عرفان التحرير وعبد الجبار الرفاعي… عبد العاطي طلبة… 3

عبد العاطي طلبه

من الجامعة الأزهرية

d8b9d8a8d8af-d8a7d984d8b9d8a7d8b7d98a-d8b7d984d8a8d8a9-3472480530-e1724016000835 عرفان التحرير وعبد الجبار الرفاعي... عبد العاطي طلبة... 3

(3)

عرفانُ التَّحرير

  حضرتُ معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2014م كما اعتدتُ ألّا يمرّ عام إلا وأشارك فيه زائرًا، وكانت أولى مصافحات عيني لاسم عبد الجبار الرفاعي، إذ وقعتُ على كتابه الذي كان بعنوان: «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدّين»، فتساءلتُ؛ أيّ نزعة إنسانيّة تلك يريد هذا الكاتبُ إنقاذَها؟ طالعتُ فهرسَ الكتاب، فأَخَذَتْنِي فصولُه وأسرتْني أسماؤُها، ولم يمرّ كثيرُ وقت إلّا وطالعتُ الكتابَ كلّه، وخرجتُ بانطباع عامّ عن شخصيّة هذا الكاتب، وعرفتُه حينئذٍ مهمومًا بالإنسان، مأخوذًا بقول ابن عربي الذي صَدَّرَ به كتابَه: «واعلَم أنّ الشفقةَ على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغَيْرَةِ على الله». يعني الرفاعيُّ بالإنسانيَّة في الدين التحرُّر؛ التحرُّر من نسيان الإنسان في اللاهوت، التحرُّر من الأيديولوجيا التي أنهكت الإنسانَ والدين، التحرُّر من تراثنا العنيف واستلهام تجاربه الإنسانيّة في رحمانيّتها؛ يعني بها أن يكون الإيمان منبعًا من منابع الرحمة، ومعينًا ينضب بمعانيها في عوالِم الإنسان الباطنة والخارجة. 

  انحفر اسمُ الرفاعي في عقلي منذ ذلك الحين مفكِّرًا لامعًا، يفكِّر داخل سياق الدين لا خارجه، وجعلتُ أتَتَبَّعُ مقالاتِه هنا وهناك في بعض الصّحُف والدوريّات والمواقع الإلكترونيّة، وأتابع إصداراتِه من الكتب التي كان يختارُ عناوينَها بذائقة مُدهشة تَنُمُّ عن امتلاكه قريحة الأديب والشَّاعر. مرّ الزمانُ عليّ وأنا واقع – بسببه هو وغيره من ملابسات وشخوص – تحت سطوةِ ما يسمّيه بالتصوف المعرفيّ الذي يسعى إلى أن تكون له مقولة معرفيّة عبر مَزْجِ الذَّوق بالنظر العقلي؛ كتصوّف الحلاج والنفَّري وابن عربي وعبد الحقّ بن سبعين والسهروردي وجلال الدين الرومي وغيرهم. يُعرِّف الرفاعيّ هذا النوع من التصوّف بأنّه: «تصوف عقلي، خرج على الأنساق المغلقة الحرفيّة لقراءة النصوص الدينية، وأنتج قراءةً لها خارجَ إطار مناهج وأدوات القراءة والفهم والنظر الموروثة». 

screenshot-2024-08-19-221616 عرفان التحرير وعبد الجبار الرفاعي... عبد العاطي طلبة... 3

  كان اهتمامي بهذا النوع من التصوّف بالنسبة إليّ تحريرًا من الأنساق المغلقة التي وقعتُ فيها بواسطة لاهوت المتكلمين ومدوَّنات الفقهاء، ففي لاهوت التصوّف المعرفي نجد الإنسانَ واقعًا في المركز منه، بل وعليه يكون مدارُ الدّين كلّه، لأنّه مَجْلىً من مجالي الحقّ، ولأنّ فيه من روح الله؛ وبذلك تنفتح هذه المدرسةُ على التأويل، وتدور في أنساق معرفيّة متعددة لا تعرف الانغلاق، ولا تُكَفِّر الآخر – أيًّا كان – ولا تنفيه ولا تنبذه، لأنها ترى الله في كلٍّ، ولأنها حرَّرت نفسَها بصورة تامّة من المقولات المنطقيّة والفلسفيّة واللاهوتيّة واستدلالاتها التي استهوتِ المُتَكَلِّمَة والفقهاء فوقعوا في دوائرِها المغلقة. يقول: «تحرّرَ تفكيرُ التصوّف الفلسفيّ من القوالب الصّارمة، فتغلّب عليها، وصار يفكّر خارجها بحريّة لا تسمح بها قواعدُ هذا المنطق، ومقولاتُه، ومحاججاتُه، وأداوتُه، وانفردَتْ كتاباتُ محيي الدين بن عربي وأمثاله في أنّها فتحت آفاقًا للتأويل تتخطَّى الفهمَ الحرفيَّ المغلق للنصوص الدينيّة».

عن طريق الرفاعي تخفَّفْتُ من أعباءِ هذه السّطوة المعرفيّة أيضًا، فإنّه وإنْ كان يرى ضرورةَ إحياء هذا الجانب التراثي وبثِّه في النَّاس، وتداوله بين المتخصِّصين دراسةً واستكشافًا، إلّا أنَّه لا يرى الانغلاق في مداراتِه التي لا تنتهي أيضًا، إذ يرى وجوبَ مناقشته والتعامُل معه بأدواتٍ نقديّة تُثْرِي وجودَه. يقول: «التصوُّفُ الفلسفيّ في تراثنا مَنْجَمٌ ثمين للمعنى الميتافيزيقيّ والروحيّ والأخلاقيّ والجماليّ، غير أنّ اكتشاف ما تزخر به طبقاتُ هذا المنجم يتطلّب وجود مُكْتَشِفٍ بارع يغوص في تلك الطبقات، فيصطاد الجواهرَ الغاطسة في رُكَامِ أقوال وعبارات وشروح العُرَفَاءِ المملَّة، ويغربلها من ترويض تصوُّف الاستعبادِ». 

d8b9d8a8d8af-d8a7d984d8acd8a8d8a7d8b1-d8a7d984d8b1d981d8a7d8b9d98a-3 عرفان التحرير وعبد الجبار الرفاعي... عبد العاطي طلبة... 3

  ورغم ما يُنسب إلى مشروع الرفاعي من كونه تصوّفًا مُقَنَّعًا إلّا أنّه لا يُسْلِمُ قيادَه للتصوف، بل ولا يُسْلِمُ قيادَه لشيء أبدًا، فهو صاحب عقلٍ نقديّ حُرّ؛ ينتقي ما يناسبه من مسلكٍ في فهمه الرحمانيّ لله والدين والإنسان والعالَم؛ وما كان من أمرٍ إلا أن التقى في مسار فكره مع هذا النَّمَطِ من التَّفكير والرأي، إذ الرفاعيُّ من أنصار التصوّف الذي ينبسط على الوجود ويجعله أكثر رحابةً، ويرى العرفان «كنز الأديان، وعصارة معناها الروحي والأخلاقي والجمالي، لذلك يحرصُ الكلامُ الجديد على توظيف رؤية العرفاء لنمط الصلة بالله، المؤسسة على المحبّة المُتبادَلة بين الله وعباده، ويستأنفُ مقولاتِهم في النجاة والخلاص، ليكسر احتكارَ الرحمة الإلهية، والادعاء باختصاص النجاة والخلاص بديانة أو فرقة أو طائفة دون سواها»، ويقف موقفًا مضادًّا من التصوّف الذي يكتفي باستبطان الذّات فحسب، أو ذلك الذي يُؤْخَذُ فيه المريدُ بممارسات قاسية من التقشّف والزّهد وتعذيب البدن واعتزال الحياة، فالتصوّف لديه سلاح ذو حَدَّيْنِ؛ «وذلك يفرض على الباحثِ أن يتنبه للثغراتِ في كتب المتصوّفة والوهنِ الذي يتغلغل في طيَّاتها، وأن يتعاطى بيقظة مع آثارهم، فهي اجتهاداتٌ بشريَّةٌ وليسَتْ نُصُوصًا مقدّسة».

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات