سپينوزا والعنكبوت … ترجمة: أنطونيوس نبيل
تأليف: سيجيزموند كرچيچانوفسكي
أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

يُخْبِرُنَا كوليروس كاتبُ سيرةِ بنديكت سپينوزا1 (القرن السابع عشر): “كان سپينوزا أثناءَ ساعاتِ استجمامِهِ مِنْ عَنَتِ أشغالِهِ العلميَّةِ مُولَعًا بأنْ يراقبَ – بعدَ أنْ يُلْقِيَ بذبابةٍ فِي شبكةِ العنكبوتِ الذي استوطنَ رُكْنًا في غُرفتِهِ- حركاتِ الفريسةِ والمفترسِ. وقِيلَ إنُّه كان يُصابُ أحيانًا بنوباتٍ مِن الضَّحِكِ مِن جَرَّاءِ ذلك المشهدِ.”
أحسَّ العنكبوتُ العجوزُ -ذو السِّيقانِ كِثَاثِ الزَّغَبِ- بحدقتيْ الفيلسوفِ المُصَوَّبَتَيْنِ نحوَهُ؛ فألمَّ بِهِ اهتياجٌ طفيفٌ، وهو أمرٌ لمْ يكنْ ليطرأَ عليه إلَّا فيما بَلَغَ مِن النُّدْرَةِ حَدًّا يُقاربُ المستحيلَ. لكنْ، ما انتابَهُ مِنْ اضطرابٍ ضئيلٍ كانَ أمرًا يُمْكِنُ فهمُهُ بسهولةٍ؛ إذْ كانتِ اللَّحظةُ حاسمةً لا نُدْحَةَ فيها للعَبَثِ. رُبَّما انصرمَ خيطانِ (أو ثلاثةُ خيوطٍ) وتشابكا؛ نتيجةً للحماسةِ الفَنِّيَّةِ المَحْضَةِ التي خالجتْ ذلك الخَبِيرَ النِّحْرِيرَ، لكنَّهُ، على وَجْهٍ عامٍّ، أتمَّ إنجازَ مُهِمَّتِهِ كعادتِهِ: بسرعةٍ ونظافةٍ.
ثَمَاني سِيقانٍ للعنكبوت حمشاواتٌ معقوفاتٌ نحو الداخلِ، يَخْطُونَ بشكلٍ مُنَظَّمٍ وبتسلسلٍ دقيقٍ لا هفوةَ فيهِ على طولِ الشبكةِ الممدودةِ والمشدودةِ بإحكامٍ، كأنهُنَّ ليسَ لَهُنَّ تَوَائمُ إلَّا أصابعُ عازف البيانو اللائي يَكُنَّ مَرْسُومَاتٍ فِي دفترِ الموسيقى مُرَقَّمَاتٍ لتيسيرِ أداءِ التَّدْرِيبَاتِ العَمَلِيَّةِ بإتقانٍ، ثماني سيقانٍ دَثَّرْنَ جَسَدَ الذُّبَابَةِ -الغارقَ في فَيْضٍ جارفٍ مِن ارتجافٍ واجفٍ- في كفنٍ استعارَ مِنَ الحَرِيرِ مُلُوسَتَهُ ومِنَ الفضَّةِ لَوْنَها الرَّماديَّ.
كان الجزءُ الأماميُّ للخبيرِ المُحَنَّكِ (الشَّطرُ مُثَلَّثُ الشكلِ الذي يُكَوِّنُهُ اندماجُ رأسِهِ وصدرِهِ معًا) قد عَثَرَ مُسْتَعِينًا بما يَصْطَفُّ على حافَّتِهِ مِنْ عيونٍ شائكةٍ على البُقْعَةِ المنشودةِ مِن البَطنِ الحَالِكِ الذي لَمْ يَنْقَطِعْ عن الارتعاصِ، أَطْبَقَ فَكَّيْهِ المُحْدَودَبَيْنِ المُدَبَّبَيْنِ كالمَخَالِبِ وأَنْشَبَهُمَا في بطنِ الذُّبابةِ؛ فَانْدَلَعَتِ الرَّعْشَةُ فِي أجنحتِها، وما هي إلا طَعْنَةٌ أخرى وقُضِيَ الأمرُ.
بعد أنْ أَنْجَزَ العنكبوتُ مُهِمَّتَهُ رَفَعَ عيونَهُ الشائكةَ إلى أعلى، فَصَادَفَتْ الحَدَقَتَيْنِ المُتَرَعَتَيْنِ بالميتافيزيقا للفيلسوفِ، تَفَرَّسَ كُلٌّ مِنْهُمَا في الأخرِ لِهُنَيْهَةٍ مِن الوقتِ ثُمَّ انْبَتَرَ ما بينهما مِن خَيْطِ النَّظَرَاتِ، ومَضَىَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي نَهْجِهِ المُسْتَقِلِّ. دَنَا الميتافيزيقيُّ مِنَ الطاولةِ القائمةِ بجوارِ النافذةِ ومَدَّ يَدَهُ اليُمْنَى- طَنَّ غطاءُ المحبرةِ البرونزيُّ، وطَفَقتْ وَرَقَاتُ المخطوطِ يَتَهَامَسْنَ فيمَا بينهُنَّ بحفيفٍ مُلْغِزٍ.
كان العنكبوتُ -وهو يَحُكُّ ساقَيْهِ الأمامِيَّتَيْنِ المُضَرَّجَتَيْنِ بالدِّمَاءِ بزوجٍ مِن سيقانِهِ الوُسْطَى- يزحفُ فوقَ العَفَنِ الرَّطيبِ -مُخْمَلِيّ المَلْمَسِ زَبَرْجَديِّ اللَّوْنِ- نحوَ الثُّغْرَةِ المُدْلَهِمَّةِ القابعةِ بينَ الجدارِ وما يَتَّكِئُ عليهِ -على نحوٍ مُتَقَلْقِلٍ- مِن أُطْرُوحَاتٍ فلسفيَّةٍ للفيلسوفِ الفرنسيّ رينيه ديكارت والمَنْطِقيّ الهولنديّ أرديان هيربورد واللاهوتيّ الألمانيّ يوهانس كلاوبيرج. بعدَ أنْ سارَ العنكبوتُ على طولِ الوَرَقَاتِ اللواتي أُغمدتْ شَفَرَاتُهُنَّ في إحدى طيَّاتِ الكتابِ، جَذَبَ سيقانَهُ الثَّمَانِيَةَ إلى غَوْرِ بَدَنِهِ مُسْتَفْرِغًا قُصَارى جُهْدِهِ ثُمَّ جَمَدَ في مَوْضِعِهِ.

كانَ الميتافزيقيُّ بجوار النافذةِ يَرْقُمُ ما يَلِي: “…الحَقُّ الطَّبِيعِيُّ يَمْتَدُّ مُتَغَلْغِلًا فِي الطَّبِيعَةِ بكامِلِهَا ويسري في كلِّ فردٍ مِن أفرادِها لا يَحُدُّهُ إلَّا ما يتجاوزَ ظِلَّ قُدْرَتِهِ. وبناءً على ذلك فإنَّ كُلَّ ما يفعلُهُ الفردُ بِمُقْتَضَى قوانين طبيعتِهِ، يَفْعَلُهُ بِحَقٍّ طبيعيٍّ مُطْلَق، لا يُقاسُ إلَّا بمقدارِ قُدْرَتِهِ.”
تَوَسَّدَتِ الورقةُ صدرَ الورقةِ فتلامستْ حُرُوفُهُمَا، فكانتْ ثمرةُ تَلَاثُمِ الحُرُوفِ بُهْرَ وَرَقَاتٍ يِتَسَارَرْنَ في عِنَاقٍ ينثالُ دفؤه فَهْمًا يَنْبَجِسُ فَيْضُ نُورِهِ لهاثًا يبلغُ تراقي السُّطُورِ. بينما القلمُ يَلْذَعُ سكونَ الغرفةِ بزفراتٍ مِنْ صريرٍ، لَمْ يُشِحْ الميتافيزيقيُّ بعينَيْهِ عَنِ السُّطُورِ إلَّا مَرَّةً واحدةً اختلسَ فيها نظرةً عَجْلَى إلى بيتِ العنكبوتِ الممدودِ في حِضْنِ رُكْنِ الغرفةِ الذي لم تُخَاصِمْهُ الدُّجْنَةُ قَطُّ.
وماذا عن العنكبوت؟ كان ضاغِطًا بَطْنَهُ على الأطروحةِ المُغْبَرَّةِ لكلاوبيرج، سائِخًا في غَفْلَةٍ زُلَالٍ لا يُدَنِّسُ طُهْرَها قَذَى التَّفْكِيرِ. كان أمامَ الفيلسوفِ عِلْمًا وافرًا يَغْنَمُهُ مِنَ العنكبوتِ، لكنْ ماذا يُمْكِنُ للعنكبوتِ أنْ يَتَعَلَّمَ مِنَ الفيلسوفِ؟ إنَّ مَنْ نَقَضَ غَزْلَهُ أنكاثًا مِن غرابيبِ الخطوطِ قد أُوتِيَ مِنَ العِلْمِ أقلَّ ممَّا يَفْتَقِرُ إليه وظَلَّ يكتبُ ويكتبُ بلا كَلَلٍ. وأمَّا مَنْ يَمُدُّ غَزْلَهُ حَبَائِلَ مِن لُجَيْنَاتِ الخيوطِ قد أُوتِيَ مِن العِلْمِ مِقَدَارًا سُوًى وَاءَمَ بالضَّبْطِ ما يَتَحَتَّمُ عليه أنْ يُحَصِّلَهُ.
لقد خُلِقَ العنكبوتُ في أَحْسَنِ تقويمٍ لا ثَلْمَ في نَصْلِ كَمَالِهِ، فهو في غِنًى عَن الحبرِ والوَرَقِ: لا حاجةَ لَهُ في أن يَسْتَوْضِحَ شيئًا مِن وَرَقاتِ مخطوطاتٍ ينبثقُ مِنها حَفِيفٌ ثَرْثَارٌ ولا أَنْ يَلْتَمِسَ رأيًا مِن مُجَلَّدَاتٍ مطبوعةٍ تَرْزَحُ تحتَ وطأةِ بدانتِهَا وتَخْتَنِقُ، لا تُضْمِرُ في بطونِهَا -العجراءِ كالحَبَالى- إلا مَشْأَمَةَ العُقْمِ.
كان العنكبوتُ قابِعًا في طيَّةِ المخطوطِ مُنَعَّمًا في عَيْشٍ رَغِيدٍ، يَتَلَذَّذُ بِمَزِيَّةٍ عظيمةٍ أُهْدِيَتْ مُنْذُ عصورٍ عتيقةٍ إلى فَصِيلةِ العناكبِ الرَّاسِخَةِ في النُّبْلِ والعَرِيقَةِ في القِدَمِ. كانت المَزِيَّةُ العظيمةُ إِرْثًا انتقلَ مِن الجَدِّ الأكبرِ إلى الجَدِّ ثُمَّ مِنَ الجَدِّ إلى الأبِ، حتَّى بَلَغَ ذا السِّيقانِ كِثَاثِ الزَّغَبِ، وذُخْرًا نَفِيسًا انْحَدَرَ إليه مِن تَلِيدِ السَّلفِ: لَمْ يكنْ ذاك الكَنْزُ المَوْرُوثُ إلَّا التَّحَرُّرَ مِنَ أغلالِ التفكيرِ.
باروخ سبينوزا: فيلسوفٌ هولندي، ويُعَدُّ من أهمِّ فَلاسفةِ التنويرِ الذين عاشوا في القرنِ السابعَ عشَر.
وُلِدَ «باروخ سبينوزا» بأمستردام عامَ ١٦٣٢م، لعائلةٍ يهوديةٍ برتغاليةٍ لاجِئةٍ في هولندا، تعلَّمَ العِبريةَ وأصولَ التلمودِ على يدِ الحاخامِ «مورتيرا» بمدرستِه الخاصة، ثُم أتقَنَ اللاتينيةَ على يدِ الطبيبِ «فان دن إنده»؛ ممَّا ساعَدَه على استكشافِ فَلاسفةِ العُصورِ الوُسْطى.
وظهَرَ على سبينوزا النبوغُ منذُ صِغَرِه؛ حيث كانَ يَمتلكُ منطقًا قويًّا في الحِجَاج؛ ممَّا أثارَ غضبَ رجالِ الدِّينِ عليه، ففُصِلَ من طائفتِه وحُرِمَ من حقوقِه الدِّينيةِ عامَ ١٦٥٦م، وحُكِمَ عليه بحظْرِ الإقامة، فلجَأَ إلى إحدى ضَواحي أمستردام بعدَ مُحاوَلةِ اغتيالِه من بعضِ المُتعصِّبِين.
بدأَ سبينوزا عامَ ١٦٦١م في كتابةِ مُؤلَّفِه الأولِ «رِسالة في إصلاحِ العَقْل» لكنَّه لم يَكتمِل، ثم أصدَرَ عامَ ١٦٦٣م كتابَه الوحيدَ الذي حملَ اسمَه «مَبادِئ فَلسفةِ دِيكارت» و«أَفْكار ميتافيزيقيَّة» في مجلدٍ واحد، ثم أصدَرَ عامَ ١٦٧٠م رسالتَه «في اللاهوتِ والسياسة» لكنَّها لم تَحمِلِ اسْمَه خوْفًا مِن الاضطهادِ والقَمْع، وتراجَعَ عن طباعةِ كتابِه «عِلم الأَخْلاق» الذي كلَّفَه خمسةَ عشرَ عامًا في كتابتِه؛ خوْفًا من تربُّصِ بعضِ أعدائِه به.
تُوفِّيَ سبينوزا عامَ ١٦٧٧م، وبعدَ ذلك تعهَّدَ بعضُ أَصْدقائِه بنشْرِ مُؤلَّفاتِه دونَ ذِكْرِ اسمِ الناشرِ ومكانِ الطِّباعة، واكتفَوْا بالحرفِ الأولِ من اسْمِ المُؤلِّفِ ولقَبِه. ↩︎
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل:
salontafker@gmail.com
تابعنا عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي:
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد