراد هنا الاستهزاء.
هل في الإسلام حد للردة؟
وبما أن القرآن لا يتضمن إشارات واضحة فيما يتعلق بالتجديف، فمن الواضح أنه لم يضع له حدًا أو عقوبة. حتى وإن كانت بعض الأنظمة الإسلامية شديدة الراديكالية تطبق اليوم أشد العقوبات على الكفر، بما في ذلك حد القتل، فليس لذلك أساس أو سند قرآني، بل هي نتيجة التفسيرات الفقهية التي قامت بتوسيع الأحكام القرآنية. والشيء نفسه قد حدث في موضوع الردة: فالقرآن يؤكد أنها خطيئة أو جرم يستوجب العقاب، لكنه يوكل إلى الله، بيوم الحساب في الحياة الآخرة. { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ البقرة: ٢١٧] . معنى ذلك، أن من يدّعي من فقهاء العصور الوسطى والأصوليون الحاليون، بأن عقوبة المرتد هي القتل فإنه يخالف النص القرآني.
وحيث أن القرآن لا يتضمن إشارات للكفر، بل يحتوي على بعض التحذيرات ( ليست كثيرة في الحقيقة ) بعدم تعدى (حدود الله الثابتة ). ففي سورة البقرة مثلًا { تلك حدود الله فلا تقربوها } [البقرة: ١٨٧ ] و{ تلك حدود الله فلا تعتدوها } [البقرة: ٢٢٧ ]. السياق في الحالة الأولى يشير إلى عدم انتهاك المحظور بإقامة علاقات جنسية خلال نهار شهر رمضان المكرس للصيام وللتأمل. وفي الحالة الثانية يشير إلى عدم انتهاك الأحكام التي فرضها الله في الطلاق. إن في عدم التعدي لحدود الله قيمة تقويمية تربطه آية نموذجية بالواجب الأخلاقي، الذي يتمتع بأهمية كبيرة في الرؤية الإسلامية، عند (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
في الواقع، يوضح القرآن بأن المفازة العظمى هي لـ {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} [ التوبة: ١١٢] .. لكن ماذا يحدث لمن يتعدى حدود الله؟ فكما هو معروف، هناك آيات تشرع عقوبة الجلد للزناة أو لمن يرمى محصنًا بالزنا. أما عن شرب الخمر فلا عقوبة بأي حال من الأحوال. بل خلاف لذلك فالقرآن يرجيء العقوبة إلى الحياة الآخرة حيث الجحيم الأبدي، فالأية تقول: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خلدا فيها} [ النساء: ١٤]. أما جريمة القتل فعاقبتها القصاص ويعود أصله إلى الشريعة البابليّة، أوالديّة – وهي عادة قبلية بدوية لازالت قائمة -وذلك لتجنب عداوات لن تنتهي.
إن هذا التحليل وإن كان مبسطًا يؤدي بالضرورة إلى استنتاجين متشابكين ودالين: فمن جهة، أن الإنسان من منظور إسلامي ليس حرًا بالمعنى المطلق للكلمة، فليس بمستطاعه أن يفعل ما يشاء كاختيار، بل يجب عليه أن يكبح جماح نوازعه بالإذعان ل(حدود) الله وشريعته؛ ومن جهة أخرى، فإن الإنسان يكون حرًا بقدر ما يكون طيّعًا لشرائع الله وحدوده. وهذا المفهوم صاغه بانسيابية كافية المفكر محمود محمد طه1.

الإنسان مُسيّر أم مُخيّر؟
إن الإنسان مسيّر من البعد إلى القرب، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن التعدد إلى الوحدة، ومن الشر إلى الخير، ومن المحدودية إلى المطلق، ومن القيد إلى الحرية والجبر من بدايته هو رحمة في صورة عدل، وهو أكبر من العدل، لأن الرحمة فوق العدل. والجبر عدل لأنه يقوم على ممارسة بحرية مدركة في مستوى معين، فاذا أحسن المتصرف التصرف في حريته، زيد له في حريته، فارتفع في مستواه بالتجربة والمرانة، وإن لم يحسن التصرف تحمل مسئوليته بقانون حكيم يستهدف زيادة مقدرته على حسن التصرف في حريته. وهكذا فالإنسان مسيّر من التسيير إلى التخيير، لأن الإنسان مخيّر فيما يحسن التصرف فيه من مستويات الفكر والقول والعمل. هناك حديث قدسي يقول الله فيه ( إن سلمت لما أريد، كفيتك ما تريد ) وهو يوضح أن إرادة الإنسان تصبح نافذة المفعول فقط إن هو أراد الله. فحسن التصرف في حرية الإرادة تعني إرادة الله، ولا نريد سواه. فإن نحن قمنا بذلك بيقين مكتمل، فكرًا وقولًا، فإنه يمدنا بمزيد من حرية الإرادة.
إن التحيّز، إذا صح التعبير، بأن الجبرية تنفي الحرية بالكلية في مقولة محمود محمد طه، هي من اتجاه أخر وسيلة يتخذها المرء ليتحد مع قانون إلهي ذو طابع غائي. ولا يمكن هنا أن نفهم فكر طه بشكل منهجي، لكنه يؤكد بوضوح أن توجه الحياة الإنسانية نحو الله هو اختيار للحرية المتوافقة مع الأقدار الإلهية.
إن التقيد بالقانون يحد من سلوكيات الفرد تجاه المجتمع ويفرض عليه احترام حرية الآخرين. وهذا لا يعني أن القانون وتطبيقه لا يكفلا تعددية التوجهات. وفيما يخص الإسلام فالقضية حساسة لأنه في صورته النمطية، قد يعوق حرية التعبير بقوة التقيد بالقانون وعلى وجه الخصوص حرية الإيمان. ومن المهم هنا أن نتفحص ما يخبرنا به القرآن. فالأية الشهيرة { لا إكراه في الدين } [ البقرة: ٢٥٧] تقول بوضوح بأنه لا أحدا مجبر على أن يؤمن بكوامنه بدين ويعتنقه قسرًا: وحقيقةً فإن الإصلاحيين المسلمين الحداثيين بداية من محمد عبده2 اعتبروا أن هذه الأية هي ركيزة التسامح في الإسلام ، ولكن القرآن يقول أيضًا {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} [الأنفال: ٣٩ ] وخصوصًا الآية { ومن يبتغي غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} [ آل عمران: ٨٥]

للإسلام وجوه كثيرة
تنشأ هنا بوضوح وبطريقة ملحة مشكلة التفسير. فـهل (الإسلام) يُقصد به هنا الديانة الإسلامية التاريخية، أم هو يعني بشكل عام النزعة (الفطرية ) الإنسانية بـ (التسليم) لله، وأن يكون مجبولًا على التوحيد مثلما كان النبي إبراهيم ف{ ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا} [ آل عمران: ٦٧ ] حنيفًا تعني (موحدًا) بكل جوارحه بالله، مسلم (غير مشرك) . في الحالة الأولى، فالآيات قيد النظر من الممكن أن تكون حاسمة في حمل غير المؤمنين على الإيمان، رغم كل العواقب المتخيلة لذلك؛ وأما في الحالة الثانية، فعلى العكس، القرآن يؤكد على السجية (الطبيعية) الأولية للدين الإسلامي (الفطرة النقية ) {فطرة الله التي فطر الناس عليها} [ الروم: ٣٠ ].
ورأيي هو، أن الحالة الثانية هي ما تمثل موقف القرآن على الأصالة، وذاك هو تعريف الإسلام بأنه دين فطري، وبغض النظر عن مظاهره التاريخية ( اليهودية، المسيحية، والإسلام) فيظهر من هذه الأيات أنها تُقِر بشكل لا لبس فيه التعددية الدينية للحقيقة البشرية، تعددية أجازها وأرادها الله ذاته. فالأية { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات} [ المائدة: 48] تؤكد ذلك. وقد تكون هذه الأية حاسمة { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم} [الحجرات: ١٣ ].
هذا التفاهم والتعارف المتبادل هو ما يعتبره رضا شاه كاظيمي3 هو الأساس الإبستمولوجي لقضية التعدد، والاعتراف به، بدوره هو أساس التسامح الإسلامي وطبقًا للأية { لا إكراه في الدين } [المذكورة أعلاه، فشاه كاظيمي ينبه جيدا على ضرورة فهمها في ضوء شطرها الثاني {لا إكراه في الدين: قد تبين الرشد من الغي} . فالأمر بالتسامح متكيء بالضرورة على المعرفة، وعلى مرانة النفس البشرية على التمييز بشكل قويم بين الرشد والغي. لذلك: كلما تحصلت على معرفة وثقافة أكثر، كلما كنت أكثر تسامحًا.

الشريعة وهم أم حقيقة؟
بهذه النقطة نستطيع أن نصل باستنتاج عام حول حرية التصرف و (حرية الفكر) في الإسلام، وهو أن وسائل الإعلام غالبًا وأساتذة الإسلاميات (وبشكل طبيعي من يعانون من الإسلاموفوبيا) يربطون كل مظاهر القبح بالشريعة الإسلامية. الإسلام الذي يلقى بروعه في مخيلة سواد الناس. لذلك من الجيد هنا في هذا السياق إزالة سوء الفهم الحاصل.
لفظة الشريعة تعني اشتقاقياً (طريقة أو سبيل ” الذي يرشد إلى مصدر مياه ” ) الذي ليس له علاقة بحد ذاته كقاعدة بالقانون، المركب من القرآن والسنة ( التي هي أفعال النبي محمدا المتوارثة جيلا إلى جيل من مدونة الحديث ) بما يترتب على ذلك من أن الشريعة ليست بالمعنى الدقيق نظامًا قانونيًا؛ بل هي على الأخص مجموعة من المباديء والتوجهات الأخلاقية والقيمية التي ترشد العمل البشري وتدعم النظام المعياري، إنه الفقه، الذي يُعرف، بدوره طبقًا لمعالجة ابن خلدون له بـ(أنه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين)، فالحكم الإسلامي للفعل الإنساني، في أي فعل لا يشذ عن أحد خمسة جوانب ( واجب أو فرض ) أو (محرم) أو (مكروه )لا يعاقب فاعله أو (مباح). إن المعيار الذي يُحكم من خلاله في الإسلام على الأفعال ليس (الخير الذي يطلب ) وليس (الشر الذي يجتنب) لكن (المباح الذي يفعل). لذلك كتب عزيز العظمة4 بأن : (القانون الإسلامي غير مدون. وهذا ما يجعل الدعوات المكررة لـ “تطبيقه” بلا معنى، خصوصا عندما تتعلق الدعوة بتطبيق الشريعة. فهذا المصطلح لا يشير إلى القانون، لكنه مصطلح فضفاض يشير إلى Nomos e 5النهج القويم، فهو متشابه إلى حد بعيد مع مفاهيم النوموس والدهارما. Dharma6
إن تطبيق القانون الإسلامي (الفقه) على أساس القصد الأخلاقي للشريعة يهدف إلى حماية الصالح العام للمجتمع “المصلحة” ولضمان الحقوق الأساسية للفرد في الإسلام، وهذا ما تهدف إليه الشريعة (مقاصد الشريعة) فهي صون الحق: في الحياة، الخصوصية، الدين( بما في ذلك حرية الاعتقاد بمعتقد خاص)، الفكر (التحرر الفكري بما في ذلك حرية الفكر )، التناسل (فالأبوة لابد أن تكون متيقنة). فالحفاظ على هذه الحقوق تجعل من الإنسان حرا ويبقيه ضمن “حدود ” الله. كما أنه يضمن أيضا السلوك القويم للفرد والمتوازن ضمن إطار المجتمع.
أمل أن تكون مناقشتي هنا قد أوضحت أن من يُنسبون إلى الإسلام ويقتلون باسم الإرهاب، إنما يفعلون ذلك بما لا يتفق و(حدود الله ) كما وُثِقت في القرآن. وكما ذُكر بكل تأكيد، فكثيرًا ما يعتمد على أي شكل يتم تفسير القرآن. فمثلًا المتطرف الذي يحرض على الحرب أو القتل يعتمد على الآية التي تسمى بـ( بأية السيف) فاقتلوا إنما (نسخت) أو أبطلت الآيات التي تشمل جميع الأديان، والتي تقر بأن كل المؤمنين المخلصين على تنوع أديانهم مشمولون بفضل الله ورحمته، لكنه يُطوِّع النص القرآني لنواياه العدوانية. إن المسلمين المحافظين والأصوليين أنفسهم الذين يلوحون بشعار الشريعة كمتن إلهي، يحتوي على أحكام غير قابلة للتبديل، يسيئون فهم تقليدهم القانوني. فالطريق الذي يجب على المسلمين أن يضعوه صوب أعينهم هو أن يزدادوا وعيًا بتفسير وتأويل واعٍ للقرآن، فذلك ضرورة لا محيد عنها.
الملحق
إنني أعتقد أن الفقرة التالية جديرة بأن تتوج ما استتنجناه هنا، وقد كُتبت عام1935 ومازالت ذات أهمية استثنائية ودراماتيكية عصرية. كاتبها هو محمد حسين هيكل7 وهو أحد أبرز الإصلاحيين المسلمين الحداثيين بمصر في العقود الأولى بالقرن العشرين، يشرح ويكشف لنا أشياء كثيرة وسأتركها هنا بلا تعليق:
إن القوة التي توسع بها الإسلام حملته على الاحتكاك سريعا مع العالم المسيحي، وأدخلت كلا الديانتين في مواجهة شاملة. إن النبي محمدا كان قد محى الوثنية واجتثها من الجزيرة العربية، وهو نفس ما قد قام به خلفاؤه الأوائل في بلاد فارس، وأفغانستان وفي نطاق واسع ولاحقا قهر خلفائه المسيحية بالحيرة، من بلاد الهند، فاجتثوا تلك الوثنية من تلك البقاع ومن اليمن وسوريا ومصر، وخصوصا من القسطنطينية عاصمة العالم المسيحي. لذلك أكان على المسيحية أن تواجه نفس ما واجهته الوثنية من مصير؟ وهي ما أثنى عليها محمد وأقر بنبوة مؤسسها؟ وهل قُدر لهؤلاء العرب، أن يخرجوا من صحراء جزيرتهم القاحلة، لغزو جنان إسبانيا وبيزنطة وبقية البقاع المسيحية؟ كلا الموت ولا هذا! فالقتال بين أتباع محمد واتباع المسيح قد استمر لعدة قرون. والحرب لم تقتصر على الأسِنة والمدافع. بل امتدت أيضا إلى مجالات الفكر والجدل وكلا المتجادلان تجادلا باسم محمد وباسم المسيح. ولم يدخر أي منهما جهدًا لتأليب السواد وتأجيج مشاعرهم. إن الإسلام يمنع التعرض لشخصية السيد المسيح. فالإسلام يعتبره عبد الله، أوتي الكتاب وجُعل نبيًا، وغير ذلك فالإسلام قد خص المسيح، بجعله مباركًا أينما كان وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حيًا .وبرًا بوالدته ولم يجعله جبارًا شقيًا. فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً ( مع بقية الخلائق).
غير أن مسيحيين كُثُر على العكس من ذلك يتعرضون لشخص النبي بالإهانة ويصفونه بأوصاف قبيحة، عوضًا عما بأنفسهم من غل وعداء وكراهية. ورغم الرأي الشائع بأن الحروب الصليبية قد انتهت ونُسيت، فإن التعصب المسيحي على أشده تجاه محمد!) لم يختلف عما كان إن لم يكن أسوأ، وإن كان يحدث بوسائل تبشيرية خبيثة غير مسؤولة للاقتتال مع الإسلام. والتعصب لم يقف عن حدود الكنيسة، بل تجاوزها إلى كُتاب كثيرين وفلاسفة أوروبيين وفي أمريكا من الذين ليسوا بذات صلة بالكنيسة.
- محمود محمد طه مفكر ومؤلف وسياسي سوداني (1909م -1985م). أسس مع آخرين الحزب الجمهوري السوداني عام 1945م كحزب سياسي يدعو لاستقلال السودان والنظام الجمهوري وبعد اعتكاف طويل خرج منه في أكتوبر عام 1951، أعلن مجموعة من الأفكار الدينية والسياسية سمى مجموعها بالفكرة الجمهورية. ↩︎
- محمد عبده (1266- 1323 هـ / 1849- 1905 م)، مفكر إسلامي وعالم دين مصري، وفقيه وقاض وكاتب مجدد، يعد أحد دعاة النهضة والإصلاح في العالم العربي والإسلامي، ورمز التجديد في الفقه الإسلامي، أسهم بعد التقائه بأستاذه جمال الدين الأفغاني في إنشاء حركة فكرية تجديدية إسلامية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تهدف إلى القضاء على الجمود الفكري والحضاري وإعادة إحياء الأمة الإسلامية لتواكب متطلبات العصر. ↩︎
- رضا شاه كاظمي (ولد في 1 يونيو 1960) هو مؤلف متخصص في التصوف المقارن والدراسات الإسلامية والتصوف والشيعة. حائز شهادة الدكتوراه في علم الأديان المقارن من جامعة كينت، ويعمل حالياً باحثًا مساعدًا في معهد الدراسات الإسلامية في لندن. ↩︎
- عزيز العظمة هو كاتب ومفكر وباحث سوري حاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية من جامعة أكسفورد بعد أن تخرج منها، وكذلك درس في توبنغن في ألمانيا.
درّس في جامعات بيروت والكويت ومنذ 1985م عمل كبروفيسور للعلوم الإسلامية في جامعة الشارقة. ↩︎ - نوموس، من اليونانية القديمة: هو مجموعة القوانين التي تحكم السلوك البشري . قد يشير نوموس أو نوموي إلى: نوموس (الأساطير)، “روح القانون” في الأساطير اليونانية. نوموس (علم الاجتماع)، عادة أو عرف للسلوك الاجتماعي والسياسي، استخدمه في الأصل كارل شميت. ↩︎
- دارما مصطلح يشير إلى الترتيب الخفي أو ما يدعى Rta في الطبيعة والحياة الإنسانية وسلوك المخلوقات والحياة التي تسير وفقا لهذا النظام والترتيب. المصطلح هو أساسا ما يدعى بالديانات الدارمية، أخلاقياً تعني الدارما الطريقة الصحيحة في العيش أو التواصل الصحيح خصوصًا ضمن مفهوم ديني وروحاني. ↩︎
- محمد حسين هيكل: أديب وصحافي، وروائي ومؤرخ وسياسي مصري كبير، صاحب أول رواية عربية باتفاق نُقَّاد الأدب العربي الحديث، كما أنه قدم التاريخ الإسلامي من منظور جديد يجمع بين التحليل العميق، والأسلوب الشائق، وكان أديبًا بارعًا، كما كان له دور حركي كبير في التاريخ السياسي المصري الحديث. ↩︎
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد