غريب في بيتي.. عودتي إلى الوطن الذي لم يعد.. حلقة 8 … بقلم: محمود عماد 

هذه سلسلة مقالات تنشر أسبوعياً عن تجربة ذاتية لمغترب بعد العودة إلى مصر ورصد التغيرات التي حدثت وتحدث على مدار السنوات، وقد تتشابه تلك التجربة مع تجارب ملايين المصريين المغتربين في شتى بقاع الأرض!

محمود عماد

d985d8add985d988d8af-d8b9d985d8a7d8af غريب في بيتي.. عودتي إلى الوطن الذي لم يعد.. حلقة 8 ... بقلم: محمود عماد 

غريب
هل شعرت يوم أنك غريب؟ هل شعرت بذلك الاضطراب الذي يختلج بين جنبات صدرك، ذلك الشعور بعدم الراحة للبعد عن المألوف وخروجك من منطقة الأمان.

غريب هو الإنسان 
يظل يتحدث عن سوء الأحوال، وعن قلة الأموال، وعن البلد التي تستنزف طاقته، ويود أن يرحل عنها بأي ثمن، حتى لو كلفه هذا حياته في مركب هجرة غير شرعية. ثم تجده إذا تحقق المراد، وسافر خارج البلاد ما يلبث بضع أيام حتى يصيح بصوت مسموع: أعيدوني إلى وطني من جديد!

يا لوقاحتك! 

كنت أتعجب من هذا الشخص، وأقول: من هذا المجنون الذي يخرج من هذا الجحيم ويعود له برجله وبمحض إرادته!

إن كل شباب مصر يتمنون فرصة واحدة للسفر ولن يعود منهم أحد. فهذه البلاد طاردة لشعبها، مستعبدة لضعيفها، غالقة لكل منافذ الحرية.

الغريب أنني أصبحت أردد نفس الكلام الذي سخرت منه. 

عندما ساقني القدر إلى السفر واستكمال دراسة الماجستير في تركيا كنت أسعد إنسان وعزمت على الهجرة الكبرى، لكن بعد أن زالت أيام الانبهار الأولى، 

أدركت أن السعادة ليست في تحسن أوضاعي المادية والجسدية.

وأدركت أن روحي مازالت متعلقة بمصر وبأهل مصر، متعلقة بعائلتي وإخوتي، متعلقة بأصدقائي وأحبابي. متعلقة بأحلام يناير والغد الأفضل، والعدالة للجميع. وأن سعادتي الفردية مغزولة في نسيج أكبر يشارك فيه الجميع.

أدركت أن هروبي من الجحيم لا يعني أن روحي خارج الجحيم. 

غريب هي الكلمة التي يتم وصفك بها في البلد الجديدة التي تعيش فيها.
أو “يابنجي” كما تُقال بالتركية.
من عاش في تركيا سيعرف هذه الكلمة جيداً حتى لو لم يتعلم اللغة التركية لأنه سيعرف أن هذه هي نظرة الناس له. هو غريب جاء من مكان مختلف عنهم وله أفكار مختلفة عنهم ويتكلم بلسان مختلف عنهم= إذا فهو غريب. 

كنت أرى الامتعاض على وجه العرب من هذا الوصف لكن هذه هي الحقيقة. 
حتى نحن في اللغة العربية نقول هذا “أجنبي” أي غريب، ليس من الجوار ولا نعرفه.
الغريب وحيد والوحدة هي الموت المحقق.
يعيش الإنسان حياته هارباً من إحساس الغربة بالتقرب من جماعة يشعر وسطها بالانتماء وينصهر داخلها محمياً بالدفء والأمان. 

حتى أن الدول التي تستقبل أعداد من المهاجرين كل عام تقوم بعمل برامج تسمى برامج “الاندماج” حتى تجعل من المهاجر الجديد نسخة قابلة للتفاعل داخل المجموع. 

في نظري كل هذا لن يغير حقيقة الاغتراب ويشهد بذلك تجارب الكثير من المصريين الحاصلين على جنسيات أجنبية ولديهم أسر واستقرار وانتماء إلى الدولة الجديدة لكن أرواحهم متعلقة بموطنهم الأصلي وجماعتهم الأولى ومكان نشأتهم. 

عندما زرت مصر أخيراً كان ينتابني بعض شعور الغربة، كنت أجلس مع الناس وكأني لست معهم، كنت أتحدث فيساء فهمي كأني أتحدث بلغة مختلفة، 

كنت أشتكي لصديق ونحن أمام بحر الإسكندرية المنعش وأحدثه عن رغبتي في العودة والاستقرار في مصر حتى أعود لشعور الراحة والانتماء وحتى لا يعاملني الناس كوني الغريب الذي قد أقتحم حياتهم، لكنه باغتني بقسوة 

وقال: لا تظن أن من يعيش هنا يشعر بالراحة والانتماء، أنا هنا ولم أذهب لأي مكان وأعيش كالغريب، إن كنت تعمل 12 ساعة في اليوم فلن يتبقى لك من اليوم إلا ساعات النوم وساعة أو ساعتين للأكل والاستحمام، لا لقاءات الأصدقاء ولا استرجاع لأيام الماضي ولا كل هذا الشجن الذي تسعى إليه، كل ذلك سيتبخر من ثاني شهر لك هنا لأنه غير متوفر أصلا لمن يعيشون هنا! 

مظلوم هذا الجيل الذي يعيش في مصر في هذه الحقبة التعيسة، هو بين اختيارين كلاهما مر.  

المهاجر ضاع عمره في البلاد البعيدة، وعاش في نار الشوق، وذاق مرارة الغربة ولم يجني من غربته الراحة التي سعى لها، ولا الثروة التي يحسدها عليه أقرانه. ومن ظل في الوطن عاش غريباً في بلده.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات