حكيم الصحة بين المعجزة والخوف… بقلم أكمل صفوت

 

لما كنت طالب في آخر سنين الدراسة في كلية الطب، قررت أعمل بروفة طبيب واشترك نوبتجية في قسم النساء والولادة، علشان أحضر حالة ولادة طبيعية، لأني كنت لسه حالًا مخلص “الدرس ده” بشكل نظري. 

عملت كده فعلاً والدكاترة في القسم استقبلوني بشكل لطيف جدًا، ولما جت واحدة تولد وقفت في الخلفية تتابع باهتمام وتركيز.

كل شيء كان زي الكتاب مابيقول، وكنت قادر أتعرف على كل مرحلة من مراحل الولادة، وأفهم معناها وأتوقع مسارها وأتابع تطورها. كنت قادر أضيف لمعلومات الكتاب النظرية تفاصيل محسوسة من لحم ودم باشوفها وباسمعها وباشمها وبالمسها، إحساس مكثف ماكنتش حسيت بيه قبل كده.

  لما روحت البيت كنت مجهد وتعبان وبنهج من الانفعال، بس وأنا عالسرير باستعيد اللي حضرته، انتبهت فجأة لإني حضرت معجزة، وسألت روحي ياترى كنت حاحس أزاي لو كنت حضرت لحظة ميلاد طفل من غير ماكون لابس بالطو الطبيب؟ وهل ياترى اهتمامي بالتفاصيل حجب عني المعجزة؟ 

  بدرجة ما زعلت، بس اللي اكتشفته – بعد فترة قصيرة جدًا من الممارسة الطبية – إن احساسي ده ماكانش صحيح. أنا تخصصت في علاج الأورام، باخوض مع العيانين بتوعي وأهاليهم رحلة علاج طويلة، واللي تعلمته إن مافيش تفاصيل علمية حاتحجب عنك المعجزة، أو حاتفصلك عن الألم، أو حاتحميك من إنك تلمس الخوف، أو حاتمنع إنك تتعدى بالأمل.

معايشة التجربة الإنسانية دي مع المرضى – بالنسبة لي – هو المعنى من إن الواحد يبقى طبيب.

بس تجربتي كطبيب وقت وباء كورونا كانت مختلفة، وكشفتلي إن خبرتي الإنسانية والمهنية السابقة ماعرفتش تمدني بأي أدوات أتعامل بيها مع تجربة الجزع الجماعي اللي كنا كلنا بنعيشها. 

إنك تعيش تجربة المرض مع مريض واحد شيء، وإنك تتعامل مع المريض نفسه في ظل وجود وباء شيء تاني خالص.

المثل المصري بيقول “البعد جفوة”، وده صحيح برضه في ممارسة الطب. ماكنتش جربت قبل كده أتعامل مع مرضايا “من وراء حجاب” من الأقنعة والجوانتيات واللبس الواقي، ماكنتش جربت ماشوفش وشهم تحت القناع وأقرأ توتر العضلات تحت عينيهم، وماكنتش جربت إني أحافظ على مسافة مترين بيني وبينهم، أنا اللي كانت طبيعتي المصرية بتخلليني أقدر آخد العيانين بتوعي بالحضن وأحط إيدي على كتفهم وأنا باتمشى معاهم لباب العيادة، وسط ذهول الممرضات الدانمركيات. كنت، وأنا ملتزم بقواعد التباعد الإجتماعي، حاسس إني بقيت دكتور خايب ووحش. بس الشيء المختلف والصادم بالنسبة لي، كان حائط الخوف اللي اتوجد فجأة بيني وبين المرضى بتوعي، بعد ماكل واحد فينا بقى شايف التاني “خطر محتمل”. 

  حتى من قبل الكورونا، كان بروتوكول منظمة الصحة العالمية بيأكد على أهمية إن الأطباء يلتزموا باستخدام الزي الواقي مع كل مريض جديد. فكانوا بيقولوا “فى حالة الوباء لا توجد طوارئ”. يعني لو الطبيب تفاجئ بمريض بينزف بسبب حادثة، أو واحدة في ولادة متعسرة، مايقربش إلا لما يلبس اللبس الواقي، حتى لو ده أخد وقت، حتى لو المريض محتاج تدخل سريع، ومهما كانت الحالة، “لا توجد طوارئ في حالة الوباء”. 

  في إفريقيا -إرشادات زي دي- وغيرها، هي اللي منعت انتشار فيروس سارس في بلاد نظامها الصحي مش متقدم ولا غني. أنا التزمت بالقواعد لإني مقتنع بأهميتها، بس المؤكد إن ده كان شيء قاسي جدًا.

  سمعت زمان إن فيه حديث قدسي بيقول “لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين”. بس إنك تكون طبيب في وقت الوباء، معناه إنك تتعلم تشتغل وأنت بتجمع بين خوفين. 

  لحد ما يـجي الأمان.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات