دلالة احتفال تفكير بعيد ميلاد عبد الجواد ياسين السبعين.. بقلم: د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
أستاذ فلسفة التاريخ (اليمن)

احتفلنا الثلاثاء مع المستشار عبدالجواد ياسين بالذكرى السبعين لتاريخ ميلاده الميمون في 17 سبتمبر 2024م. كان المستشار ياسين منور الدنيا مع عائلته الكريمة بالقاهرة ونحنا نشاركه تلك اللحظة السعيدة عبر الفضاء الافتراضي من كل جهات العالم الأربعة؛ بعضنا يطل من شيكاغو من أمستردام والبعض من الإسكندرية وباريس ونيويورك وأوتاوا ومن بروكسل والجزائر ومن الرباط وبغداد ومن تونس وبيروت ومن برلين ولندن وغير ذلك من المدن والبلدان الموهولة بال Wi-Fi.
بعد اكتمال الندوة التاسعة من موسم ندوات احتفالية سبعينية المفكر العربي، عبدالجواد ياسين. قدمها الأستاذ جمال عمر، عميد صالون وأكاديمية تفكير وصاحب فكرة الاحتفالية ومعد برنامجها.

محاضرة البارحة عن أنثربولوجيا اللاهوت في فكر عبدالجواد ياسين، قدمها، الباحث المصري الشاب، محمد صلاح. على مدى ساعتين ونصف احتدم النقاش الراقي بشأن موضوع الندوة
وفي التاسعة والنصف اعلن جمال بن عمر لحظة اطفاء الشمع السبعين في حياة استاذنا العزيز، أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية.
كان مشهدا بهيجا قلما شهدنا نظيرا له في حياتنا. إذ لأول مرة في حياتي أشعر بأن للحياة قيمة والزمن معنى. كنت اتابع المشهد الاحتفالي الحاني من غرفتي في فندق Fletcher Hotels الواقعة في ضيعة هولندية ظليلة بمقاطعة Losser على الحدود الإلمانية بينما الاستاذة نتاشا العبادي من القاهرة تردد بصوتها الرخيم باللهجة المصرية الآسرة ( سنة حلوة ياجميل.

Happy Birthday To You
إنزل يا جميل ع الساحة
واتمختر كده بالراحة
رددنا معها وشاركنا الاستاذ باحتفالية عيد ميلاده
بكلمات التهاني والتبريكات (عيد ميلاد سعيد وعمر مديد وصحة حديد ومستقبل مجيد ومن العطاء والإبداع المزيد استاذنا العزيز).
فما الذي تعنيه لحظة الذكرى السبعين لعيد ميلاد الاستاذ عبدالجواد التي مرت البارحة بفرح وابتهاج؟ ونحن على وشك الولوج بالعام هل تذكرنا فقط بالماضي أم تمنحنا تأمل المستقبل بعيون جديدة؟
انها تعني أن الماضي تم وانقضى وصار ذكرى والحاضر يمر الآن مرور الكرام والمستقبل هو الذي يتحدنا هنا والآن. وربما كانت رسالة المستشار الخفية من الاحتفالية الفضائية بعيد ميلاده السبعين تتسق مع رؤيته الفلسفية للحياة والتاريخ والدين والعقل والحرية إذ أكد في كل ما كتبه أن التجديد والتغيير والتطور والتقدم والنمو والارتقاء خاصية جوهرية من خصائص الحياة والتاريخ والزمان والمكان.
ففي عالم ما تحت فلك القمر، عالم الأرض والإنسان والحاس والمحسوس والفعل والانفعال لاشئ يدوم على حال من الأحوال، فكل شيء في حركة وتحول وتبدل ونمو وتجدد باستمرار وهذه سنة من سنن الله في الكون وقانون من قوانين الحياة والتاريخ. فالنمو والتطور والتعدد هو جوهر الحياة وفحوى التاريخ وكل الكائنات الحية تنمو وتنضج وتكبر وتشيخ وتموت وتعود من جديد وتتبدل من حال إلى حال ولا يستطيع المرء أن يستحم بمياه النهر مرتين!

التغير جوهر التاريخ بوصفه زمانًا يمضي في ثلاثة أبعاد هي الماضي والحاضر والمستقبل، في كل آن من الأوان فما كان قد ذهب إلى الأبد ويستحيل إعادتها والمستقبل هو ما لم يوجد بعد، والحاضر فقط هو الذي نعيشه هنا والآن حياة فورية مباشرة ولكنها سيالة ولا يمكن إيقافها، وبقدر ما نعيشها في كامل امتلاءها يكون لها معنى أما إذا تركناها تمر بالعجز والكسل والخذلان فلا يمكنها أن تنجب الثمار في قادم الأيام وهذا هو معنى التاريخ كله معاصر عند المستشار عبدالجواد ياسين أنه حاضرًا مستمرًا يشكلنا ونشكله في حدود الممكنات المعطاه لنا سلفًا من الماضي، وتلك الممكنات أما أن تكبلنا بثقلها التاريخي أو تحفزنا وتمدنا بالطاقة والدافعية لتجاوزها باتجاه المستقبل.
والتاريخ لا يعود أبدًا مرتين! إذ هو صيرورة مستمرة في الزمان والمكان فأمس غير اليوم وغدًا غير الأمس، وحوادث الزمان والناس هي جديدة وفريدة ونوعية في كل عصر واوان. ونحن نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك بالماء وليس بمقدورنا الخروج منه أو مغالطة استحقاقاته الفورية المباشرة فأما أن نستجيب إلى تحدياتها ونتدبر أمرنا في كيفية تجاوزها وأما سحقتنا بعجلاتها وتجاوزتنا. ولا شيء يأتي إلى التاريخ من خارجه ولا شيء يخرج منه. التاريخ هو التاريخ يمضي إلى سبيله من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وليس بمقدور أحد إيقافه. أنه الذي يكسر رؤوس البشر ولا يتكسر رأسه أبدًا.
فهل أدركنا ماذا يعني العيش في التاريخ وكيف يمكن تدبير حياتنا فيه ولا خيارات بديلة من ذلك. وتكريم الأسلاف لا يعني النوح على شواهد قبورهم ولا التوقف عند زمانهم ولا الاحتفاظ برماد قبورهم بل يعني ويجب أن يكون استئنافًا جديدا للفعل التاريخي بما يجعل الشمعة التي اوقدوها ذات يوم متوهجة باستمرار وكل جيل من الأجيال معني بتدبير العيش في حاضره هو لا ماضي اسلافه ومواجهة تحديات حاضره هو في ظل المعطيات والشروط والممكنات المتاحة في اللحظة الراهنة والمستقبل هو أمام الناس لا ورائهم.
في معنى الاحتفال بعيد ميلاد المستشار ودلالته؟
بالنسبة لي وبعد قراءة معمقه في مشروع المستشار والاستماع إلى الكثير من محاضراته ومقابلاته في اليوتيوب فهمت فحوى رسالته للأجيال الجديدة وربما كنت أنا منهم على النحو التالي:
الزمن يمضي ومن غير الجائز اضاعته وما لم ننجزه اليوم يصعب اللحاق به غدا. الله سبحانه وتعالى منحنا تلك الفرصة الثمينة التي اسمها الحياة في التاريخ فكن إيجابيا مع الحياة التي منحت لك مرة واحدة فقط ولن تتجدد ضربتها أبدا، بمعنى أن على الكائن العاقل الحي إغتنام فرصة الوجود والحضور هنا والآن، إذ طالما وأنت هنا تتكلم وترى النور واللون والظلال وتستنشق الهواء وتشرب الماء وتأكل الكلأ وتنام وتصحى وتفرح وتحزن وقلبك ينبض بالحياة، فلا عذر لك من معاودة المحاولة؛ محاولة أن تكون كما تحب أن تكون!
وليس هناك من سعادة تعادل سعادة الشعور بالإنجاز حينما يتحقق في حياة صاحبه كما هو حال سعادة المستشار الذي يحق له أن يردد مبتهجا عبارة (اليوم لي) طالما هو يعيش معنا وكلمة السر هذه لا تعنيه وحده بل تعنينا كلنا فالضمير المفرد الحاضر (أنا) تعني (أنت) بوصفنا إنسانا ننتمي الى النوع الآدمي ذاته ونعيش في كون واحد وفِي ذات الكوكب الأرضي ويجمعنا تاريخ الحضارة البشرية المشترك تحت فلك الشمس والقمر ونستنشق الأكسجين ذاته ونستخدم التقنيات ذاتها ونعيش بكل ممكنات وتفاصيل اللحظة التاريخية الراهنة في تدفقها الفوري الحي المباشر الذي نتكلم ونعمل ونفكر ونتواصل ونتبادل الرسائل والاشياء والأفكار والمعلومات وكل شيء يتصل بحياتنا التي نعيشها هنا والآن.
وذلك هو معنى الحياة بلا مزايا كما يسمِّيها عالم الاجتماع الفرنسي جلبر دوران بـ «الجو الخانق” أنها الحياة التي نمنحها تسعة أعشار وقتنا، الذي نعيشه في عالمنا الواقعي المعيشي الحي الفوري، بلا ماض ولا مستقبل، عالم اللحظة الحاضرة الراهنة المباشرة، عالم الحياة، وتدفقها بـ ملموسيتها وكليتها، أي الحياة اليومية البسيطة المملوءة بالانشغالات الروتينية، والمتطلبات المعيشية الملحَّة الصغيرة، والروتينية، التي تستغرق الكائن الاجتماعي الساعي إلى إشباع حاجاته بمختلف الوسائل والسبل والحيل، والتقنيات، والعادات والتقاليد، والأساليب والصراعات، والرهانات والتفاعلات، والنجاحات والإخفاقات، والمكاسب.
وكل أنماط العلاقات والممارسات اليومية، التي ننهمك فيها وتشكِّل فعلاً عصب الجسد الاجتماعي برمَّته، أي الحياة بلا مزايا! نعم، من لغز الزمان والحياة والموت يمكن لنا فهم معنى ظاهرة الاحتفالات بتعاقب الأيام والاعوام عند الأفراد والشعوب بمختلف ثقافاتها وعقائدها. فالأحياء هم الذين يحتفلون بحياتهم أما الأموات فلا يحتفلون ابدا ولا توجد جماعة بشرية على هذا الكوكب لا تحتفل بتعاقب السنين والأيام بغض النظر عن نوع ذلك الاحتفال بالولادة والزواج والحصاد وتعاقب الأيام والأحداث التاريخية والحروب والانتصارات والثورات وغيرها.
إذ تعد الاحتفالات من الظواهر الاجتماعية التي رافقت حياة الإنسان منذ ما قبل التاريخ، بوصفها انزياحا سوسيولوجيا وسيكولوجيا عن السياق الاجتماعي الروتيني للحياة اليومية للشعوب والأفراد؛ انزياح يتم التعبير عنه بتنويعات شتى من الأفعال والتفاعلات والعلاقات والممارسات والقيم والرموز.
فكل جماعة أو تجمع أو شعب من شعوب الأرض يمارس الاحتفال بوصفه تأكيدا للوجود والحضور وتعبيرا عن الفرح والسعادة بالحياة وإنجازاتها وتجديدا للطاقة وتحفيزا للأمل بالمستقبل وحينما يبخل الحاضر الفوري المباشر عن إشباع حاجات الناس الحيوية الوجودية الملحة يضطرون لتذكر الماضي لعلهم يجدوا فيه ما يسندهم في حاضرهم البأس وهكذا يتحول التاريخ في أزمنة الانكسارات والهزائم إلى كونه أكثر من ذكرى بل يكتسب معاني ميتافيزيقية أخرى. والمعنى؛ نحن هنا ولنا تارخنا الذي نفتخر به على علاته وطلما وقد أدركنا أن التاريخ هو الذي يشكلنا وأنه ينبغي علينا فهمه كما يقول الأستاذ عبدالجواد ياسين في مشروعه النهضوي.
إذ أكد إن التاريخ الاجتماعي والسياسي للشعوب الراكدة يشبه المعدة الحية التي تتراكم فيها أحداث الماضية ومخلفاته في طبقات رسوبية مُوحلة وتنشر سمومها في مختلف مجلات حياتها الحاضرة ومجاريها.
فالتاريخ الذي لم يمضغ جيدا ويهضم جيدا ولم يفلتر ماضيه ويقتل بالبحث والدراسة والنقد والتطهير والتجديد والتغيير والتجاوز المستمر هو أخطر السموم التي تكبل حركة الشعوب وتعيق تقدمها لاسيما إذا كانت تقدسه.
والتاريخ هو ما حدث في ما مضى وتم وانقضى ويستحيل استرجاعه ولا شيء يخرج من داخله ولا شيء يأتي اليه من خارجه. إذ هو دائما فاعلية الأحياء الناس الساعيين لتدبير حاضرهم وتجاوز ماضيهم وحينما يكون الحاضر مشبعا بالحيوية والنشاط والفعل والفاعلية والفرح والإنجاز ينسى الناس الماضي بكل عجره ولم يعد يخطر على بالهم ابدا إذ يكون حاضرهم الزاخر بالحياة المفعمة بالانجاز والسعادة ومستقبلهم الواعد بالتجاوز الخلاق هو الذي يشد إهتمامهم.
أما إذ عجز حاضرهم الفوري المباشر عن إشباع لحظتهم المعاشة وجعلها جديرة بالحياة والحلم والأمل فالماضي هو الذي يعاود الحضور باستمرار بوصفه بديلا استيهاميا تبريريا لا يغني ولا يشبع من جوع. أننا نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك في الماء وليس بمقدورنا الخروج منه أو مغالطة استحقاقاته الفورية المباشرة فأما أن نستجيب إلى تحدياته ونتدّبر أمرنا في حاضره تجاوزه وأما سحقنا بعجلاته وتجاوزنا بقطاره الدائم الحركة.
والتاريخ بهذا المعنى هو أخطر كيمياء اخترعها العقل الجمعي إذ يسكر الجموع ويشل حركة العقل الفعال فيما يمنحه من أوهام مخدرة عن ذاته وما كانت في الماضي وبطولاته التي يستحيل استرجاعها الا بالأوهام القاتلة والفكرة الميتة الآتية من خارج الحياة تعجز عن أنجاب حتى فكرة موتها!
فما الذي يجعل الإنسان في أي زمان ومكان يعاود الحنين إلى الماضي الجميل؛ أنه ببساطة بؤس الحاضر وأنسداد أفق المستقبل. ومن السذاجة الطفولية الاعتقاد بأن رغبة الناس في استعادة ماضيهم هي حالة فطرية طبيعية وربما يعود سبب ذلك الاعتقاد الزائف في الثقافة العربية الإسلامية إلى العجز الطويل عن إنجاب حالة حضارية حديثة وجديدة تجعلهم ينسون ماضيهم وينهمكون في صناعة حاضرهم ويتطلعون ويخططون إلى بناء مستقبلهم الأفضل باستمرار فالمستقبل لا الماضي هو الجدير بالأهمية والقيمة والاعتبار في نظر وحياة كل الأجيال في كل زمان ومكان، وهذا أمر مرهون بالتاريخ وممكناته وليس بالإنسان ورغباته.
صحيح القول: أن الناس يصنعون تاريخهم بانفسهم ولكنهم لا يصنعونه على هواهم بل في ظل الشروط التاريخية المعطاه لهم سلفا من ماضيهم فالاموات يتشبثون برقاب الأحياء. والتاريخ دائما وابدا هو أمام الناس لا خلفهم.
ولسنا في نهاية التاريخ ولا في أوله بل في خضمه وهذا هو ما يبعث فينا الأمل والسلوى والإحساس بالجدوى في الانشغال مع سعادة المستشار في مشروعه الفكري الجدير بالقيمة والأهمية والأعتبار.
.. يتبع
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد