دوافع وأهداف التحريض والدعم الأمريكي المفتوح (1) ..استئناف العدوان على غزة.. بقلم: شادي عمر الشربيني
بقلم: شادي الشربيني

هذا المقال هو التتمة في السلسة التي كنت وعدت فيها بالحديث عن استئناف العدوان الابادي على غزة يوم الثلاثاء 18 مارس 2025. بمنتهى الصراحة والوضوح والقطعية كان الحديث عن السبب المؤسس والذي تتفرع منه كل وأي أسباب أخرى للعدوان في المقال الأول، كان الحديث عن الأسباب والدوافع الإسرائيلية في المقال الثاني، أما في هذا المقال، الذي أجدني مضطرا لتقسيمه على أجزاء، فإننا سنتناول دوافع وأهداف الولايات المتحدة من هذا العدوان، خاصة أن هناك مجموعة من المتابعين والمحللين يذهبون إلى أن الأمر هذه المرة لا يتعلق بضوء أخضر أمريكي ودعم مفتوح فقط، بل قبله فإن المسألة هي تحريض أمريكي واضح ودفع الإدارة الترامبية دفعًا لحكومة نتنياهو في اتجاه الحرب والعدوان والتدمير، مما يعني أنه يجب التوقف عند تلك المسألة بعض الوقت وإطالة النظر في محاولة للفهم حتى يمكن أن نلقي نظرة على الصورة الواسعة.
الولايات المتحدة وإسرائيل.. دعم مفتوح وخسائر فادحة:
إن دعم واشنطن “الأعمى وغير المحدود” لإسرائيل منذ نشأتها قبل 70 عاما، أصبح أمر يصعب الجدال فيه، وإن كان يمكن أيضا التأكيد أن هذا الدعم كان يتصاعد مع الوقت وينتقل من مرحلة إلى مرحلة، حتى وصل إلى ما ينظر إليه كاندماج عضوي بين الكيانين. الملفت هنا أن هذا التصاعد في العلاقة والاندماج كان يحدث بالرغم مما اقترفته إسرائيل في حق الولايات المتحدة، مثل تدمير المدمرة ليبرتي سنة 1967، مرورا بتسريب أسرار عسكرية وتكنولوجية أميركية للصين، إضافة للتجسس على الجيش الأميركي نفسه في عدة مناسبات، ورفضها التواصل الصحيح مع جهود واشنطن للتسوية والسلام في الشرق الأوسط، وهو ما يضر بالمصالح الأميركية في المنطقة. وقد دفع ذلك بالجنرال ديفيد باتريوس، القائد السابق للقوات الأميركية في أفغانستان، أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، إلى القول إن الغضب العربي المطلق تجاه الولايات المتحدة الذي تسببه القضية الفلسطينية يحدد الدعم وقوة الشراكة الأميركية مع شعوب وحكومات المنطقة، وأن الجماعات المتطرفة تستغل هذا الغضب لتعبئة الدعم المؤيد لها، كما أن استمرار الصراع العربي الإسرائيلي يعطى إيران نفوذا كبيرٌا في العالم العربي.
وبالنسبة لصورة الولايات المتحدة في العالم. فطالما قدمت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها رمزًا للدفاع عن حقوق الإنسان في العالم، لكن في ظل صمتها على جرائم إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين، وتغاضيها عن الانتهاكات الإسرائيلية للفلسطينيين، بما في ذلك قتل المدنيين بل وإبادتهم، والتنكيل بالأسرى، واعتقال الأطفال، فإنها فقدت بريقها كدولة داعمة لحقوق الإنسان، فقد ألحق ذلك أضرارًا بصورتها في الأمم المتحدة كدولة قائدة في المنظمة الدولية لحماية المدنيين في مناطق النزاع، وتحقيق السلم والأمن الدوليين. ينظر إلى استخدام الولايات المتحدة المتكرر لحق النقض (الفيتو) لمنع إصدار مجلس الأمن الدولي قرارات تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في أثناء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة_ على أنه موقفًا يحمي إسرائيل من المساءلة الدولية ويعوق الجهود الرامية إلى وقف تصعيد الصراعات التي تؤدي إلى خسائر فادحة في صفوف المدنيين على الجانب الفلسطيني، وهو ما يؤدي إلى تنفير العديد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وخاصة تلك المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، والتي تنظر إلى واشنطن باعتبارها متحيزة وعقبة في طريق السلام، وتطبق معايير مزدوجة عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان والقانون الدولي متى لا يكون في صالحها أو أحد حلفائها، من مساندة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، التي عادة ما تركن لدعم هيمنتها على النظام الدولي والحفاظ على مصالحها وأمن حلفائها وشركائها، وفرض قيود على خصومها ومنافسيها تحت ذريعة انتهاكهم لحقوق الإنسان وتهديدهم للمدنيين عند دفاعهم عن مصالحهم وأمنهم القومي.
