حلبة الموت (الممتع) أو السياسية في قاع المعنى ج1 … بقلم: د. قاسم المحبشي

بقلم: د. قاسم المحبشي

أستاذ فلسفة التاريخ (اليمن)

d8af.-d982d8a7d8b3d985-d8a7d984d985d8add8a8d8b4d98a حلبة الموت (الممتع) أو السياسية في قاع المعنى ج1 ... بقلم: د. قاسم المحبشي

البارحة أذهلني فيلم المصارع وعمل لي عصف ذهني.

الفلسفة تنتج معنى الصورة والسينما تجسد صورة المعنى.

مخزن قمح ناضج في مشهد يوحي بالخير الطبيعي الوفير، رجل عشريني مفتول العضلات يداعب القمح ويقبض على حياته وهو جالس مثل الصقر على أصابع قدميه في حوش منزله الريفي حيث يحيط به الدجاج البلدي الذي يلتقط قوته بفرح وسعادة غامرة. وعلى مقربة منه بأمتار كانت زوجته ترقبه وهي تنشر غسيلها على حبل مهلهل.

التفت اليها وابتسمت فنهض وقبلها بحرارة عاشقين سعيدين مطمئنين على مستقبلهم؛ قبلة طويلة أنستها الدنيا وما فيها! وفجأة ينقلب كل شيء؛ إذ تنادى إلى مسامعها أصوات صراخ وعويل؛ إنها الحرب وقد اشتعلت بضراوة) هكذا ينفتح المشهد لفيلم “Gladiator” (المصارع/المجالد) الأمريكي الجديد الذي يعرض لأول مرة في هولندا؛ أحد الأعمال الملحمية النادرة الّتي تحبس الأنفاس منذ البداية وتسافر بك إلى عصور وحشية تتجلى فيها صنوف المكائد والتقتيل واستعباد البشر واحتلال أرضهم، تحكي القصة عن مرحلة فارقة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية سنة ١٨٠ للميلاد، ومحاولة إنقاذها من قِبَل المخلصين لها، بعد أن عَهِدَ (ماركوس أوريليوس) بالسلطة الكاملة إلى الجنرال والفلّاح – الذي يحبه الشعب – (ماكسيموس)، الذي أباها في أول الأمر ثم اضطلع بها وتبدأ المكائد حوله سريعًا.

البارحة تسمرت في مقعدي وأنا أشاهد المصارع، الروماني في عرض سينمائي مباشر لأخطر مشكلة دارت حولها فكرة الحضارة الإنسانية عبر تاريخها الطويل. وأنا أشاهد الفيلم الرهيب حدث عندي عصف ذهني فتداعت إلى ذاكرتي كل الصور والرموز والمعارف والمعلومات التي تراكمت في مخيلتي منذ الطفولة عن الحضارة الرومانية وعن السلطة السياسية وعن ثورة اسبارتاكوس وعن حلبة الموت أول المبارزة الدموية برعاية الإمبراطور الروماني ذاته وذلك في حلبة المصارعة (الكولوسيوم) أشهر صروح العمارة الرومانية، بناءً ونحتاً وأسراراً في الصناعة، إذ يحمل كثيراً من المتناقضات، سواء القوة، أو الضعف، والحياة، والموت، والهزيمة، والانتصار.

d8a7d984d983d988d984d988d8b3d98ad988d985 حلبة الموت (الممتع) أو السياسية في قاع المعنى ج1 ... بقلم: د. قاسم المحبشي

مثلما يفخر المصريون بأهراماتهم، والصينيون بسورهم العظيم، يفخر الإيطاليون ببنائهم الأشهر (الكولوسيوم)، حتى إنه في قمة العشرين الأخيرة التي عُقدت في روما في 30-31 أكتوبر/تشرين الأول 2021 كان الكولوسيوم أول مَعْلَم يزوره قادة العالم نظراً لأهميته التاريخية الكبيرة.

ربما كنت الوحيد من بين المشاهدين الذي أعرف من هو الإمبراطور الروماني (ماركوس أوريليوس أنطونينوس) الذي كان الفيلم يدور حول فترة حكمه الأخيرة. هو فيلسوف رواقي والإمبراطور الروماني السادس عشر (161 – 180) وخامس الأباطرة الأنطونيين الرومان. وهو أبو الإمبراطور كومودوس. كان أحد آخر «خمسة أباطرة جيدون» حكموا الإمبراطورية الرومانية من 96 إلى 180م، كما أنه يُعتبر من أهم وأبرز الفلاسفة الرواقيين؛ وكتاب التأملات من أشهر كتبه.
تولى عرش الإمبراطورية الرومانية مع أخيه المُتبنى لوسيوس فيروس من 161م وحتى وفاة فيروس في 166م، ومن ثم مع ابنه كومودوس منذ عام 177م. ربما كان ماركوس أنطونيوس هو التحقيق الفعلي الوحيد في الأزمنة القديمة طبعا لنظرية الملك الفيلسوف الذي نادى بها أفلاطون في كتابه الجمهورية.

لا أدري ما الذي دفع مخرجوا الفلم المهم والخطير هذا ومنهم (جون لوجان “John Logan”، ديفيد فرانزوني “David Franzoni”، ويليام نيكولسون “William Nicholson”) بتصوير نهاية حكم الفيلسوف الإمبراطور بهذه المشاهد الشديدة التناقض؛ إذ أظهر الفيلم الحياة الناعمة حد البذخ والانحلال لأولاد الإمبراطور الحكيم المحترم ومجلس شيوخه وازدهار حلبة المصارعة المتوحشة في زمانه؟
لا أدري الحافز الحقيقي وراء هذا المشهد الشديد التناقض والغرائبية هل هو زيادة عنصر الجذب والتشويق أم توجه إيديولوجي من نوع ما؟!

أتذكر أنني قرأت ذات يوم في زمن مضى وصف دقيق لمعنى حلبة الموت الرومانية ووظيفتها السياسية. وهو الفيلم الذي كلف مئات الملايين من الدولارات إذ بلغت تكلفة إنتاجه حوالي 6 ملايين دولار لكنه حقق إيرادات بلغت 465.4 مليون دولار في جميع أنحاء العالم، ليصبح ثاني أعلى فيلم ربحًا في العالم فضلا عن الجوائز التي حاز عليها؛ جائزة أوسكار لأفضل فيلم وأفضل ممثل وهو “راسل كرو” عام 2001، كما حصلت “جانتي بيتس” على الأوسكار لأفضل تصميم أزياء.
وفاز الفيلم بنفس الجائزة لأفضل تأثيرات صوتية وأفضل خلط أصوات. كما حاز Gladiator جائزة “الجولدن جلوب” لأفضل فيلم دراما، وأفضل موسيقى تصويرية للمبدع الألماني هانز زيمر وجائزة البافتا لأفضل فيلم، وأفضل مونتاج، وجائزة اختيار النقاد لأفضل فيلم وأفضل ممثل”.

d8acd984d8a7d8afd98ad8aad988d8b1-2 حلبة الموت (الممتع) أو السياسية في قاع المعنى ج1 ... بقلم: د. قاسم المحبشي

على مدى ساعتين عشت اللحظة الرومانية بكل صخبها وتناقضاتها وشهدت معنى السطوة والدناءة والقسوة والنبل والشجاعة والرحمة. شاهدت أهل روما الامبراطورية وهم يقتلون أسراهم وعبيدهم في حلبة الموت الدائرية التي صممت لهذا الغرض السلطوي الترفيهي، إذ ظهروا وكأنهم في عرض مسرحي، يحضره عامة الشعب، والأباطرة، للاستمتاع، وكأنهم يشاهدون فيلماً في عرضه الأول، يصفقون ويهللون.
لكن أشد ما يثير الدهشة ليس هذا الافتقاد غير المتوقع إلا قليلا لنزعة حب الخير، بل أن هذا السفور الصريح في ممارسة الوحشية كان مشروعا بل وقانونيا بل وتنظمه السلطات العامة، فالعاهل وهو الذي يكفل ويضمن الشرط الاجتماعي في وجه الشرط الطبيعي كان هو الذي ينظم ألعاب الموت هذه في قلب السلام الاجتماعي العام، وكان هو الحكم فيها كما كان يرأس الحضور في المدرجات. وكان ذلك مدعاة للفخر، فشعراء البلاط لكي يتملقوا سيدهم كانوا يهنئونه على البراعة الممتعة في إيقاع صنوف العذاب التي أعدها لكي يدخل السرور على قلوب الجميع (voluptas, laetitia باللاتينية: اللذة والسرور).

فالبشاعة إذن حتى إن كانت قانونية لم تكن هي المشكلة لأنه في قرون أخرى كانت الجموع تزدحم في ساحات تنفيذ حكم الإعدام حرقا، حيث كان الملوك المسيحيون يتصدرون الحضور في أغلب الأحوال، فلم تكن هذه البشاعة العلنية تستر نفسها بأي ذريعة. ولم يكن الإعدام حرقا مشهدا للتسلية أو الترفيه، ولو قدم أحد المتملقين تهنئته لملك إسبانيا أو فرنسا لتقديمه اللذة voluptas إلى رعاياه فسيعد ذلك اعتداء على جلالة الملك وكرامة العدالة وعقوباتها وفي هذه الأوضاع يبدو إنهاء أي المبارزات في قرن الأباطرة المسيحيين سرا لا يمكن النفاذ إليه.

فما الذي قلب ازدواج المشاعر وجعل البشاعة تتغلب على قوة الجذب؟ هكذا تسأل صاحب كتاب الخبز والسيرك سوسيولوجيا تاريخية لتعددية سياسية للمؤلف Paul Veyne.

وأنا أشاهد الفيلم تيقنت من حقيقة السياسة بوصفها الزمن الذي لا يمرّ!: بمعنى أن الوجود السياسي للناس في المجتمع هو وجود شبه ثابت في بنية المجتمع الأساسية، مثله مثل بنية القرابة، وكل لحظة من لحظات التاريخ السياسي للمجتمعات تمثل الدرجة الصفر؛ وكل جيل يمسك بالخيط من أوله، ويردد في الوقت ذاته أنه يبتدع هيستيريات تحقيق الذات، والهلوسات الجماعية، والفصامات الطائفية، والهذيانات الدفاعية، والأخرى التفسيرية…
وكما أن المراهق يتعلم المضاجعة دون أن يعلِّمه إياها أحد، ولكن دون أن يمارسها أفضل مما مارسها جدوده، فإن كل حقبة اجتماعية تعاود اختراع السياسة، وكأنها لم تكن قط، هي هي، سياسة كل زمن، الإشكالية بصورة جوهرية.

يرى دوبريه أن هذه القرابة المزدوجة بين السلطان السياسي والميثولوجيا والشبق الجنسي نابعة بالتحديد من أن زمن الخرافة، وزمن غريزة الحب شريكان في البنية ذاتها، بنية التكرار. وهكذا نفهم الصلة الدائمة بين السياسة والدين والمجتمع بوصفها صلة راسخة الجذور في الكينونة الأولى للكائن الاجتماعي الديني السياسي بالطبع والتطبع !

هكذا يمكن القول إن علاقة الإنسان بالإنسان ظلت راسخة النسيج ثابتة النسق وكل ما طرأ عليها طوال ملايين السنين لا يعدو بأن يكون أكثر من ديكور اسمه الحضارة والتحضر تم اكتسابه اكتسابا بقوة السلطة والتربية والقانون وحينما تنهار السلطة والقانون في مكان من مجتمعات الإنسان يعود الناس إلى سجيتهم الحيوانية الطبيعية الأنانية الفطرية في حالة حرب الجميع ضد الجميع.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات