د. محمد عيسى في صالون تفكير يتحدث عن الحرية والعبودية 3

بقلم : منى حسنين

436961210_1109421293629929_2138419842192079444_n د. محمد عيسى في صالون تفكير يتحدث عن الحرية والعبودية 3

و بعد أن استعرضنا حرية الاعتقاد و حد الردة و  حرية الاختيار و أفعال العباد ضمن محاضرة مفهوم الحرية فى فكر عبد الجواد ياسين بالنسبة لدكتور محمد عيسى يأتى دورنا للحديث عن النوع الثالث من الحريات الدينية فى فكر عبد الجواد ياسين ألا وهو الحرية مقابل العبودية:

حيث أضاف دكتور عيسى أنه إذا انتقلنا من مجال الحرية الفكرية إلى زاوية أخرى من الحرية الإنسانية، المقابلة للعبودية، وممارستها في إطار التدين، نجد أننا أمام إشكالية من نوع أشد تعقيدا. وقد ناقش المستشار عبد الجواد ياسين مسألة حرية الإنسان في كتاباته عن أنثروبولوجيا الشريعة الإسلامية، رأيه فيها جدير بالبحث والنظر. 

يؤكد المستشار عبد الجواد ياسين أن أصل شرعية الرق قد أسست له نصوص التوراة التي لم تر الرِقَّ منافيا للمساواة والأخوة الإنسانية، بل تعاملت معه بأحكام تشريعية تفصيلية رسخّت لممارسته وقبوله اجتماعيا. لكن لو نظرنا الآن إلى تلك النصوص التشريعية التوراتية نجدها قد باعدت بين الرق وبين الأخوة الإنسانية.

ونقرأ في التوراة قصة نوح ونلاحظ أنه لم يكن هناك رق ولا عبودية قبل نوح ولا في عصره، ولم نقرأ في تاريخ الرسل والأنبياء السابقين عن عبودية الإنسان للإنسان. ولكن نعرف بداية التشريع بالاستعباد من القصة التي وردت في التوراة، وفيها تسببت حماقة حام ابن نوح الصغير، وهو أبو كنعان في نشأة الاستعباد. تروي القصة أن حام قد اطلع على عورة أبيه وهو نائم سكران، وأخبر أخويه سام ويافث بما رأى. بادر الأخَوَان بستر أبيهما “ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما” (تكوين 9:23). وعندما استيقظ نوح من نومه وعلم بما فعل حام، قال: “ملعون كنعان، عبْدَ العبيد يكون لإخوته” وقال: “مبارك الرب إله سام. وليكن كنعان عبدا لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن حام عبدا لهم.” (تكوين 9 25/27). 

ومنذ ذلك الوقت تطورت لعنة نوح على ابنه حام وأصبحت شريعة لها قوانين ومراسيم تحكمها، وتعاليم تؤسس لممارساتها وأخلاقياتها في التوراة والتلمود والإنجيل.

60005031cb272523049372 د. محمد عيسى في صالون تفكير يتحدث عن الحرية والعبودية 3

وبحكم أن التوراة جزء من الكتاب المقدس، فهي النص التشريعي للمسيحية والمسيحيين. ومن الطبيعي أن يكون الرق من المسلمات في بنية الاجتماع المسيحي وممارساته التديُّـنِـية. ورغم فلسفة الروح المسيحية وتركيزها على المحبة والإخلاص، لم ينتج عن هذه الفلسفة إلا التماهي مع ما استقر من مبادئ العبودية وأحكام الرقيق، وبَـدا الأمر وكأن عبودية البشر للبشر من المسلمات الكونية، وأنها من صنع الله منذ بدء الخليقة. ويستشهد المستشار عبد الجواد ياسين برسالة الرسول بولس إلى أهل أَفَسُسَ والتي يخاطب العبيد فيها وينصحهم: ” أيها العبيد أطيعوا سادتكم بحسب الجسد بخوف ورِعدة، في بساطة قلوبكم كما للمسيح، لا بخدمة العين كمن يُـرضي الناس، بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب، خادمين بنية صالحة كما للرب، ليس للناس.”(الرسالة إلى أهل أفسس 6- 5/7). صحيح أن بولس في هذه الرسالة قد أوصى العبيد بطاعة أسيادهم بلا رياء، بل من القلب. لكن يؤثر له أنه قد أوصى أيضا السادة بالعبيد، فقال لهم في نفس الإصحاح: “وأنتم أيها السادة، افعلوا لهم مثل هذه الأمور، تاركين التهديد، عالمين أن سيدكم أنتم أيضا في السماوات وليس عنده محاباة.” (الرسالة إلى أهل أفسس 6:9)، وهذا يؤكد أن النظرة التديُّـنـية ترى العبودية عاملا مشتركا بين كل البشر غير أن بعض بني البشر عبيد للبعض الآخر، وهذا البعض الآخر عبيد للسيد الذي في السماء. وهنا تطرح إشكالية أخرى نفسها: هل عبودية بعض البشر لغيرهم من بني البشر تعفيهم من واجبات العبودية للسيد الذي في السماء، طالما أنهم يقومون بأداء واجباتهم نحو سيدهم الذي في الأرض؟

ثم انتقلت ممارسات الرق إلى الإسلام في صورتها التي كانت عليها واقعيا في مجتمع أهل مكة والمدينة. ولم تسفر المعالجة القرآنية عن رؤية مختلفة جوهريا عن التوراة والإنجيل. لكن الرق الذي عرفه المسلمون قد أخذ مسارا أكثر تعقيدا مما جاء في التوراة تحت تأثير عوامل الزمان واختلاف الأمكنة. 

229835 د. محمد عيسى في صالون تفكير يتحدث عن الحرية والعبودية 3

وقد شـرَّع المسلمون للرق أحكاما فقهية تفصيلية، مدعمة بأدلة من القرآن والسنة. وقد تناولت هذه الأحكام التنظير لقواعد الاسترقاق، ومعاملة الرقيق من العبيد والإماء اجتماعيا واقتصاديا، واختلاف ما هو مباح أو غير مباح لمالك العبيد باختلاف الذكورة والأنوثة دون مساواة، وهذه الأحكام ما زالت تدرّس في كتب الفقه وتضرب لها الأمثلة بما كان يمارس عمليا في المجتمعات الإسلامية عبر المراحل التاريخية.

ويقرر المستشار عبد الجواد ياسين أن المعالجة القرآنية لظاهرة الرق قد أحالت إلى النظام العرفي الذي كان سائدا بما فيه من تفاصيل تضمنها الحديث وليس القرآن. ويورد مثالا لهذا التفصيل من كتاب “طبقات ابن سعد” يفهم منه أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد أقرّ شرعية فرار العبيد، وأنه تعهد لجماعة من الصعاليك كانوا في جبل تهامة وسماهم “عباد الله العتقاء”، ونص هذا التعهد على أنهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فعبده حر ومولاهم محمد، ومن كان منهم من قبيلة لم يردّ إليها. . . إلى آخر ما جاء في هذا الكتاب/الرسالة. وإذا سلمنا بصحة هذا النص، يكون الرسول قد أقر حقهم في التمرد، لكن هذا كان مشروطا بالدخول في الإسلام وأن يكون الرسول مولاهم. ونستنتج من هذا أن عتق العبيد كان يوظف لدواع سياسية حربية اقتضتها الظروف آنذاك. فقد كتب الرسول هذا الكتاب وغيره بعد أن اشتد عضد المسلمين وتحقق لهم النصر في معاركهم. 

(قالوا: وكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجماع كانوا في جبل تهامة قد غصبوا المارة من كنانة ومزينة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد. فلما ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. وفد منهم وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- فكتب لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:، بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لعباد الله العتقاء أنهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فعبدهم حر ومولاهم محمد ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه فهو لهم وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم ولا ظلم عليهم ولا عدوان وإن لهم على ذلك ذمة الله وذمة محمد والسلام عليكم،)

فهرس الكتاب  السيرة النبوية  ذكر بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسل بكتبه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وما كتب به رسول الله صلى الله عليه وسلم لناس من العرب وغيرهم

https://shamela.ws/book/1686/211#p2

وأمام هذه المعضلة يرى دكتور عيسى أن المستشار عبد الجواد ياسين يحاول أن يجد طريقا ينفذ منه إلى التوفيق بين تعريفه للدين بأنه مفهوم ثابت مطلق (ولو نسبيا) ذو مبادئ كلية للأخلاق، وبين التدين الديناميكي الذي يتغير استجابة للتغير المستمر في حياة الاجتماع مع توالي الأزمنة واختلاف الأمكنة. لم ينف مفكرنا المستشار عبد الجواد ياسين أن للرق أصولا وقواعد في الدين الإسلامي وشريعته، إلا أنه يرى أن المعالجة القرآنية للرق جاءت أكثر دفئا وأقل قسوة بدليل تعددية المسالك المؤدية إلى تحرير العبيد مثل:

d8a7d984d8b3d984d8b7d8a9-d981d98a-d8a7d984d8a5d8b3d984d8a7d985 د. محمد عيسى في صالون تفكير يتحدث عن الحرية والعبودية 3

• فك الرقاب واعتباره من الأعمال الخيرة

• العتق وتفضيله ضمن خيارات التعويض أو الديات

• العتق في بعض الكفارات عن الآثام أو المخالفات في أداء بعض الفروض كالصوم

لكن هذه الرؤية، في نظر دكتور عيسى أشبه ما تكون بأنها رؤية اعتذارية يلجأ إليها حتى اليوم كل من اليهود والمسيحيون وتمتلئ بها أدبياتهم.   

وفي نقده لفقه الرق وأحكامه في الشريعة الإسلامية يرصد المستشار عبد الجواد ياسين رأي القرطبي (الجامع لأحكام القرآن – ج 5 ص 190) أن تأسيس العبودية على إرادة الله في الفقه الإسلامي حيث إن الكل عبيد الله، والمال مال الله، لكن سخر بعضهم لبعض، وملّك بعضهم لبعض. 

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي بَلْ لِيَقُلْ فَتَايَوَفَتَاتِي) وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ «٢» عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَنَدَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّادَةَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحَضَّهُمْ عَلَيْهَاوَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الْإِحْسَانِ وَإِلَى سُلُوكِ طَرِيقِ التَّوَاضُعِ حتى لا يروا لأنفسهم مَزِيَّةً عَلَى عَبِيدِهِمْ، إِذِ الْكُلُّ عَبِيدُ اللَّهِ وَالْمَالُ مَالُ اللَّهِ، لَكِنْ سَخَّرَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ، وَمَلَّكَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ وَتَنْفِيذًالِلْحِكْمَةِ، فَإِنْ أَطْعَمُوهُمْ أَقَلَّ مِمَّا يَأْكُلُونَ، وَأَلْبَسُوهُمْ أَقَلَّ مِمَّا يَلْبَسُونَصِفَةً وَمِقْدَارًا جَازَ إِذَا قَامَ بِوَاجِبِهِ عَلَيْهِ. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو إِذْ جَاءَهُ قَهْرَمَانٌ «٣» لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ: أَعْطَيْتُ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلُكُ قُوتَهُمْ). الْخَامِسَةُ عَشْرَةَ- ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ ضَرَبَ عَبْدَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ أَوْ لَطَمَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ«٤»). وَمَعْنَاهُ أَنْ يَضْرِبَهُ قَدْرَ الْحَدِّ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ. وَجَاءَ عَنْ نَفَرٍمِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمُ اقْتَصُّوا لِلْخَادِمِ مِنَ الْوَلَدِ فِي الضَّرْبِ وَأَعْتَقُواالْخَادِمَ لَمَّا لَمْ يرد

ويوضح دكتور عيسى أن المستشار عبد الجواد ياسين يرى أن العقل الفقهي يخلط بين “الأمر الواقع” وبين “الشرعية الإلهية” بفعل اللازمة الدينية التي تسند الأشياء إلى إرادة الله، من غير تفريق بين إرادته الشارعة”الأخلاق الكلية” وإرادته الخالقة “قانون الطبيعة وقانون الأخلاق”. وما هذا النقد لفقه الرق إلا محاولة أخرى تتماهى مع منظومة المستشار عبد الجواد ياسين الفكرية والتي عبرت  عنها  بإسهاب كتاباته في أمر الدين والتدين. وتجاوبا مع هذه المنظومة، يرى المستشار عبد الجواد ياسين أن التناقض الأخلاقي يظهر بشكل واضح في معالجة الفقه لأحكام العبودية، والتي تميز بين العبيد والأحرار في الحقوق والواجبات، بما في ذلك حق الحياة الذي ينص على أنه “لا يجوز قتل الحر بالعبد” وذلك استثناء من مبدأ القصاص. 

ويورد المستشار عبد الجواد ياسين نماذج أخرى من أحكام الرق في الفقه الإسلامي توضح مدى توافق هذه الأحكام مع العرف الذي كان سائدا في زمن تلقي الوحي ومكانه مثل حكم التمتع بملك اليمين، وموقف عمر من المرأة التي تسررت بغلامها وأنه (عمر) قضى بتحريم زواجها من أي حر. كان هذا قضاء بالعرف السائد آنذاك والذي يرى أن التمتع بملك اليمين قاصر على الرجال دون النساء برغم عموم النص القرآني ” والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين” (سورة المؤمنون 23 الآيات 5-6).

ولم يكن المستشار عبد الجواد ياسين هو الوحيد الذي وقع عليه عبء التوفيق بين عبودية الإنسان للإنسان بمفهوم نصوص الدين وتجليها في ممارسات تدين الجماعات الإسلامية، بل لم يكن المفكرون المسلمون والدعويون هم وحدهم الذين تحملوا تفنيد أقوال المهاجمين للإسلام من هذه الزاوية المعقدة. هناك عشرات، بل مئات المواقع الإلكترونية والكتب والمقالات التي تتشابه إلى حد بعيد في محتواها وحججها، بل وفي مفرداتها اللغوية، تسوق الحجج المنطقية والتاريخية للبرهنة على أن الأديان، وإن تضمنت نصوص كتبها المقدسة إباحة الرق، إلا أنها تضمنت الكثير من التصرفات والشواهد على سعيها للقضاء عليها وتقنينها تحت ضغط الواقع وظروفه. 

وبالتأكيد فإن مسألة الرق في الأديان الكتابية الثلاثة ما زالت تشغل مساحات كبيرة من عقول رجال الدين ونسائه، وتمتحن قدراتهم على التوفيق بين نصوص الكتب المقدسة وواقع الاجتماع الإنساني المعاصر، خاصة في حواراتهم مع الأجيال الجديدة، والتي تكونت عقلياتها تحت ظروف وعوامل مختلفة وتحت ظروف أشد اختلافا. وقد نشأت تلك الأجيال الجديدة في مجتمعات لا بشكل العبيد فيه شريحة اجتماعية تحكم التعامل حيالها قوانين خاصة وتشريعات تستمد سندها من نصوص دينية، هي جزء ثابت ومقدس مما يحفظون يتوارثون.

الدين والحرية والمواطنة:

أضاف دكتور عيسى أنه ما دمنا نتكلم عن الأديان ومفهوم الحرية في ظل تطور الدولة، فلا بد من الإشارة، ولو باختصار شديد لمفهوم المواطنة وعلاقته بالحرية الدينية من وجهة نظر المستشار عبد الجواد ياسين. 

يرى المستشار عبد الجواد ياسين أن المواطنة هي أحد ركنين تقوم عليهما الدولة المدنية الحديثة: 1) القانون (علمانية التشريع)؛ 2) المواطنة (علمانية الانتماء). وقد تشكلت فكرة الدولة الحديثة تاريخيا في سياق مقابل لفكرة الأممية الدينية، وأصبحت واقعا قائما وضروريا. واليوم يعاني مفهوم المواطنة من إشكالية يسببها تراجع الوعي بفكرة المواطنة ذاتها، يصاحبه تراجع في الحقوق الأساسية التي توفرها فكرة المواطنة. 

d8a7d984d984d8a7d987d988d8aa د. محمد عيسى في صالون تفكير يتحدث عن الحرية والعبودية 3

و يرى دكتور عيسى أنو المستشار عبد الجواد ياسين يعتقد  أن الأصولية التي طرأت على المجتمع المصري هي السبب الرئيسي في إعاقة انتشار الوعي بمفهوم المواطنة، كما أن المنظومة السياسية، في محاولتها إرضاء كل التوجهات الأيديولوجية رغم اختلاف مناهجها وأهدافها، قد أوقعت نفسها في مآزق دستورية وقانونية لجأت فيها إلى التلفيق والترقيع، وخلقت مناخا من البلبلة والفوضى التي تصب في مصلحتها. وفي مقارنته بين الدساتير المصرية منذ سنة 1923 إلى 2014 يبين المستشار عبد الجواد ياسين الخلل في صيغ الدساتير الأكثر حداثة، ومن ثم القوانين المستندة إليها. ومن هذه المقارنة تكاد تصاب باليأس من إمكانية الإصلاح بسبب التعقيدات والمخالفات والتضارب والتناقض داخل مواد الدستور نفسه، خاصة دستور 2014 المعمول به الآن في مصر. 

وإذا سلطنا الضوء على الحرية الدينية، وهي موضوع حديثنا اليوم، ضمن مفهوم المواطنة، نجد أن المادة 12 من دستور 1923 قد تضمنت عبارة يصفها رجل القانون المستشار عبد الجواد ياسين أنها صياغة قانونية رفيعة وعلى قدر كبير من الذكاء والحنكة. المادة 12 تتكون من ثلاث كلمات فقط وتنص على أن “الحرية الدينية مطلقة”. معنى ذلك أنه لا يوجد عليها أي قيد. “وهذا معنى يتقبله التدين المصري الطبيعي . . . الشعب المصري لم يكن أقل تدينا في سنة 1923.” قارن هذا بدستور 2014 الذي تتعارض فيه المادة 2(الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.) مع المادة 4 (السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات، ويصون وحدته الوطنية التي تقوم علي مبادىء المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، وذلك على الوجه المبين فى الدستور). وهي مواد تحيل إلى بعضها وتخلق بلبلة في تطبيقها وفي صياغة القوانين التي تؤثر بدورها على التمتع بالحرية الدينية التي هي عنصر أساسي في مفهوم المواطنة كما ينبغي أن تفهم وتمارس. 

و ختم دكتور عيسى محاضرته بأن  المستشار عبد الجواد ياسين يؤكد في منظومته الفكرية أن آيات الأحكام الواردة في القرآن هي إفراز طبيعي لسياقها الزمني والإقليمي، أي أنها منتج مباشر للنظام العرفي السائد في المحيط العربي عند القرن السابع وهي تعكس كذلك تطورات هذه الأحكام في عصر التدوين في القرون الثلاثة اللاحقة. وقد أدى التطور التدريجي للفقه لإغلاق النص، فتحولت المعالجات القرآنية الجزئية إلى نظام قانوني شامل سيتطور فيما بعد- بحكم إسلام الدولة- إلى معطىً سياسي يمثل جزءا من بنية الإسلام المُلزِمة. 

ومن هذا المنطلق كانت آراؤه عن الحرية الدينية متوائمة مع منهجه في التفكير وتحليله للنصوص والوقائع التاريخية وعرضه للمتغيرات وتطورات الممارسات الدينية في الاجتماع الإسلامي. ورغم أن مجال ملاحظاته و دراساته وتجاربه الشخصية كانت محكومة بحدود الاجتماع الذي نشأ في رحابه وتفتحت فيه أفكاره وتطورت فيه عقليته؛ إلا أنه قد تفوق بفضل ذكائه وعقليته الدائبة التساؤل، وبفضل شجاعته الفكرية وعشقه للمعرفة، وبفضل موضوعيته والتزامه بمبادئ العدل والحرية، وبفضل ثاقب نظره  و إيمانه وثقته بنفسه وفي ما يبدي من آراء، واستعداده لقبول الآخر فكريا واجتماعيا، وبفضل الكثير من الصفات الشخصية والعوامل الخارجية، قد تفوق على كثير من معاصريه في السعي وراء الحقيقة ومشاركة أفكاره التي ربما قد تتغير مع تغير قناعاته وتطورها. 

وأبدى دكتور عيسى عن أمنيته  أن يرى دراسات مقارنة للمجتمعات الإسلامية المعاصرة، خاصة المجتمعات التي تقدم نفسها بأنها إسلامية الدولة دينية التوجه، سواء كانت عربية أم غير عربية ومواقفها من مشكلات الدين والتدين وتكوين الدولة الحديثة ومواجهة مشاكل العصر في ظل ما في الإسلام كدين وفي تدين المسلمين من تحديات مفاهيم الحرية على اختلاف أنواعها، خاصة حرية الرأي، حرية الاعتقاد، الحرية الإنسانية.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

تعليق واحد

اترك رد

ندوات