د. المحبشي يحاضر عن الفهم العقلاني للدين .. كتبت ناتاشا العبادي

كانت الحرية مسألة محسومة بالنسبة لي سلفًا، وأن أنجز الحرية بالمعنى الميتافيزيقي الذي يقابل الجبر أو الأرقام ويحب الحرية بالمعنى الاجتماعي والسياسي

نتاشا العبادي

240772157_10223700779399743_5523059789707789465_n د. المحبشي يحاضر عن الفهم العقلاني للدين .. كتبت ناتاشا العبادي

عقد صالون تفكير ندوته العاشرة بعنوان: عبد الجواد ياسين والفهم العقلاني للدين وذلك يوم الجمعة العشرين من سبتمبر ٢٠٢٤ الساعة ٨ مساء، أدارت الندوة عضوة صالون تفكير إيمان رفاعى، وحاضر فيها د. قاسم عبد عوض المحبشي، أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة، بكلية الآداب – جامعة عدن. 

دارت الندوة حول عدة محاور، بدأها دكتور قاسم بنبذة عن اليمن ثم بفكرة تطور الأديان التي مرّت بتحولات دينية واجتماعية عميقة عبر العصور. يشير إلى أن اليمن كانت “مختبراً” لتجارب دينية وثقافية متنوعة بدءاً من الطوطمية، التي تمثل عبادة النباتات والأشجار في العصور البدائية، وصولاً إلى الأديان الإبراهيمية مثل اليهودية والمسيحية، ثم الإسلام. ويبدو أن الدكتور قاسم يربط هذه التحولات ببيئة اليمن الجغرافية، التي ربما أسهمت في تعددية المعتقدات وتنوع الأديان. 

حياة المفكر عبد الجواد ياسين.

الدكتور قاسم  يلفت الانتباه إلى نقطة مثيرة في حياة عبد الجواد ياسين، وهي غيابه عن تناول ثورة يوليو ١٩٥٢ في كتاباته، رغم أن ياسين ولدعام 1954 أي بعد هذه الثورة ونشأ لأسرة ليبرالية، في مدينة الزرقا  بمحافظة دمياط، إن المستشار عبدالجواد ياسين يعدّ تجربة فريدة ونقدية أصيلة، حيث نشأ بين الفكر والواقع، وبين الإيمان والأعمال. وعلي علاقة حميمية مع الحالة الإسلامية الرومانسية التي تأثر بها في سنوات تفتح وعيه الذاتي، وهو ما يظهر بوضوح في سيرته الذاتية، وتوقه الدائم للعدالة والحرية. 

يقتبس الدكتور قاسم من سيرة عبد الجواد ياسين الذاتية قوله: “كانت الحرية مسألة محسومة بالنسبة لي سلفًا، وأن أنجز الحرية بالمعنى الميتافيزيقي الذي يقابل الجبر أو الأرقام ويحب الحرية بالمعنى الاجتماعي والسياسي” يقتبس الدكتور قاسم من سيرة عبد الجواد ياسين الذاتية  “كان بالنسبة لي الانتصار للحريات الفردية والجماعية ضد فكرة الدولة الشمولية الدافع  وراء مشاركتي في حركة المعارضة الطلابية التي انطلقت في الجامعة عام 1972”. 

الدكتور قاسم يرى أن عبدالجواد ياسين عاش صراعًا كبيرًا مرتبطًا بتاريخ مصر، خاصة مع تجربة الهزيمة أو النكبة. ويشير إلى أن دراسة حياة ياسين تمثل عودة إلى فهم التاريخ المصري والعربي. 

60005031cb272523049372 د. المحبشي يحاضر عن الفهم العقلاني للدين .. كتبت ناتاشا العبادي

ويحكي الدكتور قاسم أنه التقى المستشار عبد الجواد ياسين في ندوة بالإسكندرية، حيث سأل الدكتور قاسم عبد الجواد ياسين عن تكوينه الأكاديمي، ومصادره المعرفية. وأوضح ياسين أنه درس القانون في جامعة القاهرة، وتلقى دروس الفلسفة على يد أساتذة بارزين مثل توفيق الطويل، وعثمان أمين،و زكري إبراهيم، وغيرهم. كما أنه درس الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي، وعمل قاضياً شرعياً لمدة 30 عاماً بين القاهرة والإمارات. خلال مسيرته القضائية، كان ياسين يفكر في موضوعات كتبه من خلال منظور نظري وممارسات، مما جعله يخلص إلى ضرورة اتباع منهج متكامل يعتمد على الفلسفة، الأنثروبولوجيا، السياسة، اللاهوت، القانون، الفقه، علم الاجتماع، علم النفس، والهيرمينوطيقا.

نظرية التحدي والاستجابة

د. قاسم يشير إلى أن أ. عبدالجواد ياسين كان يمتلك تمييزًا حساسًا بين الذات والآخرين، وهو ما يعكس فهمًا عميقًا لمشكلة وعي الذات ووعي الآخر. يوضح أن هذه المشكلة ليست سهلة كما قد تبدو في تاريخ الفلسفة، إذ تتطلب عملية معقدة من الكشف عن الذات، و أن كل إنسان ينكشف بذاته ولذاته، وهذه العملية مليئة بالتعقيد والغموض. ويضيف الدكتور قاسم أن الذات إذا لم تواجه الآخر ولم تحتك به، فإنها تظل “عمياء” وغير واعية بذاتها أو بإمكاناتها أو بالآخر الذي يهدد وجودها، وأن دراسته نظرية التحدي والاستجابة عند توينبي، جعلته يلاحظ استجابة المسلمين والعرب على الحداثة. الأوروبية الاستعمارية استجابة طفولية وخارج التاريخ، د. قاسم يورد أمثلة من التاريخ لتوضيح نظرية “التحدي والاستجابة”، مشيرًا إلى حالة المهدي في السودان وقائده العسكري عبد الله التعايشي، الذين قاتلوا الإنجليز في الخرطوم. ذكر أن المهدي أرسل رسالة إلى ملكة بريطانيا يقول فيها: “اسلمي تسلمي، وإذا أسلمتِ سنزوجك عبد الله التعايشي”، وهو ما يُظهر ضعف الوعي التاريخي لدى العرب في التعامل مع الآخر.

يشير المحبشي إلى أن الآخر هو مرآة الذات، ومعرفة الآخر تساعد في التعرف على الذات. قبل إطلاق الأحكام على فرد أو مجتمع أو جماعة، يجب على الشخص أن يبلور موقفًا واضحًا تجاه ذاته ومجتمعه. الطريقة الوحيدة لتحقيق كشف الحجب عن الذات تتم من خلال دراسة مقارنة للذات والآخر، وتأويل وفهم الآخر. هذه المقارنة تؤدي إلى فهم حدود الذات، مما يعزز وعي بالذات وإمكاناتها. 

صدمة الحداثة الغربية

إن عبد الجواد ياسين، الذي كان دارسا للقانون وللفلسفة، في الثلث الأخير من القرن العشرين، تبنّى نفس الموقف الذي اتخذه المثقفون والأدباء العرب والمسلمون منذ لحظة اصطدامهم بالحضارة الحديثة. هذا الاصطدام الذي بدأ بشكل عنيف مع أصوات مدافع نابليون خلال حملته الفرنسية على مصر في عام 1798، وتلاه تولي محمد علي باشا حكم مصر، والذي يُعتبر نقطة بداية ما يُعرف بالنهضة العربية الحديثة. وهذا الاحتكاك الذي نشأ بين العرب ومبادئ الثورة الفرنسية، مثل الحرية والإخاء والمساواة، والاصطدام بين مجتمعنا التقليدي العربي وبين الحداثة الغربية وفي هذا السياق، أصدر رفاعة الطهطاوي “مجلة الوقائع المصرية” وترجم الدستور الفرنسي ونشيد الثورة الفرنسية، كما ألف كتابه العمدة “تخليص الإبريز في تلخيص باريس”، مما يُعتبر من الأعمال المبكرة التي ساهمت في النهضة العربية الإسلامية.

ويشير دكتور قاسم الي ان اصطدام المثقفين العرب بالحضارة الغربية يُعادل بشكل ما اصطدام عبدالجواد ياسين بتجربة النكبة أو هزيمة 1967. و أن اعترافات ياسين بأزمته الإيمانية، وحالته الإسلامية التي كانت شديدة التدين، تظهر تحولاته السلفية المتزمتة والدعوات المتطرفة، كما يتضح في كتابه “فقه الجاهلية المعاصرة”. في هذا السياق، يُعتبر ياسين شخصية يمينية بالمقارنة مع الاتجاهات الإسلامية الأخرى، بما في ذلك الإخوان المسلمون، رغم أنه لم يكن ينتمي إليهم تنظيميا. ويقتبس دكتور قاسم من كتاب عبد الجواد ياسين مقدمة في فقه الجاهلية المعاصر قوله” نحن في عصر الجاهلية، كما كانت الجاهلية الأولي” . 

حينما نعود اليوم من فترة السبعينات للشاب ياسين والحالة الإسلامية إلى حقبة فاصلة وحاسمة من تاريخ مصر هزيمة يونيو 67 وتفجر دمامل الجسد العربي الإسلامي المتقيحة، فإن ياسين بتحولاته وتجربة حياته ونشأته وتخصصه وسلوكه وفكره وأسلوبه وخطابه كان يرد على طريقة رجالات النهضة العربية أمثال الطهطاوي، محمد عبده، وفرح أنطون، وجمال الدين الأفغاني ، وشبل الشميل ورشيد رضا ، وعلي عبد الرازق ، وطه حسين وغيرهم بتغيير حالة داهمة تبدو في الأفق للعرب المعاصرين وهي ولادة طريقة جديدة للتفكير تتخذ من الحداثة الغربية حداثة أساسية لها، وأصبحت الحداثة برنامج سري لكل عقول المبدعين العرب وأن دهشة العرب من الحداثة هي أهم حدث روحي تاريخي في تاريخهم المعاصر والتي أصابت وعيهم بالإنكسار. إن العلاقة بالحداثة ليست علاقة بأمة أخرى، تكتفي فيها بالاطلاع على أنها بأهلها وغرائب عادتها، بل هي اصطدام روحي بأفق تاريخي، فلا معنى للاندهاش، ولا يبدو أننا أفلحنا في الإفلات منها. إن وقع الحداثة الغربية بكل تجلياتها الاستعمارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والنفسية والعقائدية، ما زالت تمثل التحدي الوجودي الثقافي الأول في حياة مجتمعنا العربي والإسلامي.

في ضوء ذلك يمكننا أولا النظر لكتابات عبد الجواد ياسين المبكرة ومنها كتابه مقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة وكتابه تطور الفكر السياسي في القرن الـ 19 ثم يقتبس د. قاسم قول ياسين “وهو بحث في بدايات التوجه الغربي الذي ناقش فيه بدايات تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم والأخذ بالنماذج الغربية في كل أنماط الحياة “

ثانيا فهم المأزق الوجداني الذي وقع فيه ياسين وهو تحدي الحداثة ويطلق الدكتور قاسم على ياسين أنه كانط السلفي إذ أن وعيه لم يتألف في ظل شروط اجتماعية وثقافية اجتماعية مستقرة ومن الطبيعي أن يدخل ياسين في أزمة روحية إيمانية . 

المنهج النقدي عند عبد الجواد ياسين 

يشير دكتور قاسم إلى أنه من الشائع في اعتقادنا نحن العرب أن النظرية تأتي بعد المنهج في الترتيب والتطبيق، برغم أن العلاقة بين النظرية والمنهج علاقة شديدة التعقيد والتداخل، حيث يصعب الفصل الفعلي بين النظرية والمنهج، لا سيما في الدراسات الثقافية والإنسانية.كما لو أن النظرية مجرد نتيجة ثانوية أو فكر زائد ، لأنه ممارسة النشاط النظري إن لم يكن هناك قضايا حقيقية تدفع البشر للجوء إلى النظرية. مثل عند ابن خلدون وكل المفكرين ولابد من مجابهتها وعمل منهج لهذه المجابهة. 

مما يلاحظه د. قاسم في دراسته لمنهج عبدالجواد ياسين، هو أن تجربة حياة ياسين نفسها كانت أكثر تأثيرًا في تشكيل منهجه الفلسفي والفكري من كتبه أو مذهبه الفقهي. هذا الانطباع الذي يعبر عنه الدكتور قاسم يتردد بين العديد من النقاد والمفكرين المعاصرين الذين يرون في ياسين شخصية استثنائية، ليس فقط لمحتوى كتبه، بل للتجربة الحياتية التي عاشها والتي شكلت منظوره العقلاني في فهم الظاهرة الدينية بكل أبعادها: الاجتماعية، التاريخية، الروحية، واللاهوتية. لكن من المثير للاهتمام هو تداخل العقلانية لديه مع نوع من الأيديولوجيا، خاصة في محاولته التمييز بين “النص الأصلي” الذي يتجاوز التاريخ ويأتي من مصدر خارجي (النص المقدس)، وبين “النص التدويني” الذي يرتبط بالسياق الاجتماعي والتاريخي ، ويعتقد دكتور قاسم أنه قد خانته العقلانية أو المنهج الطبيعي. 

تقييم أهمية المنهجية في مشروع عبد الجواد ياسين 

يقول د. قاسم، إذا أردنا أن نقيم منهجية مشروع ياسين، فلا بد النظر إليه وتقييمه في سياقه التاريخي الفعلي الذي شكل كامل الوسطى الثقافي والعلمي والسياسي والاجتماعي والديني والاقتصادي والحضاري والنفسي والذي نشأ وتعلم وفكر وكتب في فضائه، إن المفكر أو الكاتب هو كائن اجتماعي مثل غيره من الأفراد وهو أيضا الناطق الواعي أو غير الواعي باسم المجتمع الذي ينتمي إليه ومن الخطأ النظر للمستشار ياسين بمعزل عن الواقع الذي عاش فيه وأنه جزء من هذا المجتمع المضطرب ، فإن منهج ياسين ينطوي على وظيفة مزدوجة شكلاً ومضموناً فهو منهج عقلاني مزدوج وينطوي على بعدين :-

الأول نقدي ينتقد الفقه القديم والتصورات الإسلامية الميتافيزيقية السابقة.

والآخر يعمل فيه على بناء وجهة نظر جديدة سلبي وإيجابي . 

يرى د. المحبشي من جهة أخرى أن تلك الطبيعة المركبة لمنهج ياسين جعلت منه بنية شديدة التعقيد ومن ثم عسير الفهم والتبصير حيث تمكن من الجمع بين ميادين فكرية واجتماعية وأنساق معرفية متنوعة وموضوعات مختلفة مثل القانون والفلسفة وعلم الاجتماع  والسياسة واللاهوت وعلم النفس والأدب واللغة والجغرافيا إضافة انه شاعر شاعر ولديه  قصيدة كتبها لوالده ، فيتطلب معالجة الظاهرة الدينية بالمنهج التجريبي الاستقرائي والاستنباطي و المنهج الجدلي التاريخي، والمنهج الوصفي، وربما المنهج المقارن.

يري د. قاسم ان أهمية مشروع عبدالجواد ياسين هو اكتشافه أدوات عقلية ومنهجية في معالجة ومحاولة فهم الظاهرة الدينية وتفسيرها، واستطاع أن يبدع مفاهيم جديدة مثل الدين والتدين والديانة، والعقل والإيمان، والتشريع والاجتماع، والواحد والمتعدد،  وكما أكد فرانسيس بيكون أن المنهج هو “النور الذي ينير طريق السائرين في رحاب المعرفة العلمية حتى الأعرج الذي يمتلك منهج يسبق سليم القدمين الذي بلا منهج و كأنه يسير في الظلام” ويقتبس المحبشي من كتاب السيرة الذاتية لعبدالجواد ياسين إذ يقول “ظهر أمامي فيما يشبه الاكتشاف أن منظومة التدين التي يتدين بها الآن لا تشكل في خلاصات الوحي المطلق أبدا، بل من معطيات التاريخ والاجتماع وانتهي ياسين الي أن هذا تدين و ليس الدين.

ثم  يقتبس من كلام عبد الجواد ياسين قوله” لقد لعبت الأصولية دورا في هذا الاكتشاف تحفيزيا للإنغلاق  العقلى والروحي فهي بأدائها الذي صرت أعرفه قدمت النموذج العملي لأسوأ منظومة للتدين وساعدت على استنفار رؤيتي الذاتية لمعنى الدين والتي عاودت الصعود على سطح الوعي لاحقا وأشبه هذا الدور بالنسبة لي بالدور الذي لعبته الكنيسة الغربية تجاه التنوير والحداثة وذلك الدور المثيرالاستبدالي الذي أفرز السموم في الدين”. ويشرح المحبشي أن الأزمة والحالة السلفية اوصلت ياسين إلى معرفة التفريق بين الدين و التدين ،و النص الأصلي والنص التاريخي او الاجتماعي، و نحن عدنا للحظة القرشية في اليمن بهذا التنوع الطائفي الذي ترفع راياته بأسم معاوية أو يزيد وهو كارثة عند العرب، ويقارنه بالتنوع الديني بالهند وكيف أن بها ٢٠٠٠ ديانه أو إله و بها تعايش، ويعتقد الدكتور قاسم أن السبب هو السياسة وليست الأديان، و أن السياسة لدى العرب والمسلمين هي التي توظف الدين، وأن سلطة النص ليست في ذاتها، ورأي أنه لابد من إعادة التفكير في العلمانية بعيدا عن الأيدلوجية، فهي تجربة ناجحة  على مدى قرون من التاريخ ، فهي تقنية تحفظ الدولة وتحمي المجتمع.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

تعليق واحد

اترك رد

ندوات