عن العنصرية والعلم … بقلم: أكمل صفوت
بقلم: أكمل صفوت
طبيب استشاري علاج الأورام بمستشفى جامعة أرهوس بالدانمرك ومن المهتمين بالفكر الديني والإسلام السياسي وهموم المصريين في المهجر.

في بدايات القرن العشرين كان مرض الزهري منتشر ومالوش علاج. العقار الوحيد المستخدم له في الوقت ده كان مرهم الزئبق وده كان تقريباً مالوش جدوى.
طبيب نرويجي مدرك لعدم فاعلية الزئبق قرر مايديش المرضى بتوعه أي علاج لكن تابعهم ونشر بحث عن المراحل المختلفة للزهري في المرضى دول، وده كان بحث مهم جداً.
بعد كده ظهرت علاجات زي البيزموث والأرسينيك أثبتت درجة من النجاح في العلاج وكانت بتخفف الأعراض وبتقلل وبتبطئ تطور المرض بس كان لها آثار جانبية كبيرة.
في سنة ١٩٣٢ الأمريكان قرروا يعملوا دراسة أدق من الدراسة النرويجية يدرسوا فيها مش بس مراحل المرض المختلفة لكن تطوره وازاي بينتقل من مرحلة لمرحلة. الدراسة دي كانت تستلزم انهم يجمعوا عدد من المصابين ويتابعوهم -من غير علاج- بفحوص دورية وتحاليل ويجمعوا النتائج ويدونوها.
لو قرينا كتب الطب سنة ١٩٣٢ كانت كاتبة ايه عن الزهري وعلاجه حانلاقيها بتأكد على ضرورة العلاج بالأرسنيك والبيزموث حتى للحالات المتأخرة. يعني العلاج ضروري ….
طيب إزاي دراسة بتتابع المرضى من غير علاج اتوافق عليها؟
المفتاح -للأسف- حنلاقيه في أن الباحثين اختاروا للدراسة دي مرضى من الزنوج فقط .(وأنا هنا ياستخدم تعبير الزنوج زي ما كان بيستخدم في الكتب دي كإشارة للعرق الأفريقي وسط الأمريكان السود) …ودي مش صدفة.
الأفكار “الطبية/العلمية” السائدة عن الزنوج (مش بس في أمريكا) من المراجع الطبية للوقت ده كانت بتقول:
– أن نسبة الزهري وسط الزنوج عالية جداً.
– ان ده بسبب إن (الرجال) الزنوج من الناحية الوراثية، أقل ذكاء وأكثر عنفاً من البيض ولا يستطيعون -مهما حاولوا- التحكم فى رغباتهم الجنسية.
ولذلك -أكد العلماء- إن فكرة القضاء على انتشار الزهري -وسط الزنوج- بعلاجه، محكوم عليها بالفشل (لأنهم حايرجعوا يتعدوا تاني) هذا بالإضافة إلى إنهم غير راغبين فى العلاج من الأساس.
بناء على هذه القناعات “العلمية” الأطباء قدّروا أن منطقة زنجية فقيرة وفيها بطالة عالية زي توسكاجي في ولاية ألاباما تعتبر بيئة مثالية لتجربة “على الطبيعة” تدرس تطور الزهري بدون العلاج، لأن الزنوج هناك غالباً عندهم زهري وأفقر من إنهم يتعالجوا، ده لو فرضنا إنهم بيدوروا على علاج أساساً.
وفعلاً اتوافق على الدراسة.
لتشجيع الناس على الانضمام كانوا بيدوا المتطوعين ثمن تذكرة الأتوبيس لمكان العيادة اللى فيها الدراسة، ووجبة ساخنة يوم الفحص، وكانوا بيتكفلوا بمصاريف الجنازة والدفن للمتوفين -إذا تمت الإجراءات عن طريق المستشفى- علشان يقدروا يشرحوا المتوفين ويعرفوا تفاصيل أكثر دقة عن المرض.
الكلام ده كان سنة ١٩٣٢، وقت الأزمة الاقتصادية العالمية الشهيرة والكساد. حوافز التطوع في الدراسة كانت مغرية لقطاع كبير من فقراء الزنوج فاشترك في الدراسة حوالي ٦٠٠ متطوع لقوا فيهم ٣٩٩ مريض بالزهري و٢٠١ سليم.



مهم هنا إننا نقول إن ماحدش من المرضى كان عارف نوع التجربة أو مسارها أو تفاصيلها لأن الإعلان كان عن دراسة ل”فساد الدم” (تعبير عامي مش محدد) وان ماحدش من المصابين كان عارف انه مصاب أو عارف هو عيان بإيه بالضبط أو بياخد معلومات عن نتائج التحاليل بتاعته. وان كلهم كانوا فاهمين انهم بياخدوا “علاج” وماحدش من المرضى أو أهاليهم كان عارف ان جثث المتوفين بتتشرح !!
النتائج المبدأية أثبتت خطأ كل المقولات اللي الدراسة اتبنت عليها، فأوضحت أن نسبة الإصابة بالزهري كانت أقل بكثير من اللي كانوا فاكرينه، وأظهرت كمان إن المتطوعين للدراسة كانوا فعلاً عايزين يتعالجوا وإن ده الحافز الحقيقي وراء اشتراكهم في الدراسة، لدرجة إن الدكاترة بدأوا يكدبوا علشان يخلوا المرضى تيجي للفحوص فلما يبقوا عايزين المرضى تيجي لفحص سائل النخاع الشوكي يبعتوا لهم جواب علشان ييجوا لنوع جديد وخاص من “العلاج”، وكانوا أحياناً يدوهم علاجات غير فعالة علشان يوهموهم انهم بيتعالجوا.
الأفظع إن أطباء الدراسة دي كانوا بيمنعوا مرضى الدراسة من الاشتراك في الحملات الحكومية المعمولة لعلاج الزهري ولما كان واحد من المرضى بيروح الجيش -وقت الحرب العالمية الثانية- كان طبعاً بيتكشف عليه والمفروض ان الجيش لما كان بيكتشف حالة زهري كان بيعالجها، لكن دكاترة الدراسة كانوا بيبعتوا جوابات للهيئة الطبية العسكرية ويطالبوهم بعدم علاج مرضى الدراسة وكانت الهيئة بتستجيب !!!! الكلام ده استمر حتى بعد ما تم اعتماد البنسيللين فى الأربعينيات كعلاج ناجع وفعال يشفي الزهري.
بعد الحرب العالمية وبعد اكتشاف التجارب الفظيعة اللي الأطباء النازيين عملوها على البشر بحجة العلم، اتعملت مجموعة قوانين نورمبرج ولوائح أخرى بتنظم قواعد البحث العلمى على البشر وأخلاقيات الأبحاث وحقوق المرضى المشاركين في الدراسات الإكلينيكية.
الواحد كان يتصور ان ده كان كافي لإيقاف الدراسة دي أو إعادة النظر فيها لكن ده ماحصلش. أطباء دراسة الزهري في الأمريكان السود استمروا في التجربة وفي خداع المرضى الزنوج. لمدة أربعين سنة ! أيوه ..،، انتوا قريتوا صح، أربعين سنة…
تفاصيل كتير فى الحكاية دي تشبه الأفلام. أكثر من طبيب حاول ينهي التجربة لعدم أخلاقيتها وعنصريتها عن طريق مخاطبة الأطباء المسؤولين أو الجهات والجمعيات الطبية المعنية من غير نتيجة. وفي الآخر احتاج الأمر إن طبيب يسرب تفاصيل البحث للجرايد اللي بعضها نشر الموضوع على صفحته الأولى سنة ١٩٧٢. وحتى بعد التسريبات استمر المسؤول عن التجربة وقتها يجادل في أهمية استمرارها حتى “نهايتها”، يعني لحد آخر “متطوع” دخل فى الدراسة سنة ١٩٣٢ مايموت ويشرّحوه !!!!!!
طبعاً كان نتيجة التسريبات للصحافة والإعلام إن الدراسة أخيرا وقفت وظهر للعالم كلفتها البشرية، أكثر من مائة مريض مات من الزهري ومضاعفاته غير معاناة لا يمكن حسابها أو قياسها للباقيين. حوالي أربعين سيدة أصيبت بالمرض من أزواجهم لإنهم ماتعالجوش وعشرات الأطفال ولدوا مصابين بهذا الداء.

قوانين كتير اتعملت علشان تمنع ان حاجة تشبه كده تتكرر، وطبعاً فيه قضية اترفعت على الحكومة الأمريكية وكسبها الضحايا وأسرهم والحكومة دفعت تعويض.

في سنة ١٩٩٧ كان فيه تمانية بس عايشين من اللي اشتركوا في التجربة، خمسة منهم راحوا البيت الأبيض ووقف قدامهم بيل كلينتون وقال “إن ما فعلته حكومة الولايات المتحدة عار، وأنا أتقدم باعتذاري لمواطنينا من الأفارقة الأمريكان، أنا آسف أن حكومتكم قد نسقت دراسة واضحة العنصرية”.
لما قرأت عن التجربة دي لأول مرة من كام سنة اتصدمت جداً، لكن صدمتي الأكبر كانت لما عرفت ان الناس دي نشرت حوالي ١٦ بحث من نتائج التجربة في أهم المجلات العلمية الأمريكية والعالمية لحد منتصف الستينات من غير ما تحصل ثورة أو رد فعل في المجتمع الطبي ضد التجربة دي، لأن ده كان معناه بالنسبة لي إن العنصرية متغلغلة في عقلنا الباطن الجمعي -في العالم كله- بشكل ممكن يخلينا مانشوفش بشاعة ولا إنسانية فعل -بل ونتواطأ جميعاً على استمراره- بالذات لو تنكر في شكل “علمي”.
سنة ٢٠١٦ نشرت واحدة من أكبر الصحف اليومية في الدانمرك مقالة رأي لأستاذ جامعي دنماركي بيتكلم فيها عن ليه سياسات إدماج الأجانب فشلت في الدنمارك وكان رأيه ان السياسات دي فشلت لأن الأجانب دول معندهمش الجينات المناسبة للاندماج في المجتمع الدنماركي الأوروبي المتحضر وبيكرر “أدلة علمية” مشابهة للكلام اللي كان بيتقال عن الزنوج ومشابه لكلام النازيين على الأجناس غير الآرية من إنهم أقل ذكاءً (لأن حجم مخهم أقل) وأكثر عنفاً (لأن نسبة هرمون التوستيستيرون عندهم أكثر)، إلخ…
الراجل ده معروف بميوله العنصرية ومش أول مرة يقول الكلام ده، لكن دي أول مرّة جريدة بالحجم ده تديله مساحة بالشكل ده.
تقديري ان فيه حاليا وبالذات بعد وصول ترامب للبيت الأبيض اتجاه “للتطبيع” مع أفكار اليمين المتطرف -زي العنصرية- اللي كانت تعتبر لحد دلوقت مستهجنة ومحل سخرية وانتقاد، وده في رأيي أمر مرعب جداً. العنصرية شيء بشع وتقدر تسمم حتى ما نظنه موضوعي ومحايد كالعلم.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد