عودتي إلى الوطن الذي لم يعد (الجزء الأول).. بقلم: محمود عماد
هذه سلسلة مقالات تنشر أسبوعياً عن تجربة ذاتية لمغترب بعد العودة إلى مصر ورصد التغيرات التي حدثت وتحدث على مدار السنوات، وقد تتشابه تلك التجربة مع تجارب ملايين المصريين المغتربين في شتى بقاع الأرض!
محمود عماد

منذ لحظة خروجي من مصر والذي كان يسبقه مشهد دراماتيكياً في المطار، قد يصلح ليكون أحد مشاهد أفلام الدراما والتشويق، قررت أن يكون ذهابي بلا عودة، فراق بلا اتفاق، انفصال بلا اتصال. كنت أنظر من نافذة الطيارة وأنا محلق فوق سماء الإسكندرية وأقول في نفسي: اتفووووه، أنا أبقى عبيط لو رجعت هنا تاني!
لكن سبحان الله تتغير الأحوال بين عشية وضحاها فكما ذهب عطيه (يحيي الفخراني) في فيلم “خرج ولم يعد” ليبيع أرضه في القرية ويرجع مرة أخرى للمدينة ثم أصبح ذهابه بلا عودة، خلفت وعدي لنفسي وقطعت هجرتي لأعود بعد 6 سنوات من الفراق.
الفراق والغربة
لطالما سمعت عن الكلمتين السابقين في المدرسة والتلفزيون وفيه حكايات من يعودون من العمل في بلاد برا من قرايبي وأصحاب بابا لكن اختبار الشىء بنفسك يختلف عن سماعك عنه واللي ايده في المية مش زي اللى ايده ف دورة المية، واللي ع البر عوام!
سافرت يوم 1 أكتوبر متجها إلى دبي لأنني لم أستطع الحصول على تصريح أمني للسفر إلى تركيا، كنت في غاية السعادة. أخيراً خرجت من السجن، أخيراً حققت حلمي وهربت من مصر. كان الأدرينالين يتدفق في جسمي بجرعات عالية طوال الوقت، وقتها كان عندي استعداد لفعل أي شىء وكل شىء، كنت كالطير الذي حطم جدران القفص وانطلق إلى الأفاق العليا.
سرعان ما زرفت دموع الشوق، وماهي إلا أيام قليلة حتى أدركت أنني لن أزور مصر! لحظة إيه دا؟! يعني مش هشوف أهلي تاني، مش هشوف أمي تاني، يا نهار أسود.
لي عادة ما زالت مواظباً عليها حتى الآن وهي مشاهدة فيلم “الطريق إلى إيلات” في يوم 6 أكتوبر فهذا هو الفيلم الوحيد في كلام أفلام الحروب مع الصهاينة التي تعطيني شعوراً بالحالة واستحضار نشوة انتصار الأبطال. وعندما بدأت بمشاهدة الفيلم كما تعودت وجدتني أبكي دون وعي. لمست دمعة خدي بطرف أصابعي في صدمة شديدة، لم يحدث هذا من قبل، لم اختبر هذا الشعور سابقا. لأول مرة أعيط وأنا بتفرج على فيلم، ولما زاد نحيبي قولت بصوت عالي فيه إيه يا محمود مش أنت كنت هتموت وتسافر! مش انت كنت بتحلم بكدا مالك بتعيط ليه؟

ولما الفيلم خلص كنت بقول في سري يا حبيبتي يا مصر يا حبيبتي يا مصر.
كان هذا بالنسبة لي تعريف معنى الغربة واستشعار الفراق بيني وبين وطني، الأمر أشبه بحبيبة تريد أن تبتعد عنها وتختنق من سلوكها الضاغط على أعصابك وأطراف أناملك وتريد التخلص منها بضربها بمرزبة ضخمة على رأسها تهشم جمجمتها إلى أجزاء صغيرة، وحين تسنح الفرصة وتمسك بالمرزبة تكتشف قبل أن تهوي بها عليها أنك يمكنك التضحية بحياتك لحمايتها من الموت فهي حبيبتك التي أصبت بلعنة حبها مهما حاولت الفرار من الحقيقة.
عشت سنوات طويلة على أمل الرجوع، وانتظرت طويلاً حتى يتغير النظام وتقوم الثورة الجديدة لبناء مصر الجديدة لكن واسفاه كل ما وجدته هو العاصمة الإدارية الجديدة وما يتبعها من أكبر جامع وأضخم شارع وأجشع بائع، وحال المصريين بين مغترب ومنسحق وجائع. حتى فقدت الأمل في العودة ورضيت بالحياة البعيدة والتواصل الإلكتروني الذي لا يشفي ولا يغني من شوق لكن ما باليد حيلة والعين بصيرة والايد قصيرة.
ف لحظة جنان قررت أرجع واللي يحصل يحصل، يعني هيعملوا إيه فيا؟ هو مش بردو السجن للجدعان ولا هو كلام وخلاص؟ كان قرار عاطفي لا عقل فيه ولا منطق، كم أحب هذه المنعطفات في حياتي وسبر أغوار المغامرة والخوض إلى المجهول.
من جوايا عارف إني مش بطل ولا شجيع السيما بس مفيش مانع من الجنان والقدر عطاني أكتر مما أستحق ورجعت تاني للوطن ولاسكندرية ولحضن ماما.
حضن أمي كان دافئاً عذباً كما تركته لكن حضن الوطن لم يكن كذلك، كلما ضممت الإسكندرية بين ذراعي وشدت على خصرها أكثر رأيتها تنفر مني وتبعدني بلا تملل. مالها قد بدلت حنينها إلى الحبيب القديم، وتزينت بالكباري والمباني التعيسة وأضفت السواد على فساتينها الجديدة.
سأحاول استرجاع ما حدث في زيارتي الأولى لمصر بعد 6 سنوات من البعاد منذ 2018 وحكاية مصر من جوانبها السياسية والدينية والاجتماعية بالخلطة الذاتية لتجربتي التي لن تبعد أكثر من منظوري للأمور كما أحسست بها.
فبعد طول غياب عدت للوطن لكنه لم يعد إليَ!
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد