رحلة قصيرة مع أفكار صوفية… بقلم د.وسام يونس

د: وسام يونس

d988d8b3d8a7d985-d98ad988d986d8b3-d8afd988d8b1d8a9-d8a7d984d8aad8b5d988d981-1039156454-e1717078781179 رحلة قصيرة مع أفكار صوفية... بقلم د.وسام يونس

1. مقدمة

في مطلع القرن الحادي و العشرين شهد العالم موجة من النفور من الإسلام و المسلمين. عبرت قطاعات عريضة عن كراهيتها للإسلام و المسلمين، و أبدت إدانتها للدين الإسلامي باعتباره دين ارهاب. و في الجانب الآخر تعاطف أفراد و قطاعات مع المسلمين، من منطلق أن المسلمون عدد هائل من الأفراد و ليسوا متطابقين، و أن التحامل ضدهم ليس من العدل أو الموضوعية.  وكانت أحداث 11 سبتمبر 2001 من أهم أسباب تصاعد الإسلاموفوبيا، أو علي الأقل كانت من أهم الأسباب التي جعلت الإسلاموفوبيا أكثر علانية. و ما بين كاره و متعاطف و صاحب فضول معرفي موضوعي، أصبح الدين الإسلامي محور اهتمام أفراد و قطاعات عديدة في العالم.

و لكن الحقيقة أن العلماء و الباحثين اهتموا بدراسة الإسلام من قبل هذه الموجة. ظهرت دوائر اهتمام بحثية عديدة و مختلفة في العلوم الاجتماعية لدراسة جوانب من الإسلام من ضمنها: الإسلام السياسي، والإسلام السياسي الإرهابي، و عملية إنتاج المعرفة في المؤسسات الدينية الاسلامية مثل الأزهر، و العلاج بالقرآن (أو العلاج البديل)، و ظاهرة الطائفية الدينية، والإسلام الصوفي. الأمر يحتاج إلي قراءة طويلة في الأدبيات حتي نتمكن من معرفة النتائج المهمة في هذه الدوائر و معرفة الفراغات التي يجب أن تملأها الأبحاث الجديدة.

علي المستوي الشخصي، أنا أميل للاسلام الصوفي، وهذا أحد أسباب اعتقادي أن الإسلام الصوفي يحتاج إلي المزيد من الاهتمام و البحث. وعلى مستوي أكثر موضوعية، وفقا لما تعلمته من أحد مشايخ الطرق الصوفية، الإسلام الصوفي يهتم بالقيم الاسلامية، و ليس بالأشكال والصور، كما أنه يهتم بتنمية الفرد لقدراته. من هنا نستطيع أن نفترض أن الإسلام الصوفي من الممكن أن يكون له دور ايجابي في تنمية الفرد و المجتمع و تقليل الفساد و الجهل، و من هنا تكمن أهميته. و هذا افتراض حتي تؤكده أو تنفيه الأبحاث العلمية العينية. في هذا البحث اهتممت بمعرفة التيمات الأساسية في مجموعة من خطب أحد شيوخ الطرق الصوفية: السيد/علي رافع. وأشارت نتائج بحثي بأن التيمات الأساسية هي 1) ارادة الله ومسئولية الإنسان، و 2) تفعيل الإنسان لقدراته، و 3) الوعي و التساؤل، و أن هذه التيمات الثلاثة مرتبطة ببعضها.

2. تسليط الضوء علي فكر صوفي من خلال خطاب السيد/علي رافع

الأستاذ الدكتور أحمد رافع (١٩٠٣-١٩٧٠م) هو أستاذ هندسة الكمبيوتر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وهو أيضا شيخ طريقة صوفية، و معروف باسم السيد/ علي رافع لدائرته المقربين. و قد حضرت و استمعت لبعض خطبه و دروسه، و عرفت شيء من الفكر الصوفي من خلاله. و سؤال البحث الخاص بهذه الورقة هو ما هي التيمات المهمة التي تكررت في مجموعة من خطب للسيد/علي رافع؟ و قد تكون بحثي من تحليل محتوي لأربعة من خطب السيد/علي رافع بهدف معرفة التيمات الأساسية بها. و هذه الخطب الأربعة بعناوين: 1) “حين يُوجد في الإنسان طلبٌ للحقِّ، إنَّها نقطة البداية”، و 2) “يعيش الإنسان ويسعى في هذه الحياة بين صوتٍ من خارجه وصوتٍ من داخله”، و 3) “ماذا نفعل ونحن لا ندرك الفعل الذي يؤدِّي بنا إلى التَّوافق والتَّناغم مع إرادة الله؟”، و 4) “كثيرًا من التَّساؤلات التي نطرحها، إجاباتها موجودةٌ في آيات الله لنا“. هناك مجموعة كبيرة من خطب السيد/علي مدونة (كمحتوي مكتوب) علي الموقع الالكتروني الخاص بالجمعية التي يرأسها، و هي الجمعية المصرية للبحوث الروحية و الثقافية، و قد حصلت علي الخطب من الموقع الالكتروني.

و قمت بتحليل المحتوي عن طريق الترميز الأولي (initial coding) ثم الترميز المركز (focused coding). توضح شارماز و آخرون (2018) أن عملية الترميز هي تسمية شرائح من بيانات (أومحتوي) بأسماء بهدف التصنيف أو الاختصار. كما تشير إلي أن في الترميز الأولي يكون الباحث قريب من المحتوي ويقوم بصياغة تعريفات للأنشطة أو الأفعال التي يراها تحدث في المحتوي. و يكون الترميز بسيط و قصير و دقيق. أما في عملية الترميز المركز فيقوم الباحث بمقارنة الرموز الأولية و دراسة العلاقات بينها وبناء على ذلك يتم ترتيب و تصنيف الرموز الأولية في هيئة فئات جديدة، مما يساعد في تصميم الرموز المركزة. و تكون الرموز المركزة أكثر توجها و انتقائية و مفهومية أو تجريدا (conceptual) من الرموز الأولية (شارماز و آخرون 2018).

بدأت بعمل ترميز أولي (initial coding) للمحتوي بكامله. حين قمت بعمل ترميز أولي للخطب الثلاثة الأولي حصلت علي خمس و عشرين رمز أولي. و حين بدأت في ترميز الخطبة الرابعة لم أجد رموز أولية جديدة، أي لم أجد غير مجموعة رموز أولية من الخمس و عشرين رمز أولي الذين وجدتهم في الثلاثة خطب الأولي. إذا، فنتيجة الترميز الأولي للمحتوي كله (الخطب الأربعة) كانت حصولي علي خمس و عشرين رمز أولي. ثم قمت بعملية ترميز مركز (عن طريق تحليل الرموز الأولية التي حصلت عليها) وحصلت من خلالها علي ثلاثة رموز مركزين (أو فئات) واحتوت هذه الرموز المركزة علي تسعة عشر رمز أولي من الخمس و عشرين رمز أولي. و استمرت عملية التحليل، و قمت بنقل  بعض الرموز الأولية من مكانها في رمز مركز إلي رمز مركز آخر، و بناء علي ذلك غيرت أسماء بعض الرموز المركزة بعض الشيء لتعبر عن الرموز الأولية الجديدة التي احتوت عليها مؤخرا. و في النهاية انتهت عملية التحليل بحصولي علي الثلاثة رموز المركزة الآتية: 1) ارادة الله ومسئولية الإنسان، و 2) تفعيل الإنسان لقدراته، و 3) الوعي و التساؤل. و بعض المحتوي تم ترميزه في أكثر من رمز من هذه الرموز الثلاثة.

         و هذه التيمات الثلاثة مرتبطة ببعضها. بالنسبة للتيمة الأولي، تأكيد أن الله له إرادة نافذة هي أحد الأسس الايمانية في كل الأديان السماوية. و هي الخلفية التي يجب أن يفهم الانسان من خلالها علاقته مع الله. والإنسان مسئول عن تصرفاته و ليس مجبرا، وبناء علي ذلك من البديهي أن يكون مطالب بمهام معينة. و هذه المهام موضحة في التيمة الثانية و الثالثة: تفعيل الإنسان لقدراته و الوعي و التساؤل، فالإنسان مطالب بأن يفعل قدراته و بأن يرفع من وعيه في الاتجاه الصحيح. و تفعيل القدرات و رفع الوعي مرتبطان كما يتضح أسفل.

2. 1 إرادة الله ومسئولية الإنسان

يدعي السيد/علي أننا لا نعرف إرادة الله تحديدا، و لذلك فهو يطرح سؤال (بغرض الإيضاح) عما يجب علينا أن نفعل و نحن لا نعرف ما الذي يؤدي بنا إلي التوافق مع إرادة الله الكلية. في اجابة السيد/علي عن هذا السؤال يوضح أنه بالفطرة (أو الضمير) وإعمال العقل يستطيع الإنسان أن يعرف ما فيه الصلاح له و لمن حوله في الدنيا، و أن ما فيه الصلاح للناس في الدنيا هو ما يجب علي الإنسان أن يفعله ظنا منه بأنه متوافق مع ارادة الله. يتضح هذا المعني في خطب السيد/علي من خلال عدة نقاط و بعض التفاصيل التي تتعرض لمفاهيم الغيب و المجرد و المقيد، و يظهر مفهوم الافتراض (في البحث العلمي) أيضا.

عدم معرفتنا بارادة الله، في خطب السيد/علي، تعني أن كل ما يحدث هو ارادة الله، و أن إرادة الله قائمة دائما. و لذلك فهو يقول:

“ونحن ـ كواقعٍ ـ لا نستطيع أن نعرف إرادة الله، فإرادة الله قائمة، سواء فيما نُحِبُّ أو نكره، فيما نراه خيرًا أو نراه شرَّا، فإرادة الله قائمةٌ بلا شكل، وبلا رسم، وبلا صفة، ويجب علينا ألَّا نصفها بصفة، فهي فوق الصِّفات والأشكال”(رافع 2019).

و لذلك فنحن لا نستطيع أن نصف حدث معين بأنه متوافق مع ارادة الله، و أن نصف آخر بأنه غير متوافق مع إرادة الله. ويقول السيد/علي:

“ندرك هذا المعنى. معني ‘الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ‘ (الأعراف 43) التي ذكرها قبل ذلك مباشرة في الخطبة تجريدًا، وإكبارًا، وإطلاقًا، للقدرة اللانهائيَّة التي وراء هذا الكون والتي في هذا الكون، وندرك أنَّنا بتوافقنا وتناغمنا مع هذه الإرادة، نكسب أكثر في الله، وهذا أيضًا إيمانٌ مجرَّد، لا نستطيع أن نقول أنَّ فعلًا مَّا متوافقٌ مع إرادة الله أو غير متوافقٍ مع إرادة الله، وإنَّما فهمنا هذا، هو فهم ٌ لقانون الحياة. والتَّساؤل هو: ماذا نفعل ونحن لا ندرك الفعل الذي يؤدِّي بنا إلى التَّوافق والتَّناغم مع إرادة الله” (رافع 2019)؟

إذا فالسيد/علي يدعي أنه من المهم لنا أن نتوافق مع ارادة الله، ثم يعود و يقول أننا لا نستطيع أن نصف حدث معين بأنه متوافق مع إرادة الله أو آخر بأنه غير متوافق مع إرادة الله. قد يبدو هذا تناقض، و لكن هناك ما يفسره في خطب السيد/علي. فهو يقول أننا نستطيع أن نعرف الصلاح لنا -كبشر- جميعا من خلال الفطرة التي فطرنا الله عليها. و ذلك هو الطريق الذي الذي يجب أن نتبعه كي نتوافق مع إرادة الله التي لا نعلمها و نتعامل معها كمفهوم مجرد.

يدعي السيد/علي أن إرادة الله هي غيب بالنسبة لنا، و لكن حياتنا بها غيبيات أخري ننجح في مواجهتها و التعامل معها. حياتنا الدنيوية اليومية و علمنا الدنيوي بهما الكثير مما نجهله، و هذا لا يمنعنا من استمرار محاولة المعرفة. و يحدث ذلك عن طريق المنهج العلمي مما يتضمن وضع افتراضات و محاولة تحقيقها، فيقول تحديدا:

“هذه مُعْضِلةٌ في كلِّ أمور حياتنا، فنحن لا نعرف الغيب، ولا نطَّلع على الغيب، بل أنَّنا في حياتنا المادِّيَّة وفي علمنا المادِّيّ لا نعرف الكثير، وهو بذلك يكون غيبًا علينا، ولكنَّ الإنسان وَجد من خلال تجاربه ومشاهداته وسيلةً للتَّعامل مع هذه المُعْضِلة، وهذه الوسيلة هي المحاولة، وهي الاكتشاف، وهي المشاهدة، وهي أن يضع فرضًا ويحاول أن يحقِّقه، يُكوِّن له صورةً عمَّا لا يعرفه، ويُجرِّب، ويُغيِّر، ويُعدِّل” (رافع 2019ج).

يعطي السيد/علي أمثلة عن بعض الأشياء التي لا نعلمها من ارادة الله، و يؤكد أننا نستمر في محاولة المعرفة بالرغم من الغيب الذي يحيط بنا. فيقول:

“نريد هنا أن نُفرِّق بين ما لا نستطيع وما نستطيع، وهذا ما نذاكر به دائمًا في معنى الفهم المُجرَّد، والعمل والفهم المُقيَّد. وما قلناه الآن، هو مثالٌ لذلك، فأنت لا تعرف ما يريد الله بك، وما يريد الله لك، وهذا فهمٌ مُجرَّد، ولكن لا يمنعك ذلك عن أن تحاول في واقعك أن تُغيِّر، وأن تُبدِّل، وأن تختار، وأن تحاول، وأن تُجرِّب، وأن تطرق الأبواب، وأن تبحث في العلوم، وأن تبحث فيما يحيط بك من طرقٍ ووسائل، لتُغيِّر بها حالك إلى الأفضل والأحسن والأقوم” (رافع 2019).

يقول  السيد/علي أننا لا نستطيع أن نضع افتراضات لإرادة الله، التي لا نعرفها، و لكن ما يقابل إرادة الله هو الصلاح في حياتنا الدنيا. و نحن نستطيع أن نعرف الصلاح بالفطرة، ثم نستطيع أن نضع له افتراضات و نحاول تحقيقها. فيقول حرفيا:

“بالنِّسبة لإرادة الله الكليَّة، لا نستطيع أن نضع لها فرضًا، ولكنَّنا نستطيع أن نضع فروضًا لأمورٍ نرى فيها الصَّلاح في حياتنا، هذه الفروض لها علاقةٌ بحياتنا الأرضيَّة، لها علاقةٌ بنظامنا الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، لها علاقةٌ بحياة الإنسان المادِّيَّة ومستقبله على هذه الأرض” (رافع 2019).

اذا فالصلاح هو البديل عن إرادة الله التي لا نعرفها. و إرادة الله نافذة و قائمة دائما، و لكننا لا نعلمها تحديدا. و من الممكن أن نتعامل مع الصلاح عن طريق وضع الافتراضات. و أما الإنسان فهو مسئول. نري من هذا أن أسلوب السيد/علي فيه شيء من التحديد، و أنه يشرح أفكاره من خلال الأمثلة و رسم الطرق و أنه لا يكتفي بالفكر التجريدي. هذا بالرغم من أن المناقشة في هذا القسم، عن تيمة ارادة الله ومسئولية الإنسان، تعتبر أكثر تجريدا من مناقشة واجبات الإنسان التي سنتناولها في القسمين التاليين.

في هذا القسم ناقشنا ارادة الله ومسئولية الإنسان. طالما أن الله مطلق القوة، و أن الإنسان مسئول، و أن الإنسان مطالب من الله بالعبادة، فالبديهي أن تقتضي مسؤلية الإنسان أن يكون له واجبات معينة طلبها الله منه. في القسمين التاليين سننتقل إلي مستوي أكثر صلابة و تحديدا و سنناقش هذه الواجبات من خلال التيمات التي وجدتها في خطب السيد/علي. سنناقش في القسم التالي تيمة تفعيل الإنسان لقدراته، و في القسم الذي يليه تيمة الوعي و التساؤل.

2. 2 تفعيل الانسان لقدراته

إذا قلنا أن الإنسان مسئول، فهذا يعني أن لديه وعي كما يعني أنه مطالب بواجبات. و من منظور السيد/علي، أحد أهم واجبات الإنسان في هذه الحياة هو تفعيل قدراته بهدف الصلاح لنفسه و لمن حوله. فتفعيل الإنسان لقدراته هو لب العبادة والعبودية لله. فقد خلق الله الإنسان لكي يعبده، و كل ما يفعله الإنسان في حياته علي هذه الأرض هو عبادة. و قيام الإنسان بالتعلم في حياته الدنيا هو أحد أنشطته الأساسية، و إن كان من الممكن أن يؤديها الإنسان دون وعي منه بأنها عبادة. بالنسبة للسيد/علي تفعيل القدرات العقلية (والتعلم) من أهم العبادات، و لذلك فهو يلفت النظر إليه و يضعه في سياق فائدته، فيقول:

“إِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ(الذاريات 6)، ‘وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‘، فيعبدون (الذاريات 56) هنا هي ما تفعلون، وما به تقومون، وما تتَّخذون من قراراتٍ في حياتكم، وفي وجودكم، وفي سلوككم، إنَّها كلَّها عبادةٌ لله. خَلَقكم لتتفاعلوا مع هذا الكون، فتُغيِّروا وتتغيَّروا، فتُصلِحوا وتُصلَحوا، تُعلِّموا وتتعلَّموا، تصنعوا، وتزرعوا، وتحصدوا، ولنتائج أعمالكم تُحصِّلوا، فبها تعيشون، وتكافحون، وتجاهدون، وتتحابُّون وقد تتصارعون، تجتمعون وتفترقون، تتواصون وقد تختلفون، فإذا اختلفتم فلترجعوا إلى عقولكم، وإلى ما ترون فيه صالح وجودكم، حتَّى تجتمعوا على أمرٍ بينكم به تُصلِحون مجتمعكم وتُغيِّرونه إلى الأفضل في حياتكم” (رافع 2020).

يظهر في النص السابق إشارة السيد/علي إلي طبيعة حياة الإنسان علي الأرض و انخراطه فيها في العمل للحصول علي نتائج و محاولته للتغيير. ذلك لأن الإنسان، عامة، في حالة بحث و تجربة و محاولة للتغيير بشكل مستمر. و ذلك أمر واقع في حياة الانسان و ثابت تاريخيا، و لكن الناس، كأفراد، ليسوا سواء من حيث مدي اشتراكهم في هذا النشاط. فمن الناس الباحث و المنتج و المطور، كما أن منهم الكسول و السلبي و الغير منتج. و لكن تطوير الانسان لنفسه و مساهمته في بناء حضارته بشكل مستمر هما صفة من صفاته. و دعوة السيد/علي هي أن يحاول الإنسان أن يكون من الباحثين المنتجين المطورين، و ليس العكس. السيد/علي يسلط الضوء علي أهمية التعلم و تفعيل القدرات بنية عبادة الله و في اتجاه الصلاح للناس جميعا. و يظهر هذا بشكل أكثر تحديدا و صلابة –في خطب السيد/علي- حين يربط التعلم و تفعيل القدرات بعبودية الله وبالقرآن بشكل مباشر، فهو يقول:

“فالعبوديَّة لله في هذا السِّياق _سياق سورة الفاتحة_ هي إدراك الإنسان لما أوجد الله فيه من قدراتٍ وإمكانات تجعله قادرًا على التَّعلُّم، والتَّفكُّر، والتَّدبُّر، من الحياة المحيطة به، ومن الحياة المحيط هو بها، فتجعله بذلك متفاعلًا مع ما تَجلَّى الله به عليه من خارجه ومن داخله” (رافع 2019ب).

فيجب علي الإنسان أن يتفاعل مع ما حوله و هو يفعل قدراته.

و في النص التالي يوضح السيد/علي أيضا أهمية تفعيل القدرات و ارتباطه بحمد الله من خلال آيات فاتحة الكتاب، فيقول:

“فإذا قرأوا ‘الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‘، حملت لهم هذه الآية معنى ‘الْحَمْدُ‘، ومعنى ‘رَبِّ الْعَالَمِينَ‘. فالحمد هو قيامٌ يستطيع الإنسان أن يدركه بتأمُّله، وتفكُّره، وتدبُّره، فقد خُلِق الإنسان في صورةٍ، وفي بيئةٍ، وفي حالٍ، وبقدراتٍ وإمكاناتٍ قد تكون قليلةً وصغيرة، وقد تكون كبيرةً وكثيرة، وهو لا يملك أن يُغيِّر صورته، ولا أن يُغيِّر بيئته، ولا أن يُغيِّر قدراته الأساسيَّة، إنَّما يستطيع أن يُنمِّي هذه القدرات بالتَّدبُّر، والتَّعلُّم، والتَّأمُّل، وبالعمل، وبالذِّكر، وبالاستماع، وبالقراءة.

هذا الحال إذا قام فيه الإنسان، أنَّه عرف إمكانيَّاته وقدراته، ورضى عن هذا الحال الذي هو فيه، وفَعَّل ما فيه من قدرات وطاقات، عرف معنى ‘الْحَمْد‘، سيكون قلبه راضيًا عن وجوده، غير ناقمٍ على حاله، يدرك أنَّ الله ‘رَبُّ الْعَالَمِينَ‘، ليس ربَّه فقط، وإنَّما هو ‘رَبُّ الْعَالَمِينَ‘، ربُّ من يخالفونه في العقيدة، وفي الفهم، وفي الإدراك، وفي السُّلوك، وفي العمل، وفي العلم، في كلِّ شيء، فلا يقول كيف يفعل الله لهؤلاء ذلك وأنا أفضل منهم، وهم أقلُّ منِّي، الله ‘رَبُّ الْعَالَمِينَ‘، لا يحكم على أحدٍ، ولا يَصِم أحدًا بأيِّ نقيصةٍ أو صغيرةٍ، إنَّما يكون دائمًا مدركًا أنَّ الله ‘رَبُّ الْعَالَمِينَ‘” (رافع 2019أ).

فقدرة الإنسان علي التعلم، التي وهبها الله له، هي رأس مال الإنسان الحقيقي. و يجب علي الإنسان أن يشكر الله عليها بتفعيلها –لصالح الناس- و ذلك هو صميم عبادة الإنسان لله و نشاطه علي هذه الأرض. وإذا فعل الإنسان هذا، رضي عن وجوده وواقعه، و قبل حياته في هذه الحياة  الدنيا و عرف غايته.

و في القطعة التالية تظهر أهمية تفعيل القدرات بشكل قوي، فالتعبير مجازي، و يصل إلي درجة اعتبار أن الله موجود في قدرات الإنسان. يقول السيد/علي:

“حين يدرك الإنسان ذلك يُعبِّر عنه بـ ‘إِيَّاكَ نَعْبُدُ‘، فيجد الله في قدراته، ويجد الله في أسباب الحياة، فيحاول أن يتعلَّمها، ويحاول أن يُطبِّقها. وقيام الإنسان في حالٍ يفتقر فيه إلى الغيب هو حالٌ يُعبِّر عنه بـ ‘إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‘، وقدرته على أن يُميِّز بين الحالين هي معنى: ‘الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‘” (رافع 2019ب).

ويوضح السيد/علي الارتباط بين تفعيل الإنسان لقدراته و الاستعانة بالله من خلال آيات فاتحة الكتاب، موضحا أن تفعيل القدرات هي البداية و هي العبادة، ثم تأتي بعدها الاستعانة بالله في كل ما لا نستطيع فعله. فيقول السيد/علي:

“‘إيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‘ وهي ما أشرنا إليه في الكلمات السَّابقة، من أنَّ هناك لحظاتٍ ليس لك فيها إلَّا أن تستعين، إلَّا أن تتَّجه، إلَّا أن تدعو. ‘إِيَّاكَ نَعْبُدُ‘ هي في كلِّ ما تستطيع أن تفعله على هذه الأرض لتخرج من الظُّلمات إلى النُّور. ‘وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‘ هي كلُّ ما لا تستطيع أن تفعل فيه شيئًا بقدراتك وإمكاناتك، وإنَّما تتَّجه إلى مصدر الحياة، وإلى مصدر الحقِّ، وإلى مصدر القوَّة، ليعينك على أن تواجه حالك، وقيامك، وأحداث الحياة حولك” (رافع 2019ب).

والمعنى الضمني لعبارة”في كلِّ ما تستطيع أن تفعله على هذه الأرض لتخرج من الظُّلمات إلى النُّور”، هو كل ما تستطيع أن تفعله بقدراتك لتخرج من الظلمات إلي النور، و ذلك المعنى الضمني يتضح من الجملة التالية و النصوص الأخرى من الخطبة المعروضة أسفل. الجملة التالية التي فسر بها السيد/علي آية “اياك نستعين” تقول: ” هي كلُّ ما لا تستطيع أن تفعل فيه شيئًا بقدراتك وإمكاناتك، وإنَّما تتَّجه إلى مصدر الحياة “. فهذا طلب بأن البداية تكون بأن نفعل قدراتنا بقدر ما نستطيع و أن هذه هي العبادة، ثم تأتي بعد ذلك الاستعانة بالله في كل أمر نريد أن نفعله و هو ليس في مقدرتنا.

و يذكر السيد/علي تفعيل القدرات في حديثه عن حاضر الإنسان و مستقبله. و يظهر في هذا الحديث بشكل مباشر و بقوة أن تفعيل الإنسان لقدراته هو واجبه. و الدعوة فيه أن يكون هذا التفعيل في تغيير الباطل إلي الحق، فهو يقول:

“أمَّا حاضره الذي يستطيع أن يحيط به، فهو مطالبٌ فيه بأن يبذل كلَّ جهده ليُغيِّر ما يرى فيه باطلًا إلى حقٍّ، وما فيه ظلامٌ إلى نور، يحاول أن يكون أفضل، وأن يكون أحسن، بما علَّمه الله، وأوجد فيه من قدرةٍ على التَّعلُّم، وأن يصاحب ذلك أيضًا ألَّا ينسى في حاضره أنَّه في حاجةٍ دائمةٍ إلى أن يدعو ويذكر. حاضره بالاستقامة فيه، يساعده على أن يُصوِّب ما كان، وأن يُصلِح ما هو قادم” (رافع 2019ب).

فالدعوة ليست فقط إلي تغيير الباطل إلي الحق، و لكن معها تذكرة أن الإنسان يجب أن يفعل هذا من خلال قدرته علي التعلم التي أودعها فيه الله. فقد أودع الله في الإنسان هذه القدرة، و لكنه ترك له مهمة التعلم، و الحقيقة أنها مهمة صعبة. كما أن الدعوة تحتوي علي أن يفعل الإنسان أقصى وسعه في محاولته لتغيير الباطل إلي الحق.

و من واجب الإنسان في حاضره ينطلق السيد/علي إلي رؤية الإنسان لمستقبله. فقد ذكر السيد/علي أن الإنسان إذا أراد أن يعرف مستقبله فعليه أن يفعل قدراته لصالح الناس من حوله، ثم يلجأ إلي الله كي يلهمه، فهو يقول:

“وإذا أردت أن تعرف قادمك، وما ستؤول إليه، فاتَّجه إلى مصدر الحياة ليُلهمك ما عليك أن تُقدِّمه اليوم بأن تكون أداة خيرٍ لنفسك ولمن حولك، ولأن تُفعِّل كلَّ طاقاتك في سبيل الخير والحياة” (رافع 2019ب).

فدعوة السيد/علي هنا هي أن يفعل الإنسان قدراته (بهدف أن يكون أداة خير لنفسه و لمن حوله) كي يكون أهلا لإلهام الله إذا طلبه. الإنسان لا يستطيع أن يعرف الغيب، و قد ناقشت بالأعلي تيمة ارادة الله -التي لا نعلمها- كما ظهرت في خطب السيد/علي. و رغم أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف الغيب، إلا أنه يحاول معرفته و يشعر بالتوتر لعدم قدرته علي معرفته. و نصيحة السيد/علي هنا تجعل الانسان قادر علي تخطي توتره (الناتج عن عدم معرفته للغيب) لأن تفعيل الإنسان لقدراته يعتبر شرط لأن يكون الإنسان أهل لإلهام الله. إذا، فإلهام الله ممكن و له طريق.

اهتمامي بمناقشة تيمة تفعيل الإنسان لقدراته بالشكل الذي قمت به في هذا القسم بشكل يبدو فيه شيء من التكرار ليس فقط بهدف توضيح أهميتها من خلال التكرار. و لكن لأن ربط تيمة تفعيل الإنسان لقدراته مع المفاهيم الأخرى التي ظهرت معها في السياقات المختلفة يوضح معناها بالنسبة للسيد/علي. فتفعيل الإنسان لقدراته هو صميم العبادة والعبودية لله، و حمد الله، و سبب تجلي الله، و الاستعانة بالله، و شرط أهلية الإنسان لإلهام الله.

2. 3 الوعي و التساؤل

في القسم السابق ناقشنا تيمة تفعيل الإنسان لقدراته، و هي أحد الواجبات التي طلبها الله من الإنسان و إحدي مقومات العبودية، من منظور السيد/علي. أما في هذا القسم فسنتناول تيمة الوعي و التساؤل و هي واجب آخر طلبه الله من الإنسان، من منظور السيد/علي، و لكن السيد/علي دعي إليها بشكل أقل صراحة من دعوته لتفعيل القدرات. فالسيد/علي سلط الضوء علي صفة التساؤل في الإنسان و أهميتها، و نصح الإنسان أن يتسائل في الاتجاه الصحيح، و ادعي أن أسئلة الإنسان لها اجابات في كتاب الله، و نصح الإنسان بالبحث عنها و التدبر في فهمها.

السيد/علي يوضح أن الانسان (أي انسان) بطبيعته اعتاد علي التساؤل. فهو يقول:

“صوتٌ من خارجه يجعله يتَّجه إلى داخله، وصوتٌ من داخله يجعله يتَّجه إلى خارجه، وبين صوتٍ من خارجه وصوتٍ من داخله يعيش الإنسان، ويسعى الإنسان في هذه الحياة.

تساؤلاتٌ الإنسان لا حصر ولا حدَّ لها، فهو إن كان يتساءل عمَّا يفعل اليوم إلَّا أنَّه يتساءل أيضًا عن قادمه، وعن قديمه. ‘يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ، أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً‘[النازعات 11،10]، ‘… قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‘[يس 78]، ما هي حياتنا بعد هذه الأرض، وماذا كنا قبل أن نجيء إليها، من أين جئنا؟ هذا التَّساؤل موجود” (رافع 2019ب).

فالتساؤل هو صفة من صفات الإنسان عموما. و قد ذكر السيد/علي صفة التساؤل في الإنسان المؤمن أيضا فقال:

“وإذا تساءلتم هل نستوي مع الذين يعلمون أكثر منَّا، نحن جاهلون ولا نعلم الكثير، ماذا نفعل؟ فيجيبكم: ‘لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ‘(البقرة 286). وإذا تساءلتم لقد أسرفنا في أمر أنفسنا، فماذا نفعل، إنَّنا لا نستطيع أن نخرج من هذا الظَّلام الذي أوجدنا أنفسنا فيه، ولقد يئسنا من أن نتَّبع طريق الحقِّ، فيخاطبكم: ‘يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا(الزمر53)” (رافع 2020).

         تسليط الضوء علي التساؤل كصفة من صفات الانسان (العادي و المؤمن)، يرفع وعي جمهور السيد/علي. وان كان معروف أن الإنسان يتسائل، إلا أن ترديد المعلومة يلفت النظر إليها فيذكر المستمع بحال الإنسان. و حيث أن التساؤل يتم من خلال إعمال العقل و عدم ادعاء المعرفة، فإن التساؤل وعي. و تذكرة الإنسان بأنه علي درجة من الوعي يرفع وعيه. و يصل الأمر إلي اعتبار أن تساؤلات الإنسان في لحظة ما هي ما تعبر عنه و عن حاله، فالسيد/علي يقول:

“فإذا أردنا وصف الإنسان في لحظةٍ مَّا، فإنَّنا سوف نُعبِّر عنه بتساؤلاته، حال الإنسان يُوصَف بما يتساءل عنه. يتساءل عن صفاته، فيُجاب. ويتساءل عمَّا يفعل، فيُجاب. ويتساءل عن قديمه، فيُجاب. ويتساءل عن قادمه، فيُجاب” (رافع 2019ب).

رفع وعي الإنسان بتوضيح محورية الوعي و التساؤل لديه هي خطوة في حد ذاتها، و هي أيضا تمهد الطريق لخطوة تليها، ألا و هي التساؤل والوعي في الاتجاه الصحيح.

يحتوي خطاب السيد/علي علي دعوة للإنسان أن يستخدم وعيه و تساؤلاته كأداة ليصبح أكثر محاسبة لنفسه و ليكون ضميره أكثر يقظة. فهو يدعي أن حال الإنسان في الحاضر هو نتيجة لما كان عليه في الماضي، و يقول نصا:

“ماذا تفعل؟ السُّؤال الذي يطرحه الإنسان على نفسه. إذا أردت أن تفعل شيئًا، وأن تُقرِّر أمرًا فعليك أن تتعلَّم، وأن تبحث، وأن تسأل، وأن تُجرِّب. إذا أردت أن تعرف قديمك، فلتنظر إلى نفسك اليوم، فإنَّك اليوم إجابةٌ لما كنت عليه في سابق، وجودك، وحالك، وقيامك، هو نتاج ما كنت عليه، تستطيع أن تستنتج من حالك اليوم ما كنت عليه في الأمس.

فإذا وجدت نفسك في حالٍ مؤلمٍ صعبٍ، فاعلم أنَّك قد كنت سببًا في قديمٍ لأن تُلحِق بإنسانٍ هذا الحال،‘أعمالكم تُردُّ إليكم‘، وتعلم أنَّ لا نجاة لك من هذا الحال إلَّا بأن تلجأ إلى الذِّكر، وإلى الدُّعاء، وإلى الوُصلة بمصدر هذه الحياة ليساعدك أن تتغلَّب على هذا الحال، فقد أصبحت في حالٍ ‘لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ‘(النجم 58)” (رافع 2019ب).

و يترتب علي ذلك أن يعلم الإنسان أيضا أن أفعاله اليوم ستكون سببا لحاله في المستقبل. فهو إذا مسئول، و لديه القدرة أن يجعل حاله أفضل، و السيد/علي يقول ذلك بشكل مباشر:

“وإذا أردت أن تعرف قادمك، وما ستؤول إليه، فاتَّجه إلى مصدر الحياة ليُلهمك ما عليك أن تُقدِّمه اليوم بأن تكون أداة خيرٍ لنفسك ولمن حولك، ولأن تُفعِّل كلَّ طاقاتك في سبيل الخير والحياة” (رافع 2019ب).

فدعوة السيد/علي للإنسان أن يستخدم وعيه و تساؤلاته كأداة ليصبح أكثر محاسبة لنفسه و ليكون ضميره أكثر يقظة هي ما أقصده بالوعي و التساؤل في الاتجاه الصحيح.

         هنا يظهر ارتباط تيمة تفعيل الإنسان لقدراته بتيمة الوعي و التساؤل. فلقد رمزت النص السابق مرتين: مرة كتفعيل الإنسان لقدراته و مرة أخري كالوعي و التساؤل، و ذكرت هذا النص و ناقشته في مناقشتي للتيمتين. في ترميزي لهذ النص كتفعيل الإنسان لقدراته كان اهتمامي بعنصر تفعيل الإنسان لقدراته الذي ظهر فيه (بوضوح في “تُفعِّل كلَّ طاقاتك” من النص)، و في ترميزي له كالوعي و التساؤل كان اهتمامي بعنصر التساؤل الذي ظهر فيه (بوضوح في “إذا أردت أن تعرف قادمك” من النص). و في تحليلي و مناقشتي لتيمة تفعيل الانسان لقدراته أخذت فكرة من نفس النص و اعتبرتها من المقومات الأساسية في تيمة تفعيل الإنسان لقدراته، ألا و هي فكرة أن تفعيل الإنسان لقدراته هو شرط الأهلية لإلهام الله. و كذلك في تحليلي و مناقشتي لتيمة الوعي و التساؤل كانت هناك فكرة أخذتها من نفس النص واعتبرتها من المقومات الأساسية في تيمة الوعي و التساؤل، ألا و هي فكرة أن يستخدم الإنسان وعيه و تساؤلاته كأداة ليصبح أكثر محاسبة لنفسه و ليصبح ضميره أكثر يقظة. و السبب وراء اعتباري هاتين الفكرتين من المقومات الأساسية في تيمتي تفعيل الإنسان لقدراته و الوعي و التساؤل (و بالتالي ذكرت هذا النص في مناقشتي للتيمتين) هو أن الفكرتين مرتبطتان بفكرة مسئولية الإنسان و ضميره. (فكرة أن تفعيل الإنسان لقدراته هي شرط الأهلية لإلهام الله تعني أن الإنسان مطالب أن يفعل قدراته، و هو يمتلك القدرة علي الاختيار: إما أن يقوم بما طلب منه فيفعل قدراته، وإما ألا يقوم بما طلب منه فلا يفعل قدراته. و بناء علي ذلك سيكافأ في الدنيا بأهليته لإلهام الله أو لا يكافأ. و فكرة أن يستخدم الإنسان وعيه و تساؤلاته كأداة ليصبح أكثر محاسبة لنفسه و ليصبح ضميره أكثر يقظة هي دعوة للإنسان و تتضمن المسئولية و الضمير بشكل مباشر.) و فكرة مسئولية الإنسان (و ضميره) مهمة لأنها جزء من التيمة الأولي في هذا البحث (تيمة إرادة الله و مسئولية الإنسان) و لأنها أحد المحاور الأساسية في الأديان السماوية. و ارتباط الفكرتين بفكرة مسئولية الإنسان يربط بينهما (أي يربط بين الفكرتين كما يربط بين تيمتي تفعيل الانسان لقدراته و الوعي و التساؤل) كما يربط بين التيمات الثلاثة في هذا البحث: 1) إرادة الله و مسئولية الإنسان، و 2) تفعيل الانسان لقدراته، 3) الوعي و التساؤل.

و من منظور السيد/علي، اجابات أسئلتنا موجودة في القرآن، فهو يقول:

“عباد الله: يا من تسألون الله وتتَّجهون إلى الله، حديث الحقِّ يخاطبكم دائمًا ليُبيِّن لكم قانون الحياة، وليجيب على تساؤلاتكم وعلى ما فيه تختلفون. فإذا تساءلتم عن ماهيَّة وجودكم، يجيبكم:‘وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‘” (رافع 2020).

كما يقول أيضا:

“وإذا تساءلتم عن كيف تحاورون وتخاطبون من يختلف معكم، أجابكم: ‘تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ‘.(آل عمران 64)

وإذا تساءلتم وماذا نفعل إن اختلف معنا الآخرون، واتَّخذوا أربابًا من دون الله، فيقول لكم: ‘اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‘(الحج 69)” (رافع 2020).

         الاجابات موجودة في القرآن، و الاجابات في الأمثلة الحاضرة تقول أن الله خلق الانسان ليعبده و أن الانسان يجب ألا يتعالي علي من يختلفون معه في العقيدة. و لا يقف الأمر عند هذا الحد، فالسيد/علي يؤكد أهمية التروي و التعمق في فهم الاجابات. فهو يقول:

“واجبٌ علينا أن نتعمَّق أكثر في قراءاتنا حتى تستقرَّ الإجابات في قلوبنا، وترسخ في أرواحنا وفي عقولنا، فتكون جزءًا من حياتنا، وجزءًا من سلوكنا، فلا ندور في حلقاتٍ مفرغة من تساؤلاتٍ وتساؤلات، وإنَّما تصبح الإجابات راسخةً عندنا في وجداننا وفي عقولنا، وتكون بذرةً لأن تنمو معارفنا أكثر، ولتتَّضح الرُّؤى أكثر لقضيَّة وجودنا على أرضنا” (رافع 2020).

         إذا فالسيد/علي يلفت النظر إلي أهمية التعمق في فهم الإجابات (الموجودة في القرآن) بتوضيح أن هذا التعمق هو أحد الأساسات التي تنمي معرفتنا. أما ما لم يقله السيد/علي هنا بشكل علني، و لكنه مفهوم ضمنيا من خطبه، هو أن نقطة البداية، أو الأساس، الذي يجب أن نفهم من خلاله آيات القرآن هو أن الإنسان مطالب من الله بتفعيل قدراته في سبيل الخير و الصلاح لنفسه و لمن حوله، و أن الإنسان يستطيع أن يعرف ما فيه الخير والصلاح لنفسه و لمن حوله بفطرته و ضميره، كما أوضحت أعلي.

3. خاتمة

 التيمات الثلاثة التي وجدتها في هذه المجموعة من خطب السيد/علي رافع مرتبطة ببعضها، و التيمات هي: 1) ارادة الله و مسئولية الإنسان، و 2) تفعيل الإنسان لقدراته، و 3) الوعي و التساؤل. بالنسبة للمستوي الأول من الترابط بين هذه التيمات، تيمة ارادة الله و مسئولية الإنسان بها تأكيد علي قوة الله المطلقة، و هو الأمر الراسخ في جميع الديانات السماوية. كما أن بها تأكيد علي مسئولية الإنسان. و طالما أن الإنسان مسئولا فالمتوقع أن يكون مطالب بمهام معينة. و المهام المطلوبة منه هي تفعيل القدرات و الاستزادة من الوعي و التساؤل، أي أنهما التيمة الثانية و الثالثة. هذا في حد ذاته ترابط بين التيمات.

المستوي الثاني من الترابط، هو عنصر العقلانية و الاجتهاد الموجود في الثلاثة تيمات. تيمة ارادة الله و مسئولية الإنسان احتوت علي سؤال  ماذا يجب أن نفعل و نحن لا نعرف ارادة الله؟ و كان هناك منهجية و عقلانية في الاجابة، و هي أننا لا نستطيع أن نضع افتراضات لارادة الله، و لكن الصلاح (في حياتنا الدنيا) هو البديل عن ارادة الله التي لا نعرفها، و من الممكن أن نتعامل مع الصلاح عن طريق وضع الافتراضات. و تيمتي تفعيل الإنسان لقدراته و الوعي و التساؤل بهما عقلانية و اجتهاد بطبيعة الحال.

المستوي الثالث من الترابط هو أن تيمتي تفعيل الإنسان لقدراته و الوعي و التساؤل يحتويان علي مقومتين (فكرتين) مرتبطتين بفكرة مسئولية الانسان، و فكرة مسئولية الإنسان هي جزء من التيمة الأولي في هذه الورقة: إرادة الله و مسئولية الإنسان (كما أوضحت في آخر قسم “2. 3 الوعي و التساؤل.”

تيمة تفعيل الإنسان لقدراته تحتاج لاهتمام خاص. فهي تمس أكثر ما يميز الإنسان، ألا و هي قدرته علي التعلم. و هي تيمة واسعة، لأن قدرات الانسان كثيرة و متعددة. و الواضح من حديث السيد/علي أن التعلم و رفع القدرات العقلية هو أحد مقاصده. و لكن الانسان قادر أن يتعلم ليرفع قدرات أخرى، فمن الممكن أن يعمل الإنسان علي تطوير قدراته النفسية ليصبح أكثر شجاعة، علي سبيل المثال. و إلي جانب ذلك توجد عشرات القدرات الأخرى، و قد يكون من بينها قدرات لا نعلم بوجودها ابتداءا. فلكل فرد منا منظوره و يترتب علي ذلك أن يري كل فرد النسخة الأفضل من نفسه بطريقة تختلف عن الآخرين.

و تفعيل الإنسان لقدراته أمر بديهي لكل من أراد النجاح الشخصي لنفسه، و لكن لا يستطيع الإنسان أن يصل إلي مستوي عال من تفعيل قدراته إلا إذا كان قوي و طموح و ذو عزيمة لا تلين. و المميز في دعوة السيد/علي للإنسان بأن يفعل قدراته هي أنها من منطلق ديني. و لذا فمن وجهة نظري، الفكر الصوفي –كما نعرفه من خلال السيد/علي— به لمحة جمالية، يمتزج فيها الدين بالبطولة. فهو يطالب الإنسان بأن يطور من نفسه ليصبح أفضل نسخة ممكنة من نفسه. الأمر الذي يلتزم به الأشخاص الأقوياء الطموحين، يطلبه الفكر الصوفي (من وجهة نظر السيد/علي) من الإنسان من منطلق ديني. و التفكير في ذلك  الأمر يأخذنا إلي النقطة التي ذكرتها في البداية، و هي أن الالتزام بالفكر الصوفي من الممكن أن ينمي المجتمع و يساعد علي تقليل الفساد و الجهل به.

من الممكن أن يساهم الالتزام بالفكر الصوفي في رفع القيم الأخلاقية و تقليل الفساد و الجهل في المجتمع. فإذا التزمت مجموعة من الأفراد بنصائح الفكر الصوفي (من منظور السيد/علي) عن قناعة، سيحاول أفرادها تنمية قدراتهم بوازع ديني. و سيكون من نتائج ذلك غالبا نجاحهم في تنمية هذه القدرات، و سيترتب عن ذلك أن ترتفع قيمتهم و وضعهم في عملهم و مجتمعهم، بدون وساطة أو محسوبية أو حتي تودد إلي مديريهم. إذا، فنظريا، تفعيل الإنسان لقدراته بوازع ديني صوفي من الممكن أن يقضي علي مجموعة من أهم مشاكل المجتمع.  و هذا أحد أسباب إدعائي أن تيمة تفعيل الإنسان لقدراته تحتاج اهتمام خاص. و لكن هذا افتراض، و كما ذكرت سابقا، نحتاج إلي أبحاث عينية حتي نتحقق من هذا الافتراض.

4. قائمة المراجع

·   Charmaz, Kathy, Robert Thornberg, Elaine Keane. 2018. “Evolving Grounded Theory and Social Justice Inquiry.” Pp. 720-776 in The SAGE Handbook of Qualitative Research, edited by Norman K. Denzin and Yvonna S. Lincoln. Los Angeles, California: SAGE Publications, Inc.  

·   Rafea, Ali. 2019a. “When a Person Demands the Truth, it Is a Start Point.” Cairo: The Egyptian Society for Spiritual and Cultural Research. Retrieved April 23rd, 2023 (http://ar.aroadhome.org/?fbclid=IwAR115t4H8VnHBvdFXClfVMokA37YtP8hG7Q0Kjx-g_aRBS-bU1So8IgNjzQ).

·   Rafea, Ali. 2019b. “Humans Live in this World with External and Internal Voices.” Cairo: The Egyptian Society for Spiritual and Cultural Research. Retrieved April 23rd, 2023 (http://ar.aroadhome.org/?fbclid=IwAR115t4H8VnHBvdFXClfVMokA37YtP8hG7Q0Kjx-g_aRBS-bU1So8IgNjzQ).

·   Rafea, Ali. 2019c. “What Should We Do while not Knowing the Behaviour that is Consistent with God’s Will.” Cairo: The Egyptian Society for Spiritual and Cultural Research. Retrieved April 24th, 2023 (http://ar.aroadhome.org/?fbclid=IwAR115t4H8VnHBvdFXClfVMokA37YtP8hG7Q0Kjx-g_aRBS-bU1So8IgNjzQ).

·   Rafea, Ali. 2020. “Many of our Questions Have Answers in the Holy Quran.” Cairo: The Egyptian Society for Spiritual and Cultural Research. Retrieved April 25th, 2023 (http://ar.aroadhome.org/?fbclid=IwAR115t4H8VnHBvdFXClfVMokA37YtP8hG7Q0Kjx-g_aRBS-bU1So8IgNjzQ).

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات