ساقي الأرواح…. بقلم ايمان إسماعيل…. قصة قصيرة
بقلم: إيمان إسماعيل

في قلب النافذة الطينية كاسيت أحمر صغير، بلاستيكي، يعمل أحيانا راديو وأكثر الوقت كاسيت، يضم في صدره شريط كوكتيل لعمرو دياب وإيهاب توفيق وكاظم وأصالة، أغاني أسمعها وأنا اطبخ أو وأنا أنظف أو وأنا أجالس أناسي.
في الليل يخرج الكاسيت ما في جوفه ويبحث عن شريط بلا اسم، يخرج لسانه الطويل ويفتح الخزانة الطينية، يبعثر أشياء الحاج أبي بحثاُ عن الشريط، ثم يلتقطه، يبيت في جفوفه وفي الصباح عندما أدخل لغرفتي، يبادلني نظرة ليئمة، يلعب حاجبي، أهز كتفي، يخرج لسانه كيداً لي، أضحك، فيعيد لسانه لجوفه، تنضغط أزراره وتبدأ النغمات.
أرتدي فساتني الأحمر القاني الذي اشترته أمي ضمن جهازي، ضيق يرسم منحنياتي، أفرد شعري الطويل على ظهري، أقربه من أنفي فأشم رائحة الحناء التي أحبها، تقول عنها أمي “بركة” وأقول عنها أنا روح شعري ويقول عنها أحمد تحولني لحورية ببشرة قمحية وشعر أحمر.
أقف في أشعة الشمس التي تأتي من النافذة، أراقب خيوط الشمس وتلك الذرات الرقصة العالقة في كون لا أحد يعرف عنه شئ، هل حقاُ أن هناك ملايين المجرات تسكن في كل ذرة؟! يقول الأستاذ محمد المجذوب أن في كل ذرة أكوان، يتأثر تسيل دوعه في كل مرةيحكي فيها عن الله، أصبحت حصة التوحيد مساحة الهمز واللمز على المجذوب الذي لا نفهمه،أذكر أني تأثرت مرة ورحت أراقب الأكوان في قكرات الماء على جبينه
أرفع عيني لقرص الشمس، أبتسم، أغمض عيني لثوانٍ واستمتع برعشة الدفء التي تسري ، ، في كتفي وتتسرب إلى عنقي ثم إلى منابت شعري فتصل إلى أعمق ما في رأسي
أفتح عيني وأمرر أصابعي بين خصلات شعري، أحركه يميناُ ويساراُ ولإعلى ولإسفل، يلمع في ضي الشمس، يتطاير وتظهر تجعيداته، أغطي وجهي ببعضه وأرفع ذراعي لأعلى ويبدأ التموج، يغني الشيخ ويقول:
بُعد ليلة وأخرج من بين البيوت لعلني… أحدث عنكِ النفس بالليل خالياً
ترآني إذا صليت… يَمَمت نحوها… بوجهى إذا كان المصلى ورآئي
يكررها الشيخ التوني وأنا أهتز، أغمض عيني، أتخفى داخلي وأتلصص على جسدي، أبحث داخله عن الجزء الذي تمسه الموسيقى وصوت التوني فينتفض ويهتز ويرقص
يقول الشيخ: أصلي فلا أدري إذا ما ذكرتها… أثنتين صليت العشاء أم ثمانية
تموج ذراعي، تصل الموجة إلى كتفي، ثم تستقر عند خصري، فيدور في دوائر متصلة تتكون ببطئ، دوائر تلتقي جميعها عند قلبي
يقول الشيخ:
يقولون ليلى…. ليلى …لووووولي لولي لولي .. ليلى بالعراق مريضة… يا ليتني كنت الطبيب المداويَ
أرخي ذراع وأضع الثاني فوق رأسي، أمد ساقي للأمام خطوتين وأرفع خصري قليلاً، وأحركه لأعلى ولأسفل ببطئ، ينتقل التمايل إلى كتفي وصدري فأجمع ذراعي أمامي وأبدأ في هز كتفي، تتسارع كلامته قائلا:
يقولون ليلى أهل بيتٍ عُدوة، يقولون ليلى أهل بيت عدوة…. وأفديكي يا ليلى بنفسي ومالي
يسفق الرجال خلفه فيخلقون نغمات تزيد عذوبة صوته، فيزداد هز كتفي وأدور في الغرفة.. يكمل هو قائلا
يقولون سوداء الجبين دميمة… ولولا سواد المسك لم يك غاليَ
عشقتك يا ليلى وأنتِ صغيرة… وأنا ابن سبع لم بلغت ثمانيَ
يا رب ساوي الحب بيني وبينها… يكون كفافاً لا علي ولا ليَ
اللهم صل وسلم وبارك عليييه… الفااااااتحة
وقبل أن تبدأ يا ساقي الأرواح، تضرب أمي الباب بقدمها فتنفرج ضفتيه، أفتح عيوني وأنا مازلت أرقص، يبتلع الكاسيت لسانه وتتوقف الأغنية، تعلو شفتي بسمة ترجوأمي ألا تعكر صفوي، تبادلني البسمة بالبسمة فأذهب نحوها راقصة وأمسك بيدها وأتمايل في محاولة لتشجيعها لترقص، أعرف أنها إذا رقصت ستنحل ضفائر حياتها المعقدة، سوف تسعد
تسحب يدها من يدي وتقول “كفياكي تقصيع وتعالي شوفي ورانا إيه” تتدخل عمتي من ورائها وهي جالسة وبين فخذيها الرحايا تدشدش بها الفول “سيبيها ترقص وتتمايع، كلها أيام وتتجوز وهترجعلنا بسبب المياعة دي”، أمر خلف أمي وأكمل الرقص حتى أصل إليها وأقترب منها هامسة “وتفتكري هيسيب الجمال ده يرجعلكم يا نسيبة؟!”، تهمس في أذني ” أه أفتكر يا بت أخوي، مياصتك وجمالك مش هيقيموا له بيت”، أهمس أنا قائلة “عارفة مين اللي بيقولوا كده يا نوسة؟ المفشولين اللي زيك اللي فاتهم قطر الجواز” تقرصني في خصري، أضحك وأهرب لغرفتي وأغلق الباب خلفي وتنهال الشتائم فوق رأسي.
تقول عمتي لأمي
- بس يا نسيبة لتسمعك، البنية كبرت ويا دوبها
- لا، مش يا دوبها، لسه بدري، متفرحيش بخرطة جسمها، لسه عيلة
- البت صغيرة يا آمال، يا دوب 15 سنة
لا ترد أمي إنما تنظر نحو بابي، تطالع عيني التي تنظر إليهما من الفتحة، تبتسم وتقول
- كبرت يا نسيبة وبقت ست العرايس وهتنور بيتها، أنا عارفة بنتي كويس، هتبقى ست الستات
أقف خلف الباب، أقاوم خوفي من الزواج الذي يفصلني عنه أيام، أخاف من ترك المدرسة والحمل والعيال وتدبير بيت وحدي، أحمد يحبني لكنه ينتظر الكثير وأنا لا أجيد إلا الرقص في غرفتي على صوت التوني، ماذا سيحدث إذا زهد رقصي؟!
يخرج الكاسيت لسانه الطويل، يحيط خصري به ويجذبني نحوه ويبدأ اللحن الشجي وينشد بعده الشيخ:
تقابل إبراهاااام مسند ظهره… إلى البيت المعمور بالمجد حياه… بحبي أنا… الله … الله
إن كان آدم للخلائق أولاً… ها أنت يا مختار أول خلقنا
أو كان نوح ن ن ن نووووح من قبل قاد سفينة… ها أنت يا مختار سفينة علمنا
أذهب إلى الكاسيت الذي يجرني وأنا أرقص وأتمايل، والرجال خلف الشيخ يرددون.. يا جميييييل يا جميل
يسحب لسانه ويرده لجوفه وأدور أنا وأهز كتفي على كلام التوني:
وإن كان موسى صار قبله كليمنا… ها أنت يا مختار صرت حبيبنا
يا جميييل … يا جميييل… يا جميل
وإن كان يوسف الجمال منحته… ها أنت يا مختار كساك جلالنا
يا ساقي الراح في روض المناجاة… يا ساقي الراح في روض المناجاة… يا ساقي الراح في روض المناجاة …أدر شراب مجالي حضرة الذات
سيدي عبدالقادر الجيلاني… سيدي أنا يا حسن يا شاذلي
تتسارع النغمات ويعلو صوت التوني وتسفيق الرجال خلفه ويقول
يا ساقي الراح يا ساقي الروح … يا ساقي الراح في روض المناجاة …أدر شراب مجالي حضرة الذات
أدر صرفاً علينا وروحنا بمشاربها والروح هامت إلى كشف الحقيقة
أثبتُ قدما في الأرض وأدور بالأخرى وأنا أحرك خصري يميناً ويساراً وأهز كتفي وأغمض عيني، يقول الشيخ:
أدرها صرفا صرفا… روحنا بمشاربها… فالروح هامت لكشف الحقيقة
يرددون الله حي الله حي اللي حي الله حي، ويردد جسدي الله حي الله حي الله حي
أهل المحبة في شوق للعين… والعين في غيهب التنزيه واللون… واللون سر تجليها
ليليليليليليلي … ليليليليليليلي
والعين واحدة وفي لونٍ أظهرها… يا عين آه آه آه.. يا عين يا ليل هيا وصفي يدي
أدور أنا وهو يكرر، أدور وأسرع وهو يكرر حتى يقول:
وحد!
ويسكت واسكت وأجلس على الأرض في بقعة الضوء، أفترش الأرض، أزيح شعري عن وجهي، أغرق في الألوان داخل عيني
يسكن الشيخ… وأسكن
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد