دوائر خوف نصر أبوزيد … بقلم: عمرو عبد الرحمن
قضية المرأة هي جزء من أزمة العالم العربي الإسلامي، أزمة التحديث والحداثة، حيث اكتفى الحُكام بالتحديث من خلال إجراءات عملية ذات طابع سياسي اجتماعي تفرضها ضرورات نفعية حياتية، بينما غابت عملية التأسيس المعرفي في برنامج ثقافة ما لتنتقل إلى الوعي.
بقلم: عمرو عبد الرحمن

في كتابه دوائر الخوف يقدم نصر حامد أبو زيد قراءة في خطاب المرأة بداية من النظر لحواء وانتهاء بوضع المرأة وقت نشر الكتاب عام ٢٠٠٤. الخوف هنا هو الخوف من البعد عن التراث. الخوف من الغرب الاستعماري المنافق. الخوف من نظرة الرجل العربي لنفسه كإنسان مهزوم قرر أن يعتبر المرأة خصماً وقرر عدم السماح لها بأن تنتصر عليه واختلق لذلك التبريرات من طبيعة بيولوجية وفطرة وتراث ديني وحماية لها من ذلك العالم المتوحش، الذي لن يرى فيها سوى أنثى.
يرى نصر حامد أبو زيد أن الخطاب العربي حول المرأة هو خطاب طائفي عنصري، يفترض أن الرجل هو مركز الحركة بفعل قدر ما لا هروب منه، وفاعلية المرأة هامشية، لا قيمة لها إلا من خلال فاعلية الرجل.
ولهذا الخطاب جذوره في اللغة العربية، كإلحاق الأسماء المؤنثة بالأعجمية في المنع من الصرف، أو مخاطبة مجموعة من النساء بالجمع المذكر فقط إذا تواجد معهم ذكر واحد. ربما يكون هذا موجود في معظم اللغات، لكن هناك لغات اتجهت لاستخدام مصطلحات أقل تمييزًا، أو التبادل في استخدام ضمائر المذكر والمؤنث.
يشير نصر حامد أبو زيد إلى التأثير المتبادل بين تطور وعي الجماعة واللغة، فكلاهما معبر عن الآخر. تاريخ اللغة يعبر عن وعي مميز، تجلى في خطاب القرآن للمرأة بشكل منفصل بعد أن كان خطابها يكون عن طريق الرجال.
ويؤكد نصر أن تقييم وضع المرأة في الخطاب القرآني يجب أن يكون وفقًا لوضع المرأة في المجتمع قبل النزول، وليس طبقاً لتمنياتنا لوضع المرأة في المطلق.
إن وضع المرأة دائماً محور صراع بين الوعي القرآني الجديد والوعي التقليدي. اختلف وضع المرأة من قطر إسلامي إلى قطر آخر، ما يجعل المكانة التي احتلتها المرأة في الأندلس جديرة بالتأمل. فقد كانت قادرة على فرض شروطها على عقد الزواج دون أن يعتبر الفقهاء أن ذلك يتعارض مع القوامة، التي صارت مبدأ أساسي يرتقي إلى مرتبة العقيدة في العصور المتأخرة.

كان للأسطورة التي نجدها في كتب التفسير وقد تسربت من الإسرائيليات أثر بالغ في رسم صورة للمرأة ظلت خالدة في أذهان أجيال من الناس، ويستخدمها الرجال لوصم المرأة فقط لمجرد كونها امرأة.
فالمرأة مخلوقة من ضلع آدم، بدونه لم تكن. بدونه لا قيمة لها. هي من أغوته ليأكل من الشجرة ما أدى لخروج آدم من الجنة ولعنة الجنس البشري كله بالحياة على الأرض.
فأصبحت المرأة مصدر الغواية وأصل الشرور وسبب اللعنات. خطاب لا نجده في القرآن الذي ساوى بين آدم وحواء في الذنب والجزاء، لكن الذكر وجد في خطاب التوراة التعليل الذي يحتاجه لتكون الجانية، وتستحق ما لحق بها من عقوبات دائمة كالحيض ومشاق الحمل، وكونها ناقصة عقل ودين.
لاحقاً بعد هزيمة ١٩٦٧ نتج خطاب مأزوم يرهب المرأة، ويحرمها من حقوقها، لأنها ليست كاملة بذاتها، هي تابعة لرجل طوال الوقت.
فها هو مصطفى محمود ينكر خروج المرأة للعمل طالما ليست في وضع اقتصادي صعب، ويصف تحقيق المرأة لذاتها ب”الصرمحة”.
وها هو محمد عمارة بعد التغني بسبق الإسلام في منح المرأة حقوقها، يعتبر أن طاعتها للرجل أهم واجباتها، وبدونها تكون عُرضة لخسارة كل ما لها من حقوق.
لطالما كانت النظرة لعمل المرأة تدور حول كونها منافسة للرجل، الرجل الذي هو الأصل، لذا ما كان لحواء أن تخرج، وإذا خرجت فعليها الرجوع إلى موقعها، ضلع الرجل الذي خلقها الله منه.
يُرجع نصر حامد أبو زيد المشكلة إلى الصراع بين خطاب النهضة وخطاب طائفي برز كرد فعل على الهزيمة مستدعياً تراث يحافظ له على كرامته، بحيث يعزله عن محيطه المحلي والعالمي، فيرفض قيّم الحرية التي ارتفعت أسهمها نتيجة التقدم والمدنية، وينتج خطاب يحاول الحفاظ على وضع المرأة في المجتمع متدنياً.
وعبر سلسلة تمتد من محمد عبده إلى قاسم أمين ثم الطاهر الحداد، نرى تطور خطاب النهضة متحفزاً لإعطاء المرأة حريتها ككيان مستقل، وفصل تبعيتها التراثية عن الرجل.
ليفتح ذلك آفاق جديدة مع الطاهر الحداد تبلورت في قراءة النص في ضوء سياقه الاجتماعي التاريخي، وفصل الثابت عن المتغير فيه، والبحث عن مقاصد جديدة للنص، أكثر اتساقاً مع اللحظة التاريخية الجديدة مما حددها الفقه الأصولي من حفاظ على النفس والمال والعرض…
ساد الاعتقاد بأن الإسلام عقيدة وشريعة، وفي النصف الثاني من القرن العشرين أدى الاعتقاد بوجود شريعة أفضل من كل القوانين وأكثر رقياً منها لاضطراب المفاهيم. صار الاعتقاد بذلك جزء من العقيدة لا يكتمل الإيمان إلا به.
صارت المطالبة بتطبيق الشريعة مطلبًا مُلحا، هدفه في الأساس سياسي طائفي، فلم يعد الإسلام/العقيدة كافياً، وصارت الشريعة/القوانين الفقهية مكوناً جوهرياً من مكونات الإيمان الديني. والحقيقة أن منشأ هذا الاعتقاد هو الربط بين مفهوم الخلافة السياسي وبين الدين.
إن الشريعة في القرآن هي الدين، المنهج الذي وضعه الدين للمؤمنين به، منهج أوسع من أحكام تقبل التطور والنسخ وبالتالي لا يمكن وضعها على نفس مستوى البناء الذي لا يجوز فيه النسخ والتغيير.
وحين يصبح الفقه شريعة واجبة التطبيق، يصبح دارس الفقه هو المرجعية في كل تفاصيل الحياة، من مشكلات الحيض للديموقراطية وحقوق الإنسان والعولمة ونظرية التطور. يصبح المفتي مرجعاً في كل العلوم والفنون وكل تفصيلة من تفاصيل الحياة اليومية.
طالما أن في الشريعة حل لكل المشكلات، سنظل أسرى التأويل والتأويل المضاد.
إن المخرج من مأزق التأويل والتأويل المضاد هو منهج القراءة السياقية، آخذين في الاعتبار السياق الكلي الاجتماعي التاريخي لعصر ما قبل الوحي، واعتبارات مثل ترتيب النزول والتفريق بين التشريع والوصف أو التهديد أو المساجلة، والتركيب اللغوي بشكل أعمق من مستوى التركيب النحوي.
أما بالنسبة للنص التأسيسي الثاني أي السنة، فيجب الجمع بين نقد المتن إلى جانب السند، والتفريق بين كلام الرسول الذي يجب اتباعه بوصفه رسولاً، وكلامه الذي يؤخذ منه ويرد بوصفه بشرًا.
ما يريده نصر حامد أبو زيد هو إعادة زرع النص في سياقه التاريخي الذي فارقه منذ أربعة عشر عامًا لاستعادة المعنى الأصلي للنص.
ومن تتبع النصوص القرآنية فيما يتعلق بالمرأة نصل إلى:
1- أن المساواة بين الرجل والمرأة هي مقصد رئيسي من مقاصد الخطاب. فحواء لم تخُلق من ضلع آدم، ولم تقم بغوايته، بل هو وهي سواء في الخطأ والعقاب.
2- مسألة قوامة الرجل على المرأة تندرج في سياق الوصف القرآني، مراعاة لأحوال المخاطبين بالوحي القرآني. فالقوامة لا تستند لتفضيل إلهي مطلق لجنس الرجال على جنس النساء، إنما الأمر يقع في نطاق التفاوت الاجتماعي، الذي تحكمه قوانين الحراك الاجتماعي القابلة للتغيير بحكم دفع الناس بعضهم بعضًا.
3- قضايا الزواج والطلاق وتعدد الزوجات هي من القضايا الاجتماعية التي يجب التعاطي معها اجتماعيًا من مبدأ المساواة الذي أقره النص، ومبدأ المودة والرحمة والسكن لا مبدأ التملك بغاية المتعة.
4- في قضية المواريث كان الهدف تحديد حد أدنى لميراث المرأة، مقارنة بما سبق حيث لم تكن ترث. وتحديد حد أقصى للرجل مقارنة بما سبق حيث كان يرث كل شئ. ويشير أبو زيد إلى النص القرآني (للذكر مثل حظ الأنثيين) لا على أنه تحديد لقيمة المرأة بنصف رجل، بل لتكون المرأة هي المعيار ونصيب الرجل يُنسب إليها بعد أن كانت خارج الحسبة كليًا في مجتمع يرفض توريث من لا يقوى على الحرب من النساء والأطفال. وبتغير الوضع الاجتماعي يمكن أن يتساوى الحد الأدنى للمرأة بالحد الأقصى للرجل.
قضية المرأة هي جزء من أزمة العالم العربي الإسلامي، أزمة التحديث والحداثة، حيث اكتفى الحُكام بالتحديث من خلال إجراءات عملية ذات طابع سياسي اجتماعي تفرضها ضرورات نفعية حياتية، بينما غابت عملية التأسيس المعرفي في برنامج ثقافة ما لتنتقل إلى الوعي.
وهنا المسئولية لها جانبان؛ الأول على الشرق حيث واجه واقعًا مأزومًا، وجد بعض الناس الخلاص منه في العودة للتراث باعتباره الحل الوحيد، فواجهوا الحداثة بالتقليد.
والثاني على الغرب بداية من الاستعمار ثم إنشاء إسرائيل كوطن قومي لليهود بما ينطوي عليه ذلك من تناقض بين القومية واليهود وانتماءاتهم التاريخية والثقافية والعرقية المختلفة.
الأمر الذي أدى إلى تشويه الحداثة في الوعي العربي والإسلامي.
يرى نصر حامد أبو زيد أن فهم الواقع الذي جاء فيه الإسلام مهم لفهم كيفية تطوره. فالجاهلية كانت تعتمد على القبلية، نظام اجتماعي بالغ الضراوة في إخضاع الفرد لأعراف القبيلة.
والأداة الأفضل للفهم هي التمييز بين الإسلام والتراث الديني. فقد جاء الإسلام مؤسسًا للحرية والفردانية، عن طريق القضاء على أدوات التحكم في الإنسان من عصبية وقبلية، فكل إنسان يأتي ربه يوم القيامة فردًا.
لكن ما لبث المسلمون أن عادوا إلى أدوات الجاهلية، بداية من سقيفة بني ساعدة ثم اغتيال الخلفاء والخروج على علي بن أبي طالب انتهاءً بالدولة الأموية ثم العباسية في ردة تامة لدولة القبيلة، فاستغلت قبائل أخرى عصور التفتت للانتصار لنفسها.
وكان من الطبيعي في عصر القبيلة ازدهار ثقافة الطاعة والجماعة والتقليد على حساب الرأي والفردية والاجتهاد.
لم يختلف الأمر كثيرًا في عصر التحديث، فنتيجة لعدة عوامل منها الاستعمار ومن بعده الكيان المحتل وفشل النخبة في إحداث تغيير للوعي، استمرت الحاجة لوجود الجماعة وتقسيم العالم إلى فسطاطين لمواجهة الاستعمار وبالتالي الغرب، فلجأ حتى القوميون للتراث في مواجهة الغرب الاستعماري؛ لأن تبني الحداثة على أساس التراث الإنساني للغرب يهدد بفقدان الوحدة والتشكيك في نواياهم. ما أدى إلى تجميد الصراعات الداخلية وأي محاولة لتغيير حقيقي في بنية السلطة للحاجة إلى الاصطفاف في مواجهة عدو دائم.
وفي عالم جديد أحادي القطب، أدى التحالف بين حكومات العشائر والقبائل وأمريكا إلى مزيد من الديكتاتورية استنادًا إلى الخطر الأصولي الذي يهدد المجتمع، ووافقت النخب على القيود التي تم وضعها لممارسة الحريات وتأسيس الديمقراطية خشية على مجتمع مدني وهمي لا يوجد إلا في خيال تلك النخب.
تحالف الجميع على استبعاد الديموقراطية، أي على استبعاد المواطن -رجلًا كان أو امرأة- من المشاركة في الحياة العامة، ما أدى لممارسة الرجل المقموع لسلطته على المرأة باسم العادات والتقاليد والتراث.
في الأخير يشتبك نصر حامد أبو زيد مع نموذج لقوانين الأحوال الشخصية وهو النموذج التونسي -وقت كتابة مقالات الكتاب- ويحلله بين علمانية مفترضة وجذور للتراث الإسلامي قد تكون متواجدة. في النموذج التونسي عدة تغيرات ملحوظة منها منع تعدد الزوجات، والإقرار بأن الزوج عليه الإنفاق على الزوجة لكن الزوجة تساهم في الإنفاق على العائلة إذا كانت تعمل، وأن الطلاق لا يقع إلا أمام محكمة بطلب من أحد الزوجين أو بالاتفاق بينهما وطالب الطلاق يقوم بتعويض الطرف الآخر، وجواز امتناع الحاضنة عن الحضانة وعدم إجبارها عليها إلا إذا لم يوجد غيرها.
لا يمكن الجزم هل استند المشرع التونسي لأي آراء فقهية في هذه المواد أم أن الدافع علماني بحت. لكن هل يعد منع التعدد تحريماً لما أحله الله؟
قراءة متعمقة لنص التعدد في القرآن تجعل الإجابة هي لا.
المحور الأول في هذه القراءة هو غياب “ما ملكت أيمانكم”، غياب فرضه التطور الإنساني، ولا يكاد العقل السلفي يراه. وربما إذا رآه لأمكنه فهم أن تتم معاملة التعدد بالمثل انطلاقًا من تاريخية النصوص الواضحة.
المحور الثاني هو أن تحديد العدد بأربعة هو خطوة في سبيل تقييد ما لم يكن مقيدًا في سياقه التاريخي.
المحور الثالث هو التركيب اللغوي للنص، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، ولن تعدلوا، ولو حرصتم. تركيبة تدل على تقييد أقرب منه للمنع لا للإباحة، أو ربما لإباحة المنع في سياق اجتماعي أكثر ملاءمة، لتحقيق العدل والذي هو مبدأ عام مُقدم على القواعد والأحكام الخاصة.
بالنسبة للطلاق عند المحكمة فمن المفترض أن الوضع أسهل -وإن كان الأمر لا يبدو كذلك مع ما رأيناه من رفض الأزهر للفكرة- فما الذي يمنع مثلما انتقل الزواج من الشفاهية إلى التوثيق، أن يتم الأمر مع الطلاق؟ إن ذلك أولى لحماية الأسرة.
وجعل حق الطلاق للمرأة كما هو للرجل، يرتقي بالعلاقة الزوجية إلى علاقة قائمة على التكافؤ لا الطاعة.
إن حل الإشكاليات المتعلقة بالمرأة سواء فيما يخص الأحوال الشخصية أو المواريث أو الحجاب لن يكون بالتأويل والتأويل المضاد، ولكن بفهم النصوص في سياقها الاجتماعي والتاريخي انطلاقًا من المبادئ العامة فيها كالحرية والعدل والمساواة.
وكل تشريعات في اتجاه تحقيق حقوق الإنسان هي خطوة على الطريق الصحيح، الطريق الذي يهدف لغايات الديموقراطية وحقوق الإنسان، ولن نصل إليها إلا بعلمانية لا تحاكم الفكر ولا تسعى للحلول الجاهزة سواء كان مصدرها التراث أو الغرب..
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد