غَيْهَبُ الفقهِ والكلامِ الغَابِر.. بقلم: عبد العاطي طلبة …6
عبد العاطي طلبه
من الجامعة الأزهرية

(6)
غَيْهَبُ الفقهِ والكلامِ الغَابِر
نستقي ممّا سبق أنَّ الحاجةَ أَصْبَحَتْ مُلِحَّةٌ إذن – كما يرى الرفاعيُّ – إلى تفعيل «فلسفة الفقه»، وإلى «علم كلام جديد»، وإلى شجاعة استخدام مناهج حديثة كـ «الهرمنيوطيقا» في تفسير النصوص وفهمها. تأتي محاولاتُ الكاتب هنا استئنافًا للمسألة الدينيّة التي تؤرِّق تفكيرَه. نعم، يحتاج الإنسانُ إلى الدِّين، لكنّ الدينَ يعيش أزمةً بما نتلقَّاه في مجتمعاتنا بمناهجه القديمه، وأفكارِه الزمانيّة المُتَجَاوَزَة، ودوائره التأويليّة الجامدة؛ ما يُحَتِّمُ علينا البحثَ عن أدواتٍ جديدةٍ للفهم، ومن ثَمَّ محاولة ابتناء مناهج فكريّة أخرى تضع الإنسانَ المسلم وغير المسلم ومصالحه وحاجاته نُصْبَ عينيها. ولهذا جاءت محاولاتُ الرفاعيّ في مساهماتٍ تجديديّة غير واهمة، لا تتنكّر للإنسان ولا آلامه وآماله، ولا للدين في أزمته المعاصرة، ولا للعالَم الواقع ومشكلاته المُتَكَاثِرَة؛ ومن هنا انْبَعَثَتْ دعواتُه التجديديّة صوب أبنية الفقه والكلام القديمة المُوشِكَةِ على الانهيار وتدمير بني آدم، وما افتعلاه من مناهج في تأويل الدين وفهم العالَم.

يميّز كاتبُنا بين الفقه وفلسفته فيرى الفقهَ «يتناول ما هو معروف من الأحكامَ الشرعيّة لعمل المُكَلَّف، أي أنّه علمُ استنباط الأحكام الشرعيَّة، وتحديد الموقف العمليّ تجاه الشريعة بنحوٍ مستدلّ؛ بالتّوكُّؤ على أدواتٍ وقواعد يجري تنقيحُها في أصول الفقه، بينما لا تبحث فلسفةُ الفقه أسلوبَ الاستنباط، ولا علاقة له ببيان الموقف العمليّ تجاه الشريعة، وإنما يتجاوز ذلك إلى ميدانٍ آخر؛ يتناول فيه تشريحَ ماهيّة الفقه، واكتشاف طبيعة نسيجِه الداخليّ ومكوّناته، وكيفيّة نشأته وتطوّره، وتفاعله مع المؤثّرات الزمانيّة والمكانيّة والبيئة الجغرافيّة، والتأثير المتبادل بينه وبين الأعراف والعادات والتقاليد، والعصر الذي أُنْتِجَ في فضائه الثقافي ومحيطه الجغرافيّ، مضافًا إلى دراسة اصطباغ الفقه بمسبقات الفقيهِ وخلفياته ومنظوره الذاتي، ولون ثقافته، وميوله، وبيئته الخاصّة».
حاز الفقهاءُ سلطةً واسعةً بوصفهم ناطقين عن الشَّارع، مُوَقِّعين عنه كما يُعَبِّر ابنُ القيِّم، ولم تُعتبر نتاجاتُهم البشريّةُ بشريَّةً، وسعوا هم على مرّ التاريخ أن تكون لهم مقولةٌ في كلّ شيء يخصّ الإنسانَ من مناحي الحياة وضروبها، «واستحوذ الفقهُ على الدين الإسلاميّ بالتدريج، إلى أن احتكرَه بشكل شبه تامٍّ»، فلا نكاد نجد أمرًا وإن كان مُغْرِقًا في الدنيويّة إلَّا وللفقيه قول مسموع فيه، فجرى تقديسهم عبر الزَّمان على ما حازوا من سلطان على الناس وحيواتهم باسم الكلام الإلهيّ، وصار النّاسُ في حاجة دائمة إليهم ما دامتْ لا تستقيم حياتُهم في الدنيا والآخرة إلّا بوجودِهم. يرى الرفاعيُّ دارسَ الفقه القديم لا يلبث «يغرق… في تفاصيل مدوَّنته التي تضخّمت بالتدريج، وانحسرتْ – تبعًا لتضخُّمِها- معظمُ آفاقِ التفكير الدينيّ الأخرى، وفرضت حضورَها الصّارم على كلِّ ما يتَّصِلُ بأقوال وأفعال المسلم، وأخضعتْ كلَّ حياتِه لمعاييرها. وذلك يفرض تدشين علم قادرٍ على إجراء حفريّات عميقةٍ في المدوّنة الفقهيّة، من خلال تفكيك الأنساق المُوَلِّدَة للمعرفة الفقهيّة، والكشف عن العناصر المختبئة في عمليّة الاستنباط، وأثرها البالغ في توالد المعرفة وتشعّبها ونموها؛ وهذه مهمّة تتكفلها (فلسفةُ الفقه)، وهي علم لا يعتمد العُدَّة المنهجية والمفاهيميّة المعروفة في أصول الفقه أو الفقه، وإنّما ينفتح على فلسفة العلم، والعلوم الإنسانية، والاجتماعيّة المختلفة، ويتوكَّأ على مناهجها ومفاهيمها».

يحاول الرفاعيّ تفعيلَ فلسفتِه الفقهيّة وجعلها قَيْدَ التطبيق، وهو يدرس الخلاف المُتجدِّد كل عام حول «الهلال»؛ واضعًا بها أنموذجًا تطبيقيًّا للفلسفة الفقهيّة، إذ يقوم بالحفر عميقًا في البنية الفقهيّة وهي تتناول هذا الموضوع، منتهيًا إلى أنَّ الخلافَ في حقيقته ليس إلّا «محاولة استملاكه رمزيًّا، واحتكاره بغية إثراء رأس المال المقدّس… [وأنّ] الخلاف هو على هلالَين وليس على هلال واحد، فهلال الفقهاء غير هلال الفلكيّين؛ هلالُ [الفقهاء] مؤطَّر بمعنى دينيّ، في حين أنّ هلال الفلكيّين هلال ماديّ، مجرّد من المضمون الديني؛ بوصفه ظاهرةً كونيّة».
ننتقل الآن إلى ميدان الرفاعيّ الأثير الذي يراه مُنْطلقًا لأيّ تجديد حقيقيّ في الدين، أعني «علم الكلام الجديد». للرفاعيّ قدم السّبق فيه، فكان له اهتمام خاصّ بمسألة تجديد البحث الكلاميّ، بل ويراها أصلًا لأيّ عملية تجديديّة للفكر الإسلاميّ، ولا يمكن لفكر إسلاميّ جديد يريد النهوضَ بنفسه أنْ تكون له قائمة حقيقيّة ونجوع دون التَّحرر من أسر الكلام القديم، ومحاولة ابتناء علم للكلام جديد يقع الإنسانُ منه موقعَ الأصل والمركز. إنَّ «أية بدايةٍ لتجديد التفكير الديني في الإسلام لا تبدأ بعلمِ الكلام ومسلّماتِه ومقدِّماتِه المنطقية والفلسفية فإنّها تقفز إلى النتائج من دون المرور بالمقدِّمات، لأنَّ علم الكلام يمثل نظرية المعرفة في الإسلام، وهو الذي ينتج منطق التفكير الديني، ومنطق كل عملية تفكير هو الذي يُحدّد طريقةَ التفكير ونوع مقدّماته ونتائجه».
صدرتْ مجلةُ «قضايا إسلامية معاصرة» – أسسها ويديرها الرفاعيُّ – مهمومةً بالتجديد، وتناولتْ في خمسة أعداد منها موضوعَ الكلام الجديد. وصدر للرفاعي حديثًا كتاب بعنوان «مقدمة في علم الكلام الجديد»، يقول فيه: «انشغلتُ سنواتٍ طويلة في علم الكلام الجديد، وقرأتُ وسمعتُ البلبلةَ والغموضَ، والتشوُّشَ والالتباسَ في تعريفه، وتحديد موضوعه وأركانه ومرتكزاته، فأدركتُ الحاجةَ الماسَّةَ لتأليف مقدِّمة تحدِّد الإطار العام لهذا العلم، وتضع المعيارَ الذي يمكن اعتمادُه في تصنيف هوية المتكلم والكلام الجديد، وتوفِّر للباحثين والدارسين في علم الكلام وفلسفة الدين خارطةَ طريق ترسم المعالم الأساسيّة لعلم الكلام الجديد». تكمن أهميّة التجديد في علم الكلام لدى الرفاعيّ «في إطلاق حرية التفكير في العقيدة، وتعدُّد وتنوُّع الآراء والمواقف والمقولات الكلامية. ويعبّر اختلافُ المقولات ووفرتها عن تجسُّد اجتهادات ووجهات نظر متنوعة أفضى إليها التفكيرُ الكلاميُّ، مضافًا إلى أنَّها علامة فارقة على منح كلّ مسلم الحق في اختيار عقيدته، بل وحرمة تقليد غيره في المعتقد».
يرفض الرفاعي في علم الكلام الجديد أن تكون هناك أجوبة نهائية باتّة للأسئلة الميتافيزيقيّة، فيقول: «ما قاله مؤسِّسُو الفرق ومُؤَلِّفو المقولات الكلاميّة بخصوص رؤيتِهم لله، وصفاته وأفعاله، والوحي والنبوة، وما فهموه من النصوص الدينية، ليس إلا إجابات مرحليّة؛ تعبر عن زمانهم وبيئاتهم وثقافتهم، وما اكتنف حياتَهم الشخصية، وما عاشوه من ظروف مختلفة، عبَّرتْ عنها الصراعاتُ على السلطة والثروة في عصرهم… في علم الكلام الجديد يُعاد بناءُ مفاهيم الذات والصفات، والإيمان والكفر، والقضاء والقدر… كذلك يُعاد إنقاذُ صورة الله التي تشكَّلَتْ في فضاء النِّزاعات، والحروب، والاستبداد، وتَفَشِّي العبوديات، ورسمُ صورة تليق بعدالته، ورحمته، وجماله». علم الكلام القديم الذي وُلِدَ في عصوره المختلفة إذن لم يكن إلّا «مرآة لحياة المجتمعات الإسلامية، ارتسمت فيها الأسئلة والتحديات والهموم المتداولة في تلك المجتمعات آنذاك، وتم لاحقًا تعميم الآراء والمقولات الكلامية التي تبلورت في فضاء تلك الأسئلة والتحديات. وهي مقولات وآراء لا تعرف أسئلةَ حياتنا الراهنة»؛ ما يدعو إلى ضرورة العمل على ابتناء كلام جديد يناسب راهن العصر وأسئلته وتحديّاته، ويتساوق مع الإنسان ولا يتناساه؛ مُلَبِّيًا حاجاته الروحيّة والماديّة في الدّنيا قبل الآخرة.
ينبني التجديدُ في علم الكلام على أصول فصَّلها الرفاعيُّ في كتابه؛ منها: إعادة تعريف الإنسان، والكشف عمّا يمكن أن يُقَدِّمه الدينُ إليه من معنى روحيّ وجماليّ، والإقبال على التراث دراسة واستكشافًا، واستلهام جوانبه العقليّة والروحيّة منه والتقاط ما هو حيّ ومُحْييٍ منه وترك ما هو ميّت ومُمِيت فيه، والإقبال على العلوم والمعارف الحديثة ومحاولة استيعابها، ولا سيما العلوم الإنسانيّة، ومحاولة استخدام المناهج والأدوات الحديثة في فهم النصوص وتفسيرها، ودراسة الأديان ومقارنتُها، والكشف عن أنماط التديُّن والإيمان عبر التاريخ، وضرورة التحرُّر من التفسيرات الحرفيّة المغلقة للنصوص الدينيّة، وعدم الانغلاق في التراث ومحاولة استحداث أفكارٍ جديدة تخدم الإنسان دون الخروج عن النّسق الميتافيزيقي للدين؛ أفكارٍ تفسِّر الوحي تفسيرًا ديناميكيًّا لا يكون فيه النبيُّ منفعلًا بصورة سلبيَّة، بل متفاعلًا بصورة إيجابيّة، وتبني الصِّلةَ بين الله وعبده على أساس من المحبة لا على القهر والاستعباد، وتوقظ المعنى الروحيّ وتعزِّزه في النفس الإنسانية لتجد هناءها في هذا العالَم، أفكارٍ تتسامح وتعدّدية تأويل النص القرآنيّ، وتنفتح على الأفهام والأطروحات الجديدة.
إنّه مع تكاثر دعوات التجديد والإصلاح في علم الكلام، وتوالُد الأطروحات التي تتبنّى اسم التجديد، فإنّ الرفاعيّ يطرح معيارًا يمكن على أساسه تصنيف فكر ما بأنّه كلام جديد، أو مفكِّر ما على أنّه متكلِّم جديد؛ «ويتمثل هذا المعيارُ في كيفية تعريف المتكلم للوحي، فإن كان التعريفُ خارجَ سياق مفهوم الوحي في علم الكلام القديم، يمكن تصنيفُ قوله كلامًا جديدًا، لأنَّ طريقةَ فهم الوحي هي المفهوم المحوري الذي تتفرّعُ عنه مختلفُ المسائلِ الكلامية». ولا يعني الرفاعيّ بالتجديد في فهم الوحي إهدارَ مضمونه الميتافيزيقي بأي معنًى، بل يرى أيّ محاولة تنأى بالوحي عن طبيعته الإلهيّة لا تدخل في نطاق الكلام الجديد، إذ الوحي – في نظره – ذو بعدَين؛ «بعد إلهيّ، وبعد بشريّ، فهو من حيث تعبيره عن الله إلهيّ، وهو من حيث تعبيره عن الإنسان بشريّ»، ولذلك على المتكلم الجديد أنْ «يفكِّك بين الوحي من حيث هو، أي حقيقة الوحي، ومن حيث تمثُّلاته المتنوِّعة في الحياة الفردية والمجتمعية في مختلف العصور، و[أنْ] يحرص على تحرير معنى الوحي من إكراهاتِ التاريخ وصراعاتِ البشر وحروبِهم».

جاءَ تثمينُ الرفاعيُّ للدَّورِ الذي قام به أمين الخولي في السياق العربيّ من الدعوة إلى استخدام «الهرمنيوطيقا» أداةً في فهم النصوص الدينيّة من جهة كونِه من أوائل من دعا إلى استخدم أدوات منهجية جديدة في الفهم والتأويل، بل وكان أوّل من حاول أن يجد للهرمنيوطيقا مكانًا في السياق العربي والإسلاميّ. يرفض الخولي انحصارَ الدعوة إلى الاجتهاد الفقهيّ دون الاجتهاد الكلاميّ، ويرى التطوّرَ سنةً شاملةً تُلَابِسُ جميع المعارِف الإنسانيّة بأنواعها، وهي تشمل العقائد بدورها كذلك. يجب على العقائد –مثلها مثل الأحكام الفقهيّة – مواكبة مجريات الأحداث والأزمان لتظلّ مواءمة لحاجات الإنسان الروحيّة والمعنويّة، ملبِّيَةً إيّاها، لذا يرفض الخولي أيَّ قراءة لاتاريخيّة للتراث، فالتراث بشتى أنواعه وضروبه لم يكن إلّا ناطقًا عن ظروف عصره الذي ظهر وتشكّل فيه، مُستَجِيبًا لراهن زمانه، ومعالجًا مشكلاتِه التي كان يعاني منها.
وقد تناول الرفاعيَّ أمين الخولي بوصفه أوَّل هرمنيوطيقيّ في الإسلام قبل تلميذه محمد أحمد خلف الله، وقبل نصر حامد أبو زيد في أعماله الهرمنيوطيقيّة، يقول: «فرادةُ الشيخ أمين الخولي تظهر في محاولته الرائدة لتوطين الهِرْمِنيوطيقا والمناهجِ الجديدةِ في تفسير النصوص في مجال الدراسات الدينية بالعربية. بعد استقراءٍ وتتبعٍ يمكن القولُ إنَّ الخولي هو أولُ هرمنيوطيقي بالعربية، وربما في عالَم الإسلام. إذ لا أعرف أحدًا سبقه إلى ذلك، حتى في بلاد الإسلام غير العربية». ورغم أنَّ الرفاعيّ يرى كلَّ مَنْ يرى رأيًا جديدًا في الوحي – داخل إطار الدينيّ لا خارجًا عنه – صاحبُ رؤية كلاميّة تجديديّة، إلّا أنّه تعثّر في الوقوف على رأي للخولي في ذلك؛ ما يحمله على القول بأنّه لم يمارس التجديد في البحث الكلاميّ، ولكنّه قضى حياتَه لابثًا في الدعوة إلى التجديد فحسب، مهمومًا بإقحام الهرمنيوطيقا داخل سياق التفكير الدينيّ لدى الباحث المسلم.
ولنعرِّج قليلًا على «الهرمنيوطيقا» ومعناها. صدرتْ عن «قضايا إسلاميّة معاصرة» خمسةُ أعداد تتناولها. تعني الهرمنيوطيقا (نظرية التأويل) باختزالٍ «المبحثَ الخاصّ بدراسة عمليّات الفهم؛ وخاصة فيما يتعلّق بتأويل النصوص»، وهي – حسب تعبير رودولف بولتمان Rudolf Bultmann-: «فنُّ فهمِ تعبيراتِ الحياة المكتوبة». «تأتي كلمةُ هرمنيوطيقا من الفعل اليوناني Hermeneuein، ويعني (يُفَسِّر)، والاسم Hermeneia، ويعني (تفسير). ويبدو أنّ كليهما يتعلق لغويًّا بالإله هرمس Hermes؛ رسول آلهة الأولمب الرشيق الخطو؛ الذي كان بحكم وظيفته يُتْقِنُ لغة الآلهة، ويفهم ما يجول بخاطر هذه الآلهة الخالدة، ثم يُتَرْجِمُ مقاصدَها وينقلها إلى أهل الفناء من بني البشر… ومهما تكن شكوكنا حول صحة الصلة الإتيمولجية بين الهرمنيوطيقا وهرمس، فإن الصلة بين خصائص الهرمنيوطيقا، وخصائص الإله هرمس هي صواب مؤكَّد».
وقبل الانتقال عن علم الكلام الجديد ينبغي الإتيان على مقابلة الرفاعي بين محمد إقبال ومحمد عبده والتي بَدَتْ صادمة لدى لبعض، إذ انتهى إلى زيف ما يُسْنَد إلى محمد عبده من تجديد، مُثَمِّنًا الدور الذي لعبه محمد إقبال الذي لو لم ينغمس في السياسة ودروبها لأخرج لنا منهجًا كلاميًّا متكامل البنيان. لم يتعدَّ التجديدُ المنسوبُ إلى محمد عبده نطاقَ إطلاق بعض الفتاوى الجديدة مع الإبقاء على أصول الفقه والكلام راسخًا في أصل مقالاتِه الدينيّة؛ وتجريد علم الكلام من أثقاله الخلافيّة، وتطعميه ببعض الآراء والرّؤى العقلانيّة. ورغم كل ما نسب إلى محمد عبده من إصلاح ديني وتجديد إلا أنَّه كان مسكونًا بالماضي، بل ولم يغادره قيد أنملة؛ و«بناءً على ذلك لا يمكننا وضعُ جهود محمد عبده وأمثاله في خانة الكلام الجديد، لأنه كان يفكّر بذهنيةٍ كلاميَّةٍ قديمة، ويفتقر للحسِّ التاريخي، ولم يجتهد في بناء مفهومٍ للوحي خارج الذهنية التقليدية. علمُ التوحيد لديه هو الكلامُ التقليدي ذاته».
ما بدا صادمًا في رأي الرفاعيّ نجد صداه حتى لدى من يتناولون محمد عبده تناوُلًا تبجيليًّا – إن صحّ القولُ – ويرونَه مُجَدِّدًا كلاميًّا، فلأحمد الطيِّب مثلًا بحث صغير بعنوان «الإمام محمد عبده متكلِّمًا»، يقول فيها: «وتُعَدُّ (رسالة التوحيد) للإمام محمد عبده النّصَّ الوحيد المُوَثَّق، الذي يبحثُ فيه عن فلسفة الإمامِ الكلاميّة، ورؤيته التجديديّة ومدى تَحَرُّرِه من علم الكلام التقليديّ أو تأثّره به». يرى الطيِّبُ أنّه رغم تحرُّر محمد عبده من المذهبيّة الكلاميّة ودورانه مع الفلاسفة تارة، ومع المتكلمين من أشاعرة ومعتزلة تارةً أخرى إلّا أنّه لم يأتِ في الحقيقة برأي جديد لم يكن موجودًا في التراث الفلسفيّ أو الكلاميّ من قبل، وأنّه إنْ أردنا الوقوف على مظاهر التجديد في رسالته تلك فإنّها لن تخرج عن كونه لا يتقيّد بمذهب عقديّ بعينه، ولا تتجاوز اعتداده الشديد بالعقل مرجعيةً يضع لها حدودَها، ولا تتعدَّى تجديدَه في أساليب البرهنة بما يُلامِسُ فلسفات عصره ومعارفها. وهذا ما نراه أيضًا في تناوُلِ حسن الشافعيّ لمحمد عبده إلا أنّه يزيد في ذلك حُسْنَ ترتيبه للمسائل الكلاميّة من حيث وزنها وأهميّتها في نظر الفكر المعاصر، ووقوفه موقفًا معتدلًا بين الكلام والتصوف، وبين متقدّمي المتكلمين ومتأخِّريهم.
أمّا محمد إقبال فقد كان على خلاف ذلك، إذ «سعى إلى زحزحة علم الكلام القديم، وتمحورتْ جهودُه حول بناء فلسفة بديلة للدين، ليست مكتفيةً بذاتها، وإنّما اغتنتْ بما استوعَبَتْهُ، وتمثَّلَتْه في معارف الآخر» كما رأى الرفاعي. فمع إقبال يدخل الكلامُ الجديدُ مسارًا مختلفًا تُوضَع فيه لبناتٌ أساسيّة يُبْتَنَى عليها، ولا تُكَرِّرُ الماضي ولا تنحو نحوَه، وخلافًا لمحمد عبده الذي لم يَرَ رأيًا في الوحي جديدًا غير الرأي القديم الذي أعاده وكرّره بلغة مدرسيَّة، فإنّ محمد إقبال قد ناقش مسألة الوحي نقاشًا جديدًا يجعله من واضعي لبنات هذا العلم الناشئ. يقول الرفاعيّ: «كتب محمد إقبال (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، وهو أول نصّ في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد… عالج فيه التجربة الدينيّة، وصاغ مفهومًا للوحي يتمحور حول هذه التجربة، وميَّز بين تجربةِ الأنبياء وتجربة العرفاء؛ ذلك أنَّ الثانية يبقى صاحبُها حبيسًا فيها ولا يخرج من فضائها، فيما يتخطّى النبيُّ تجربتَه الشخصيّة، لأنها تمنح شخصيّته إرادة تغيير العالَم، وجعل إقبال الحاجةَ لوحي الرسالة الإلهية تختصُّ بمرحلةٍ من مراحل الوعي البشريّ، فإذا بلغ العقلُ رشدَه اعتمد على نفسه، ولم يعُد بحاجة إلى ما هو خارج عنه كي يتطوَّر ويتكامل».
وبمراعاة ما سبق ذِكرُه من أمر هذه المقارنة؛ يرجو الرفاعيُّ «الباحثين والمهتمين بالشيخ محمد عبده العودة إلى تراثه وغربلته، وتقييمه ونقده، والخلاص من الأحكام التبجيلية، ومنطق الثناء، والمديح الزائف… [التي تمنع من التمييز] بين المعرفة البسيطة في آثار محمد عبده، والمعرفة المركبة في آثار محمد إقبال»، فالأزمة الحقيقيّة – كما يرى – في المحاولات التجديديّة رغم جرأتها أنّها «لم تغادرْ المناهجَ التقليديَّةَ الموروثة، إذ كان أصحابُها ينطلقون من مناهج ومفاهيم وأدوات التراث نفسه في فهمه ونقده، وقلّما حاول بعضُهم توظيفَ مناهج ومفاهيم وأدوات جديدة من الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة في فهم الدِّين ونَقْدِ التُّراث».
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
تعليق واحد