رماد الحصون … قصة قصيرة بقلم: شادي الشربيني

d8b4d8a7d8afd98a-d8a7d984d8b4d8b1d8a8d98ad986d98a-1 رماد الحصون ... قصة قصيرة بقلم: شادي الشربيني

الجرح.. الجرح مفتوح والنزيف لا بتوقف..

  النزيف ليس دما.. الدم يعوض.. أما سائل الحياة الذي يسيل فتنتفض الروح احتضارا.. كيف أوقف نزيفه؟إ

  دمعة تكبر وتتسع خلف العينين.. ترفض أن تفتح مجرى لتسيل.. تخشى أن تغرق الأرض والسماء.. تندفع مجتاحة الشمس والقمر.. توقف دوران النجوم وتعلن يوم الدينونة في المجرات والسدم..

  الدمعة تخاف على الكون ولا تريد أن تكون سبب زواله وإعلان نهايته.. ومن أجل ذلك لا تسيل.. فأحملها معي أينما ذهبت وحيثما كنت وحيث أكون..

  ظلموا الشياطين.. فليست هي العصية على الحنين والشوق..

  ما الذي جاء بك أيها الملاك إلى أرضنا الدنسة؟

…………………………………..
…………………………………..

سنين وراء سنين وهو يقيم متاريسه ويبني تحصيناته أمام تلك الحرب المستمرة المعلنة عليه منذ أن جاء إلى تلك الدنيا. فهم أنها حرب لا نصر فيها ولا مسموح بالاستسلام والانسحاب..

  فلا بديل عن الصمود وأن تشق طريق.. أي طريق.. فكل الطرق سماءها النار وأرضها الدم والعطش..

  هكذا فهم أنه هذا هو القدر والمصير.. قدره هو.. مصيره هو.. لا يعرف ولم يعرف إذا كان هناك أحد غيره..

  يمضي في الشوارع.. يحدق في الشاشات.. هل هناك من يشاركه نفس القدر والمصير؟!

  تعال أيها الصديق.. أدخل حصوني وتمتع بحمياتي.. فليؤنس صوتك روحي المعذبة المنهكة من حمل السلاح والجراح.. المتعبة من السهر مراقبةً وكشفًا في الليالي الكالحة العمياء..

    العرض واضح.. أقم في حماية حصوني فلا نكون وحدنا..

    لكنه لم يجد هذا الصديق.. لم يعثر على رفيق المصير والقدر..

  تعلم أن يجلس وحده وراء الحصون.. يعززها ويضيف إليها في النهار.. وتتوزع روحه بين ألف وألف برج مراقبة في الليل.. لكن الظلام الممتد السرمدي لا يجدي معه حتى أبراج أفلاك الكون..

  المهم أنه تعود.. وفهم أنه يجب أن يتعود..

  عدوه لم يكن الكراهية.. لم يكن الشر.. بل الحب!

  لا لم يعش في الكراهية.. فهي ينبوع سم مِّن ينهل منها لم ولن يرتوي..

  عرف أن التعاطف ترياق الكراهية.. أخذ كل من كرهه في حضنه.. أنت لست عدو.. أعرف أنك لا تكرهني في ذاتي ولذاتي.. أنت تكره بسبب ذلك الألم المستعر في روحك المعذبة.. ذلك الألم الذي لا تدري كنهه ولا تعرف مصدره.. فتصبه وتدفعه به تجاه هذا وذاك.. ربما يغادرك ولو للحظة..

   أدعى أنه يفهم الكراهية.. والفهم يفتح عين البصيرة.. والبصيرة لا تقابل الفعل برد مساوي له في القوة ومضاد في الاتجاه.. قوانين الطبيعة يجب ألا يمتد سلطنها، فلا تغزو مملكة النفس ولا تخضع لها الروح..

    كل العطف لك يا صاحب الكراهية ولروحك المعذبة..

     أما الشر..

     ما الشر؟!

     عندما تنظر حولك فترى الشياطين في كل مكان..

     مرحى..

     فهذه هي الأرض.. ملجأهم وسكناهم..

    أي قسوة تلك التي تريد أن تنزع الشيطان من عالمه وتلقي به في مهب الريح..!

   نحن الذين اقتحمنا عالمهم.. غزوناه وكان غزونا همجي.. يبحث عن حقوق تاريخية في أرض بلا تاريخ.. يبحث عن أدلة وجود في زمن بلا مكان..

  أنت هو الضيف في هذه المملكة.. لا الشياطين.. فأرقص معهم على دقات الموت وفوق حمم البراكين.. …………………………………..
…………………………………..

    نعم.. حاول..

  حاول أن يلبس جلدهم.. يسلك دروبهم.. يتصرف كيفما تصرفوا.. يفكر كما يفكروا..

  نعم.. حاول.. يعترف أنه حاول..

  جرح هو في الكبرياء.. تمزيق لصورة سعى فنان أن تكون أجمل ما تكون في الوجود..

   لكنه يعترف.. وعندما أعترف.. فهم أن الكبرياء لا ينال منه أي اعتراف..

  في لحظة ما عندما أدرك أنه الضيف في مملكتهم لا العكس.. رأى أنه طبيعي أن يتخلى عن ترهاته الإنسانية ويسير وفق لوائح المملكة وشرعها!

  لكن أكتشف أنه غير قابل للخضوع، بالرغم من كل تلك الجلود والمسوح الشيطانية التي ارتادها.. ظل الإنسان ينبض بداخله. عرف ذلك، وعرفت الشياطين قبل أن يعرف..

   قالوها له بصدق وصراحة وهدوء.. أنت لست منا ولن تكون..

   أدرك أنه سخيف.. بل بالغ السخف..

   شيطنته عبثية خائبة.. ماهيته كإنسان غير قابلة للتبدل والتحور..

   توقف عن التمثيل على نفسه.. وأدرك أنه لن يكون سوى ذاته.. مهم كان ظلمة الحياة في سرمدية الوحدة الممتدة..

   الممتدة من الأبد إلى الأزل.

…………………………………..
…………………………………..

بعد سنوات وسنوات فهم..

  لم يعد يبادل الكراهية بالكراهية.. بل بالتعاطف واحتضان تلك الروح المعذبة بها.

  هو لن يكون سوى إنسان.. فليعبث به الشر.. ويلعب هو معه..

  الشر يطعنه بخنجره المسموم في الظهر.. الشر يدفع سكينه القذر فيبقر بطنه ويلقي بأمعائه على قارعة الطريق..

  ينزف وينزف.. لكن النزيف مجرد دم..

  ماذا يستطيع الشر أن يفعل أيضًا.. يستطيع أن يقسم ظهره.. يفتت عموده الفقري..

  كتب فوق الحائط.. كم أنت محدود وتافه أيها الشر..

  لم يكن يخشاه.. لم يعد يخافه..

  بل أقام كل المتاريس وأقام تلك الحصون أمام عدو واحد..

  الحب..

  قرأ وتعلم ودرس وحلل ومنطق..

  حاول أن يفهم.. ماهيته.. هويته.. كيف يعمل؟ كيف يتسلل في صمت؟ كيف يكون خافيا متخفيا في ضوء النهار؟ كيف يكون عصيا على كشف كل العدسات والأقمار والرادارات؟

  كل الخسائر محتملة.. كل الآلام استطاع في النهاية أن يعيش معها.. كل دم سال كان يمكن أن يعوض..

    إلا الحب..

    فوضاه تسونامي كاسح.. لا يتركه ينام ولا يبقيه يقظا..

    طعنته تخترق النفس ويمتد نصلها إلى الروح..

    أقنع نفسه أنه عرف كيف يعمل؟.. أنه عرف كيف يرصده ويحيط به ويحاصره..

    وعاش مطمئن لمتانة حصونه..

    يمشي فقدماه تدمي..

    وحيدا يعبر تسلبه الرياح أخر ما في جسده من دفء..

   يقبض على أشواك بلا ورود.. فيقتنع أن الألم الذي يجتاحه هو الدليل على أنه حي..

…………………………………..
…………………………………..

   لكن الملائكة.. ماذا عنهم؟

    ما الذي أتى بك أيها الملاك إلى هذه الأرض؟!

   لم نراك سوى رسم على ورق.. نقش على حجر.. أو طيف في حلم..

   أخبرنا البعض أنكم هناك تسكنون في السماء..

   فلماذا جئت إلى أرضي أيها الملاك؟

   نور.. نور يشع منك..

  نور إلهي عميق.. ذلك النور الذي ينتمي إلى الضياء.. فيتسلسل إلى تلك العتمة القابعة منذ الأزل داخل النفس..

  تنهض الروح تغني.. ظلام النفس يبدأ في التبدد ووعود بالحرية والأمل تلوح..

  خطر.. خطر.. خطر..

  كل ما يحدث خطر.. لكنه لا يعرف كيف يوقفه.. كيف يمنعه..

  لا يوجد ما يضاهي قسوة الأمل..

  ذلك الذي يأخذ الروح ويحلق بها عاليا مخترقا كل الآفاق.. ثم..

  ثم في لحظة خاطفة يفلت يده بمنتهى الهدوء والبرود لا مباليا..

  فتهوى الروح من الحالق..

  يمشي الملاك بيقين.. يمشي لا مبالي بالتحصينات والمتاريس.. يدوس على حقول الألغام بقوة وتؤده فتتحول كتل الحديد وشحنات التفجير إلى حرير وياسمين..

   ما الذي يحدث؟!

  يجري ينادي الجنود.. انتبهوا.. احملوا السلاح.. افتحوا النيران.. أين أنتم؟ كيف تدعوه يمر ويخترق..

  فيجد الجميع نائم.. نوم طويل عميق.. والادهى ابتسامة الوليد الصافية تلك المرتسمة على الوجوه النائمة.

  لماذا هذا الصمت التام؟ كيف لا تدوي صفارات الانذار لتوقظ وتنبه؟

  جرى مجنونا إلى غرفة التحكم المركزية.. ووجد..

  وجد.. أن كل شيء يعمل.. الأجهزة نشطة كفأه.. الكاميرات تنقل صور الملاك وهو يمشي ويتجول هنا وهناك.. لكن..

  لكن.. ليس هناك سوى صمت وراحة..

 في يأس وانهيار كان يرى حصونه تتداعى حيثما يخطو الملاك.. الكتل الخرسانية تنهار.. الصلب يذوب.. الفولاذ لا يقوى على الصمود..

  كل ما بناه في سنين بصبر ودأب، بعلم العلوم وخبرات الزمن، يتقوض وينهار.,

  وجد نفسه يمشي بين اطلال حصنه.. وجد نفسه يمشي بجانب الملاك..

  خيل إليه أن الملاك يبطأ من خطاه.. خيل إليه أن الملاك يسمح له بالاقتراب..

  اقترب واقترب.. وهو يراقب في وجل الفرح يشرق بداخله..

  هل..

  ضاقت المسافة بينه وبين الملاك أكثر وأكثر.. مد يده..

  لا يعرف كيف حدث ذلك ولا متى.. لكنه وجد يده تسكن في راحة الملاك..

  للحظة..

  لكن فاجئه ما كان يعرفه.. أخذ الملاك يمد الخطى.. يبتعد ويبتعد..

  مدى خطاه.. سار وجرى.. لكن خطوة الملاك أصبحت بألف مما يعده البشر..

  إلى أن ذاب في المدى وابتلعه الأفق..

………………………………….
………………………………….

وهكذا.. كان ما ذكرنا في السطور الأول من قصتنا..

  فلا داعي للتكرار.

ولنتركه بين رماد حصونه..

 وحيدا كما كان.. ولكن في العراء هذه المرة.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

2 comments

comments user
AHMEDHAMZA79

تعانق رائع ما بين الشخصي والعام، وأشعر بتأثير صور مأساة غزة على النص. الملاك ذكرني بملاك التاريخ الذي وصفه والتر بنجامين عندما رأى لوحة الفنان بول كليه Angelus Novus. يقول بنجامين عن لوحة “ملاك التاريخ” ذاك: “يظهر الملاك في اللوحة وهو على وشك أن يبتعد عن مشهد كان مستغرقاً في تأمله، عيناه شاخصتان، وفمه مفتوح، وجناحاه مبسوطان، وقد أعطى وجهه للماضي، حيث سلسلة من الأحداث تظهر له، مركزاً على كارثة بعينها تتراكم دماراً فوق دمار ويتطاير الحطام ليتراكم أمام قدميه.” ويضيف: “يرغب الملاك في البقاء وإيقاظ الموتى وإعادة بناء ما تم تحطيمه، لكن عاصفة تهب من الفردوس،وتشتبك بجناحيه بعنف بحيث لا يعود بوسعه طيهما. وتقذفه العاصفة نحو المستقبل الذي أدار له ظهره، بينما يتعالى الحطام أمامه ليبلغ السماء.” فملاكك شاهد على الدمار، تعيس انداحت عنه قواه الخارقة واكتفى بالتعاطف والرثاء. إنه ليس ميكائيل قائد فيالق السماء الذي قمع تمرد ابليس ومن معه من الملائكة العصاة وألقى بهم في جوف الجحيم. هذا ملاك يشبهنا، أو ربما هو قوة الحب والغفران والتصالح. لكن مع اي شئ نتصالح؟ مع القدر؟ مع الله؟ مع أنفسنا؟ محاولة جادة لكتابة نص أفصح عما يعتمل في نفسك وفينا من حيرة وألم يكتنفهم الأمل. أحسنت يا بيه.

    comments user
    شادي عمر الشربيني sosherbi

    شهادة مثقف لامع وقارئ واسع وعميق للأدب العالمي مثل الدكتور أحمد عماد هي أجمل ما يمكن أن أناله من تعليق وشهادة. نص التعليق يكشف عن ثقافة موسوعية فنية وأدبية ويكشف عن روح حساسة للإنسانبة المعذبة.

    خالص التحية والاحترام والمودة والامتنان أستاذي وصديقي الغالي..

اترك رد

ندوات