بعد المرور على بعض من الخسائر الفادحة المترتبة على دعم الولايات المتحدة المفتوح لإسرائيل، خسائر في المنطقة والإقليم وخسائر في السمعة وخصم مروع في القيمة المضافة لأمريكا على مستوى العالم، يطرح السؤال المنطقي نفسه، لماذا تستمر الولايات المتحدة في هذا الدعم بل وتزيد منه وتضح فيه استثمارات أوسع وأكبر؟ هل نحن أمام سلطة ونخبة سياسية من المخابيل؟! هل يفقد العقل الأمريكي المنطق والاتزان عندما بتعلق الأمر بإسرائيل؟!!
أخشى أن أقول نعم.. فيما يتعلق بإسرائيل فإن العقل الأمريكي يفقد الكثير من اتزانه ومنطقه، وهذا لا يعني أنه لا يفقد ويفتقد ذلك في مسائل وأمور أخرى، ولكن غالبًا ما يكون هذا الأمر أقل حدة بكثير مما يتعلق بخصوص إسرائيل. إن هذا التطرف والهذيان والهوس الأمريكي بإسرائيل يتعلق بأسباب بنيوية خاصة بالتجربة والتركيبة الداخلية للولايات المتحدة، لكن قبل الدخول والتعرض لتلك الاسباب، فإننا يجب أن نلتفت وننظر بدقة وبحرص إلى المكون العقلاني والاستراتيجي في حسابات الأمريكي، الذي يجعله يرى أن استثماراته في إسرائيل استثمارات مربحة، وأنه يجني من ورائها الكثير، تلك المكاسب والأرباح العالية التي تجعل مثلا من الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن يصرح في مؤتمر صحفي من تل أبيب: لو لم تكن هناك إسرائيل في الوجود لعملنا على إقامتها!
محورية الشرق الأوسط في الهيمنة الأمريكية والدور الإسرائيلي:
منذ قيامها ونشاتها كانت الولايات المتحدة تتمدد بريا بشكل رئيسي، وكانت ما تسعى إليه هو مد نفوذها وسيطرتها فيما وراء المحيط الأطلنطي، في ذلك الوقت كانت أوروبا والعالم القديم ذاخرًا بالقوى العظمى التي تفادت الولايات المتحدة منافستها في مناطق سيطرتها ونفوذها، كما أنها كانت تعمل على مكافحة وتصفية أي نفوذ أوروبي في القارتين الامريكيتين الشمالية والجنوبية، فكانت أمريكا تعمل إما على ضم الأراضي إليها مباشرة أو تصبح تلك المناطق فناء وحديقة خلفية لها. ذلك كان منطق وحدود الأمن القومي الأمريكي، والترامبية ما هي، في أكبر تجلياتها، إلا انسحاب من أمريكا الإمبراطورية العالمية للعودة إلى أمريكا ما وراء الأطلسي.
كانت القفزة الأمريكية الكبرى الأولى عبر الأطلسي خلال الحرب العالمية الأولى، وقد تعشمت الكثير من الشعوب المستعمرة في الولايات المتحدة كقوة تساعدها على التحرر من الاستعمار والاستقلال، لكن الولايات المتحدة خلفت وعدها وموعدها وفضلت العودة إلا ما وراء الأطلسي والاكتفاء بالعلاقات القوية والمتينة مع القوى الإمبراطورية الأوروبية، وخاصة بريطانيا العظمى، في مقابل العمل على تعظيم تنازلات تلك القوى في قارات ما وراء الأطلسي، بحيث تصبح تلك القارات مناطق نفوذ كامل وصافي للولايات المتحدة. لكن في قفزة الولايات المتحدة العظمى التالية خلال الحرب العالمية الثانية كان من المستحيل تقريبا عودة الولايات المتحدة، حيث أن الاستنزاف والدمار الشامل الذي لحق بأوروبا ودولها الإمبراطورية، خلق فراغ في القوة، فلم يكن أمام القارة العجوز بد من استدعاء القوة الأمريكية كسبيل وحيد لوقف المد الأحمر وضمان استمرار السيطرة على الشرق وإعادة بناء أوروبا الغربية بل واستمرار الحضارة الغربية ذاتها بدلا من احتضاراها.

“إن تأثير الحرب العالمية الثانية القوي لا يمكن تقديره” هذا ما قاله المؤرخ ديفيد كينيدي والذي يعمل أستاذاً للتاريخ في جامعة ستاندفورد وهو الذي ألف كتابا عن الأمريكيين بين عامي 1929 و1945 وقال: “شكلت الحرب العالمية الثانية تحولا جبارا في التاريخ الأمريكي لان كل كل شيء تغير بعدها.” صرح تشرشل بعد انتهاء الحرب أن الولايات المتحدة الأمريكية اعتلت قمة العالم. جاءت تصريحاته هذه لتدل على وضع امريكا المتغير. تحولت الولايات المتحدة الأمريكية خلال خمس سنوات من بلد منعزل إلى بلد ذي قوة عظمى كانت قد دخلت الحرب مترددة.
لطالما كان الشرق الأوسط، الممتد من ليبيا غربًا إلى إيران شرقًا، ومن تركيا شمالًا إلى اليمن جنوبًا، محورًا للقوى السياسية النافذة عبر التاريخ. وقد عزز موقعه الاستراتيجي، كمفترق طرق تجارية، مكانته كواحدة من أهم مناطق العالم. وفي القرن الماضي، زاد اكتشاف النفط في المنطقة، وما تلاه من هيمنتها كمصدر عالمي للطاقة، من أهميتها. لذلك كان لا بد للولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى عالمية، وليس فقط إقليمية، أن تضع تلك المنطقة، منطقة الشرق الأوسط، في قلب منصة أهدافها، فالتاريخ يقولها صراحة، أنه لم توجد قوة عالمية نافذة الكلمة والتأثير إلا وكان الشرق الأوسط ضمن أو على رأس مناطق نفوذها وسيطرتها.
عندما اقتربت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط كانت تقترب بنفس منطق قوى الاستعمار الغربي، صحيح أنها كانت تتقدم لتزيح وترث مناطق سيطرة ونفوذ وهيمنة تلك القوى الاستعمارية عقب الحرب العالمية الثانية، إلا أنها كانت تتبنى نفس منطقها، وهو الحفاظ على تلك المنطقة مقسمة سياسيا وطائفيا، لأن أي توحيد لتلك المنطقة يخرجها تلقائيا من النفوذ الغربي ومن أي نفوذ أجنبي. ثم إن إبقاء حالة التخلف الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتقني والاقتصادي والثقافي، ظل أيضا شرط لاستمرار الهيمنة والسيطرة. كانت إسرائيل أحد أبرز الأدوات في صنع الحالتين، سواء كانت التقسيم والحفاظ علية وابقاءه، أو كقاعدة عسكرية ورأس حربة مغروسة في الخصر العربي، قادرة بما يتم توفيره لها من دعم ورعاية على مكافحة ومحاربة أي قوى استقلال وتقدم تظهر في المنطقة، خصوصا في الحواضر التاريخية الكبرى سواء في مصر أو الشام والهلال الخصيب.
إن مشروع بناء الكيان الصهيوني الحالي في فلسطين يمكن رصد بدايته الأولى في القرن التاسع عشر، لقد ترافق هذا المشروع بالضبط مع بدايات الاستعمار الإمبراطوري الإنجليزي والفرنسي في المنطقة العربية. لكن أهمية إسرائيل برزت بشكل خاص بعد حرب العالمية الثانية، حيث أصابت تلك القوى الاستعمارية ضربات قاصمة أو كبرى، مع نمو الشعور القومي والاستقلالي بين شعوب المنطقة، وأيضًا مع ما بدى أن تلك الحرب العالمية الثانية قد أنهت منطق الاستعمار العسكري المباشر، وذلك عندما أبرزت تلك الحرب أن ذلك المنطق كان السبب الأول وراء تفجرها وما أسفر عنها من دمار واسع وملايين الضحايا في وقت توسعت فيه بشكل هائل قوى النيران التقليدية، ثم كان الختام النووي لتلك الحرب، والذي عنى أن الحرب عالمية ثالثة هي غالبا ما ستكون حرب النهاية.
كان ذلك يعني أن إسرائيل أصبحت خيار أساسي وربما أخير للغرب وقواه العسكرية المنسحبة تحت الضغوط المختلفة من المنطقة. فالغرب وهو ينسحب يسعى للإبقاء على القوى الاجتماعية التقليدية والطبقات السياسية والثقافية التابعة له في مركز الصدارة والسلطة لضمان نفوذه وهيمنته، وإسرائيل تمثل القاعدة العسكرية التي تحمي تلك القوى وتدافع عن استمرارها. إن ذلك الكيان الذي اصطنع في فلسطين هو الإسفين الذي تم دقه في قلب العالم العربي، ليقطع ما بين مشرقه ومغربه، ما بين جناحه الآسيوي والافريقي، وأيضا هو الكفيل بحجز مصر عن شرق السويس ويجعلها مقطوعة عن مجالها الحيوي، فيتم الإبقاء عليها كدولة أفريقية محدودة وفقيرة وبلا تأثير أو أفق!

في ذلك الجو والمناخ والخطط كان الاندفاع الأمريكي للشرق الأوسط، الولايات المتحدة تبحث عن الكيان الذي تستطيع أن تثق به وفي استحالة انقلابه عليها، وكانت إسرائيل ككيان لا ينتمي بأي شكل لتاريخ المنطقة وتكوينها الثقافي والحضاري تتطابق الشروط والرؤية الأمريكية. في الوقت نفسه فإن إسرائيل ومبدأها الذي ارساه قائد تأسيسيها بن جوريون، وهو أنه لا إمكانية لاستمرار بقائها في تلك المنطقة إلا أن تكون في كنف ورعاية قوى أو قوة عظمى وكبرى، وكانت تبحث عن تلك القوة بعد ما أصاب الإنجليز والفرنسيين ما أصابهم وذهبت شمس عصرهم، في المنطقة على الأقل، نحو الأفول. تلك كانت لحظة التلاقي التاريخي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، لحظة أفرزتها شروط الجغرافيا السياسية ومتطلبات إمبراطورية صاعدة تسعى لسيطرة وهيمنة كوكبية، وكيان لا يرى بقائه سوى في تكريس نفسه كقاعدة لخدمة مثل تلك القوى والعمل تحت مظلتها.
من الوفاق وفيتنام إلى الثورة في إيران.. حسم الخيار الإسرائيلي لأمريكا:
في نهاية ستينيات القرن العشرين، وربما منذ منتصفها، بدأت عدة عوامل في البروز تحد من حرية الحركة الأمريكية ومن قدرتها على الانفراد بالمواجهة والتصدي عبر كل أنحاء الكوكب. ويمكن القول بعاملين رأسيين:
1- انتقال العلاقة الاستراتيجية الامريكية السوفيتية من الاحتواء إلى الوفاق، وقد ترجم في تفادي أسباب صدام أمريكي سوفيتي مباشر، مما يعني العمل على التقليل من وجود خطوط تماس عسكري أمريكي سوفيتي خاصة في مناطق التوتر والصراع في أسيا وأفريقيا، والانتقال إلى التعايش التنافسي وإن يكن سلميًا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وقد كان من نتائج هذا الاتفاق بداية انسحاب الولايات المتحدة من الاحلاف العسكرية خارج الناتو، مما أدى مثلا إلى دق المسمار الأخير في نعش اتفاقية «سنتو» (منظمة المعاهدة المركزية بين إيران (الشاه) وبكستان وتركيا والولايات المتحدة) العسكرية الإقليمية. وكان من أبرز نتائج سياسة الوفاق هو أن الولايات المتحدة، والسوفييت أيضا، أصبحوا أقل ميلا للمخاطرة بالتدخل المباشر في منطقة الشرق الأوسط.
2- التوسع الأمريكي الزائد في فيتنام. حيث أصبحت ساحة الحرب الفيتنامية تستقطب بل وتستنزف جزء كبير من الطاقة العسكرية الأمريكية، وذلك خفف من أي رغبة أمريكية في الانخراط المباشر في صراعات جديدة ولو إلى حين.

في تلك الفترة كان شاه إيران محمد رضا بهلوي يجادل القادة وصانعي القرار في الولايات المتحدة بأن الولايات المتحدة تبالغ في توسعها وأن تواجدها العسكري المكثف في شتى أرجاء العالم سيولد عما قريب مشاعر سيئة تجاه واشنطن. وبالمقابل اقترح الشاه أن تقوم الولايات المتحدة بتشجيع القوى الإقليمية التي تمتلك القدرة على المحافظة على الاستقرار على تولي دور أكبر في القضايا الأمنية. فهذه المقاربة ستجعل القوى الإقليمية أكثر اقتناعا بالقيادة العالمية للولايات المتحدة مع بناء أسس أكثر استدامة للأمن الإقليمي. لكن من قبل طرح الشاه، فقد كانت فكرة المرتكزات الإقليمية معروفة جيدًا في دوائر السياسة الخارجية بواشنطن وبرزت بشكل مستقل عن رغبة الشاه، وراحت الولايات المتحدة تترجمها على الأرض.
في مايو/أيار 1972، توقف نيكسون ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر لفترة وجيزة في طهران في طريق العودة من زيارتهما التاريخية الأولى للاتحاد السوفيتي، حيث أطلقا عجلة سياسة الوفاق الدولي. وأثناء المناقشات التي دامت عدة ساعات مع الشاه، أفصح نيكسون عن مفهوم سياسة الدعامة المزدوجة وعن الدور الذي يتصور أن تلعبه إيران في القضايا الأمنية التي تهم الخليج العربي، ولكي يجعل سياسته أكثر جاذبية، عرض على الشاه موافقة مطلقة على بيع كافة الأسلحة الأمريكية غير النووية تقريبًا. ومع وصول ذلك اللقاء إلى نهايته، نظر نيكسون إلى الشاه مباشرة وصاح قائلاً: “أحمني!” (كتاب «كيسنجر: سيرة ذاتية» لوالتر ايزاكسون «Walter Issacson, Kissinger: A Biography (New York: Touchstore, 1992), 596»).

إن الدعامة المزدوجة التي تحدث عنها نيكسون كانت تشير إلى إيران في جزء من المنطقة وهو الخاص بالخليج والجزيرة العربية بينما تشير إلى إسرائيل في الجزء الباقي من المنطقة والذي يشمل مصر ومنطقة الشام وربما الهلال الخصيب. لقد شكلت نهاية الستينات وأوائل السبعينات نقلة كبيرة في التفكير الاستراتيجي الأمريكي، حيث وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى اتخاذ خطوة أو خطوات إلى خلف نتيجة الظروف التي تحدثنا عنها، وإيكال المهام الأمنية والقتالية بالأساس إلى قوى إقليمية تثق بها الولايات المتحدة وتتأكد أنها تتلاقى معها في المصالح والأهداف. لكن عقب الثورة في إيران التي أطاحت بنظام الشاه الموالي للولايات المتحدة، تصلبت العقيدة الأمريكية بأن الصديق والحليف والكيان الوحيد الذي يمكن أن يمثل امتداد دائم لها في المنطقة هو إسرائيل، إسرائيل يستحيل أن تقوم فيها ثورة أو تغيير يأتي بنظام لا يتحالف مع أمريكا، فهي خارج سياق المنطقة بأكمله، عكس الباقي الذي هو معرض للتغير والتبدل في أي وقت مهما بدا قوته او رسوخه، فالشعوب لها سبلها!
<<<<<<<<<<<<<<
<<<<<<<<<<<<<<
في هذا المقال حاولنا أن نلقي نظرة سريعة على الجذور الجغرافية السياسية (الجيوبولتيكية) للتحالف العضوي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وكيف تطور هذا الأمر. هذا لا يعني أن تلك هي الجذور الوحيدة لهذا التحالف، فنحن سنتعرض لباقي الأسباب عند الحديث عن الشوط المذهل الذي ذهب إليه ترامب في تعامله مع إسرائيل وفي اخضاع المنطقة لها.
ما أرجوه أن يكون هذا العرض كافي لوقف أوهام تتلبس البعض أنه يمكن عندما توفر كيان أو دولة ما في هذه المنطقة كافة الضمانات أنها تعمل وستعمل تحت المظلة الأمريكية وفي خدمة مصالحها وأهدافها، أن ذلك يمكن أن يقنع الولايات المتحدة بأن تذهب إليها بديلا عن إسرائيل. هذه على الأرجح كانت محاولة الرئيس السادات، الذي كان يداخله قناعة أن جمال عبد الناصر وسياساته هو السبب في هذا الانحياز الأمريكي الطاغي لإسرائيل، وأن اثبات عكس الاتجاه الناصري والانقلاب عليه كفيل بنيل الرضى الأمريكي والحد من انحيازها الطاغي لإسرائيل. الأزمة الكبرى. إن حصاد الساداتية الأول هو تأكيد وجهة النظر والعقيدة الأمريكية أن إسرائيل هي أداتها الأولى وقوتها الناجعة في تطويع وكسر إرادات الاستقلال والتحرر القومي والوطني. ومازالت الساداتية كرؤية ومنهج هي السائدة في مصر وتتفشى بين السلطات العربية بالرغم من حصاد كل ما حدث وما يحدث!
للإطلاع علي المقال السابق اضغط هنا
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
2 comments