دكتور أكمل صفوت يفند ويرد على مقال “محنتنا مع خالد فهمي”

هتلر وبونابرته … كيف تنفي الحداثة في خطوتين…. بقلم: أكمل صفوت

في مقال “محنة خالد فهمي أم محنتنا مع خالد فهمي” لخص الصديق أشرف قنديل، رؤية خالد فهمي -كما فهمها هو- لوضع مصر قبل مشروع محمد علي الحداثي. ثم قام بنقد هذه الرؤية عن طريق عرضه لوثيقة يراها دالة وكاشفة لعكس ما يراه خالد فهمي.
سأشرح اختلافي مع رؤية أشرف لوجهة نظر خالد، ثم أتعرض لاختلافي مع فهمه لمعنى الوثيقة التي عرضها، وأضيف في نهاية ردي ملحوظة جانبية بها تعليقي.

بقلم/ أكمل صفوت

screenshot-2024-05-25-at-07.23.32 دكتور أكمل صفوت يفند ويرد على مقال "محنتنا مع خالد فهمي"

رؤية خالد فهمي كما يراها أشرف قنديل
يمهد أشرف لنقده بأن يقول إن خالد فهمي يرى أن “المجتمع المصري كان قد قطع شوطاً لا بأس منه في تأسيس لتجربته “الحداثية” الذاتية التي تراعي خصوصيته وسياقاته التي تختلف بالطبع عن سياقات التحديث الأوروبي”.
وهذا الجزء من التلخيص شديد العمومية وغير محدد، لا يشرح لنا “شوطا لا بأس به” بالقياس إلى ماذا (بمعنى هل يقيس الحراك بالنسبة لنفس المجتمع سابقا أم مقارنة بالغرب مثلا)، ولا يشرح في أي مجال تحديدا كان هذا “التطور الحداثي”. وبالتالي فتلك المقولة تشبه القول الشهير “له ما له وعليه ما عليه”… أي أنها لا تقول أي شيء وتنطبق على أي مجتمع في أي مكان، لأن حتى أكثر المجتمعات بدائية في أحراش الغابات الاستوائية ستكون بدرجة او بأخرى “قطعت شوطاً لا بأس منه في تأسيس لتجربتها “الحداثية” الذاتية التي تراعي خصوصيتها وسياقاتها التي تختلف بالطبع عن سياقات التحديث الأوربي”.

المشكلة إذن ليست هنا، بل في قوله:
“أن التدخل السلطوي التعسفي بفعل الحملة الفرنسية ثم بمشروع محمد علي، قد أجهض تلك التجربة “الحداثية” وقطع الطريق أمام اكتمال نموها وتحقيق النجاح الكامل لها، والتي يرى د. خالد أنها كانت ستكون أفضل بكثير ولربما كانت ستكون نموذجاً يحتذي به الآخرون، لجمعها بشكل متوازن بين كل ما هو مادي ومعنوي…”.

أنا أزعم أن أشرف قد اشتبك مع صورة نمطية اكليشيهية رسمها آخرين عن خالد فهمي شخصيا وعن أفكاره عموما، وليس مع أفكار خالد كما تبلورت في كتبه ومحاضراته.
فأنا لا أذكر أني قرأت في كتب فهمي أنه ساوى بين الحملة الفرنسية ومشروع محمد علي. ولا أنه قال إن مشروع محمد علي أجهض “تجربة حداثية كانت ستكون أفضل بكثير أو نموذجا يحتذي به الآخرون”، ناهيك عن أنها “تجمع بشكل متوازن بين كل ما هو مادي ومعنوي…”.

أنا أجزم أن خالد فهمي لم ينكر أبدا تحديث محمد علي أو أثره، نقد خالد كان عن التكلفة … عمن دفع ثمن التحديث. نقد خالد كان عن رؤيتنا لدوافع محمد علي وراء التحديث. نقد خالد كان عن رؤى استشراقية استعمارية متعالية وجاهلة لبعض ردود الأفعال المجتمعية الرافضة لمظاهر التحديث. نقد خالد كان عن دفاعنا حتى عن الجانب الاستعماري للحداثة، ودفاعنا عن الرؤية العنصرية لنا والتي آمنا بها وتبنيناها. نقد خالد كان لثنائيات الأبيض والأسود التي تصفنا بأننا إما كنا “على طريق الحداثة الخاصة بنا” ولا نحتاج لأحد أو “متخلفون خانعون” وغير قادرين على التحديث بدون صدمة الاتصال بالغرب. نفس النظرة التي تحاول حبس خالد فهمي نفسه في موقع من هذين الموقعين، وغير قادرة على فهم رؤيته المركبة الناقدة للتراث والحداثة على السواء.

وثيقة علماء الأزهر
للتدليل على أن مجتمعنا لم يكن على طريق الحداثة، يعرض أشرف لنا بيان كتبه علماء ومشايخ الأزهر سنة 1798م ضد ما نسميه الآن “ثورة القاهرة الأولى”. ويعتبر أن البيان المتزلف لبونابرت والمهادن للحملة دليل على مدى الحضيض الذي كنا عليه.

للرد على هذا الكلام، دعوني أقص عليكم مشهد من التاريخ الحديث.
في يوم 9 أبريل لعام 1940م، دخلت قوات ألمانيا النازية الأراضي الدانماركية، ولم يحتاج الأمر لأكثر من ساعات معدودة حتى تنهار كل مقاومة أمام القوات الغازية.
الحكومة الدانماركية بقيادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي قررت أن تتبنى سياسة “تعاون” مع الألمان وطلبت من المواطنين عدم المقاومة. في يوليو من نفس السنة صرح وزير الخارجية الدانماركي أن “الانتصارات الألمانية العظيمة أصابت العالم بالمفاجأة والإعجاب، وأنه قد بزغ فجر عصر جديد بالنسبة لأوروبا سيتطلب إعادة تنظيم سياسي واقتصادي تحت القيادة الألمانية…” وفي نهاية البيان يقول إن “الشعب الدانماركي على ثقة أنه سيكون قادرا على الاحتفاظ باستقلاله في النظام الأوروبي الجديد، ويأمل في إيجاد فهم لخصوصيته وتطوره السياسي والاجتماعي”.
بعدها مباشرة ستصدر الحكومة قرارات بتجريم المقاومة ضد الاحتلال، وستقبض على المتورطين فيها وتحاكمهم بتهمة “التخريب”.

بعد نهاية الحرب برر السياسيون الدانماركيون سياسة التعاون بأن:
1- المقاومة العسكرية كانت معركة خاسرة وقتها.
2- مسؤوليتهم هي حفظ البلاد من التدمير، والحفاظ على الأرواح من الضياع.
3- التعاون سيحقق درجة من الاستقلال تضمن الحفاظ على هوية البلاد الثقافية.

في الحقيقة أنا لا أرى أي فرق بين موقف علماء الأزهر وقت الحملة الفرنسية، وموقف حكومة الدانمارك أثناء الحرب العالمية الثانية.
في الحالتين واجه المسؤولون عن البلد غزو عسكري لا قبل لهم به، واختاروا المهادنة ومدح الغزاة في محاولة لحماية أرواح وممتلكات الشعب. في الحالتين حاولت “السلطة” أن تحافظ على خصوصية المكان والشعب، وفي الحالتين تم.
وصف المقاومين بأنهم مخربون أو مفسدون في الأرض. اللغة والتشبيهات والإحالات الثقافية مختلفة لكن المعنى واحد والموقف متطابق.

من الممكن أن تتفق او تختلف مع ذلك الاختيار ومدى صوابه أو أخلاقيته سواء في مصر أو الدانمارك، لكن ربط هذا الاختيار “السياسي” بدرجة “الحداثة” أو اتخاذه دليل دامغ على “ما وصلت إليه البلاد من حضيض” فهي رؤية مقحمة ومتعسفة ولا تاريخية وممكن وصفها بأنها “تتأسس لحد كبير فيما أرى على قناعة مسبقة لديه يحاول جاهداً إيصالها للقراء …” نفس التهمة التي حاول أشرف إلصاقها بخالد فهمي.

وهذا يقودني في النهاية إلى تعليقي الأخير وهو خاص بتعليق أشرف أن النتائج التي يعرضها خالد فهمي “تتأسس على قناعة مسبقة”.
هذا النوع من الأحكام القيمية على النيات لا يمكن مناقشته، لأنه لا يمكن نفيه أو إثباته، ولا يجب -من حيث المبدأ- استخدامه في مقال يدعي النقد الموضوعي.

نفس الشيء في تعليق أشرف على ما يراه “مفارقة عجيبة” وهي أن “الحداثة التي دأب د. خالد فهمي على انتقادها ونقد قيمها، بل ويضن بها علينا ويزهدنا فيها هي التي حمته سابقاً وتحميه الآن -في الغرب “الحداثي”- من التعرض لما تعرض له أصحاب الفكر المختلف عن السائد من امتحانات ومحن تطفح بها كتب التراث طوال تاريخنا، فلا أعتقد أن الرجل معني كثيراً أو قليلاً بما يُقال عن جدل قد أُثير مؤخراً حول أفكاره أو حتى الهجوم عليه…”.

هذا الكلام بالإضافة لكونه اتهام للرجل بالمعايير المزدوجة واللامبالاة لما يجري في مصر، فهو يكشف عن فهم قاصر -جدا في الحقيقة- “للحداثة” نفسها، لأن الفاشية والنازية والعنصرية والعبودية كلها أفكار ازدهرت وتمأسست (وبعضها ظهر) مع الحداثة ونشهد حاليا إعادة إحياء لأجنحتها النازية والفاشية بأسلوب “ديموقراطي” في الغرب.

النظرة للحداثة باعتبارها كلها خير ولا تحتوي إلا على العدل والمساواة والديموقراطية وحقوق الإنسان، فكرة خاطئة مفاهيميا وتاريخيا. وخالد فهمي لم ينتقد إلا الجوانب السلطوية في الحداثة، بل وفي التراث كذلك (اشتباكه مع أفكار الغزالي في باب الحسبة في كتاب السعي للعدالة مجرد نموذج)، واتسقت أفكاره ومواقفه السياسية مع رأيه الأكاديمي فانحاز دائما للقيم الديموقراطية ولحرية التعبير وعارض (ويعارض) كل أشكال القهر والقمع سواء ضد المعارضين السياسيين، أو المهمشين اجتماعيا، أو الأقليات، أو المختلفين جندريا. وهو انحياز له ثمن لا يحميه من دفعه كونه يعيش في الغرب.

تلك الملحوظة ليست فقط دفاعا عن خالد فهمي، لكن سببها أن مقالة أشرف قنديل لم تكن لتخسر شيء من محتواها الفكري لو كانت تعففت عن تناول الشخص بما نظنه فيه من صفات، واكتفت بنقد الأفكار، لكن يبدو أن هذا النوع من “النقد” بحسب قول أشرف نفسه … جزء من محنتنا …

محنة خالد فهمي أم محنتنا مع خالد فهمي؟!… بقلم: أشرف قنديل

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

4 comments

اترك رد

ندوات