رُدَّ عقلي …بقلم: زينب الميداني
وددت لو ألْكُم الرجل لَكْمَةً تطيح بأنفه؛ فقد ظننته لأول وهلة يُقدِّمُ لاستظراف، ومن ثم أسررت في نفسي العزم على الضرب باللسان والبنان! لقد قطع محاولة اختلائي بنفسي، كما أخرجني من طقس الإبداع الذي كنت لتوي اندمجت فيه هروبًا من صداعي القميء!.
بقلم: زينب الميداني

صغيرة في حجم قبضة يد، دوارة ككرة ترتكز على سن، عجيبة في تجميع الناس، محترفة في تشتيتهم! تدنيهم حتى ليظنون أن من المستحيل أن يكونوا أعداء، وتباعد بينهم حتى ليظنون أن لا تلاقيا! إنها الدنيا، تلك الأعجوبة الألعوبة التي بعثت إليَّ بذلك الشخص بعد لقاء عابر لم أتذكره، لكنه كان يذكره جيدًا.. بعثت به إليَّ كي يقول أتيتك منذ عشر سنين مضت، وقد رأيت خطكِ المبهر، واشتريت منك (رُدَّ قلبي) وقد كتبتِ لي عليها إهداءً بخطك الجميل!
عشر سنين وما يزال يذكر المشهد بكل تفاصيله! يحكيه مبتسمًا تطفر السعادة من عينيه! يتهلل وجهه كأن ملامحه مهرجان فرح!
يحاول أن يشتت صخب ملامحه، فيثير نقاشًا أدبيًا سريعًا حول كاتب الرواية وفعل القراءة. أنظر إليه كبلهاء. أجتهد أن أتذكر ولو شيئًا يسيرًا من هذا المشهد. أنظر إلى ملامحه ربما أتذكره فتخونني كعادتها الذاكرة! أحاول ألا أَظهر أمامه وأمام تلميذتي بمظهر الخرفاء فاقدة الذاكرة!
يرسم مشهدًا يكاد يتكرر كثيرًا بيني وبين غيره. يدلل عليه بأمارات وشواهد، بينما أظل أنا كما أنا، تشير كل الشواهد إليَّ بحقيقةٍ مفادها: أن عقلي قد ذهب! .. تشير بسبابتها ولا تكتفي، فتُخرج لسانًا طويلًا قبل أن تقذفني به: “يا عبيطة” !
مر اليوم، وقد حاولت خلاله أن أتجنب تلك الفكرة المؤذية التي ظلت تناوشني بين حين وحين .. فكرة أن عقلي ما عاد بكامل لياقته، وأنه ربما يحتاج مثل جسدي الذي نحل إلى أن يذهب إلى (الجيم)! لكنه الوقت.. الوقت الذي ما عدت أملكه، والحياة التي ما عدت أقوى على مباراتها!
مر اليوم، وبينما أنا في آخره أقطع طريق العودة إلى البيت، أطل من رأسي مشهد ضبابي لا تظهر فيه صورة لشخص بعينه، بقدر ما يظهر فيه الآتي: أنا ومكتبةٌ، وطقس حار ضجر وقت الظهيرة – حيث أتحاشى الناس وأتلاشاهم لصداع صيفي مقيت – وشخص يدخل علي هادئًا مبتسمًا طالبًا رواية (رُدَّ قلبي) كي يهديها لحبيبته! شخص تكوّن لدي انفعال تجاهه لأول وهلة.. انفعال غضب وضجر، عبّرَتْ عنه تلك التي بين جنبيَّ فقالت بتأفف غير مسموع: “هي نقصاك!”
وددت لو ألْكُم الرجل لَكْمَةً تطيح بأنفه؛ فقد ظننته لأول وهلة يُقدِّمُ لاستظراف، ومن ثم أسررت في نفسي العزم على الضرب باللسان والبنان! لقد قطع محاولة اختلائي بنفسي، كما أخرجني من طقس الإبداع الذي كنت لتوي اندمجت فيه هروبًا من صداعي القميء!.
لقد أبدى اندهاشًا عجيبًا كطفل ساذج لما رأى خطي على الورق! فغرَ فاه وعينيه فجأة قبل أن ينطق: الله! ما كل هذا الجمال والألق! كأنني للتو تركتك! كأنك مازلتِ على هيئتك التي تركتك عليها منذ عشر مضت! فاستغرقت في ظني السيء به؛ وقلبت دفة الكلام سريعًا كي أقطع عليه أي درب للتطاول إن كان يريده، ثم لأعود سريعًا إلى خلوتي.
قفزت مسرعة، والتقطت الرواية، قذفت بها من علٍ نحوه قائلة: خذ.
فما كان منه إلا أن أبدى إعجابًا آخر بطبعتها ومؤلفها وفحواها ثم أخبرني بأنها هدية لزوجته، اعتذارٌ عن سوء فهم حدث بينهما، وأنه سيكون ممتنًا لي إن كتبت له عليها إهداءًا بخطي.
وافقت، ثم قبل أن أكتب سألته: تملي أنت أم أكتب أنا؟، حاول أن يجتهد في إملاء شيء ما، لكنه سكت فجأة وقال: صدقيني، لست أجد ما أقول! كل ما أجده أن شيئًا كبيرًا بي أحتاج أن أوصله لها! ربما أسف، حزن، اشتياق، لكنها الكلمات ضلت الطريق إليَّ كما ضللته من قبل إليها!.
نظرتُ إليه بتوجس قبل أن أسأله: أهذه الرواية لزوجك؟ فأجاب حالفًا يدفع ارتيابي:” لها، والله العظيم لها”.
فبادرته كمن يطرق على الحديد قبل ان يبرد: أتحبها؟ فأجاب: وهل كنت سأسعى إلى إرضائها إن لم أكن أحبها؟ إنها رفيقتي في درب الحياة وظلي الذي لست أفارقه ولا أفترق عنه!

استثارني تعبيره؛ فقلت مسرعة:
إذًا أكتبُ لها على لسانك: “إلى الظل الذي لم يفارق سواده سوادي”
ولست أدري من أين أتاني هذا التعبير! أقراته من قبل، أم ألّفته للتو؟ أم…لست أدري! كل ما أدريه أنه أعجبه جدًا، وأنه فرح به فرحة طفل نطق بأول كلمة له في الحياة!.
لقد كان هذا التعبير أول ما طرق خزان ذاكرتي المثقوب بينما أسير في الطريق إلى البيت عائدة من العمل بعد يوم حافل وشاق. لقد تردد في سمعي كصدى صوت، وعلى وقع تردده بدأ عقلي يَكرُّ خيط هذا المشهد من الذاكرة القصيَّة؛ فبدأت أتذكر تفاصيله تفصيلةً بعد أخرى حتى اكتمل في وعيي؛ فلم أشعر به وبنفسي إلا وأنا أتهلل وأهلل كطفلة صغيرة ليست تعبأ بمن حولها، تصفق في الطريق ممتنة لعقلها الذي عاد قائلة:
” الله أكبر! الذاكرة رجعت، والكهربا عملت كونتاكت!”.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد