فاعل غير
بجوار ضريح سيدي أبو الحسن توجد ساحة واسعة. كانت في السابق مقابر، تم تنظيفها وتخصيصها للاحتفال بالمولد النبوي ومولد سيدي علي أبو الحسن. كنا ثمانية من الشياطين الصغار، تتراوح أعمارنا بين العاشرة والثانية عشرة. نستغل فترة قيلولة الكبار عند الظهيرة في لعب الكورة بتلك الساحة الواسعة. نخلع الشباشب ونضعها عارضة للأجوان. مَن يلبس بنطلونًا يشمره إلى الركبتين، ومن يلبس جلابية فوق اللباس يربطها لحد وسطه، ونبدأ التفاوض على تقسيم الفرق وتحديد من يقف جونًا ومن يحاور. كان موضوع التفاوض يستغرق منا ساعة على الأقل، تتخللها خناقات وشد وجذب وغضب ومصالحة، إلخ. بينما لا يزيد وقت اللعب الحقيقي عن نصف ساعة بالكثير.
في وسط انهماكنا في اللعب، خرجت علينا خالتي جواهر. كانت الست جواهر امرأة كبيرة السن، لا تخلع جلابيتها السوداء منذ موت زوجها الذي لم نره، لا نحن ولا أحد ممن حدثنا عنه من الكبار. بصراحة وللإنصاف، هي سيدة طيبة، لا يخرج العيب من لسانها، طالما كانت نائمة في دارها وقت القيلولة. أما عندما كانت تستيقظ على أصواتنا، فإنها تسرع إلى مكان اللعب وتمطرنا بما لذ وطاب من الشتائم والطوب وما تيسر من القاذورات. عدا ذلك، فهي ست لطيفة وكيوت للغاية.
في ذلك اليوم المفترج، ظهرت الست جواهر فجأة من باب حارة تطل على الساحة. توقف اللعب وتجمدت الدماء في عروق الرفاق. لكنها هذه المرة كانت هادئة كالنسيم، رقيقة كأحلام العزاب. نادت علينا بحنان لم نجربه من قبل: “يا ولاد، البطة دخلت القاعة، وعايزة حد منكم يجي ينور لي أمسكها.” افتكرنا من الدهشة أنها شبح أو عفريت، هذه ليست الولية القرشانة التي نعرفها. وهنا يأتي دوري البطولي في القصة. فنظرًا لما أتمتع به من رجولة مبكرة وبطولة غامرة وشهامة منقطعة النظير، تقدمت إليها قائلًا بحنان مماثل: “تحت أمرك يا خالة. اتفضلي.”
سارت الست جواهر أمامي إلى دارها المصونة. كانت الدار تقع في حارة متفرعة عن حارة متفرعة بدورها من زقاق يطل على ساحة لعبنا. الدار مبنية بالطوب اللبن/الطيني، وسقفها من البوص، وهي دار قديمة للغاية وجدرانها عتيقة جدًا، ليس فيها ماء ولا كهرباء، وربما لا هواء أيضًا. مدخلها عبارة عن باب منزوع الضلفتين، يطل على بهو ضيق أمامه غرفتان، وعلى يسار الباب سلم خشبي يؤدي إلى السطح.
دخلت الست جواهر الغرفة الأولى، حيث تنام وتطبخ وتأكل وأشياء أخرى، وعادت وفي يدها لمبة جاز مشتعلة، مدتها لي لأنير لها الحجرة المجاورة ذات السقف الواطي. الغرفة غارقة في ظلام دائم ودامس ليلًا ونهارًا. بدخولنا إلى الغرفة، ظهرت أمامي كراكيب ربما يعود تاريخها إلى ما قبل عصر الأسرات من كل شكل ولون. بدأت الست جواهر تبحث عن البطة السوداء في الغرفة الظلماء في الليلة الليلاء. ونظرًا لما أتمتع به من ذكاء فطري وتفوق دراسي، فقد رفعت لمبة الجاز لأعلى، تطبيقًا لنظرية صابر بن حيان: كلما ارتفع النور زادت الإنارة.
وهنا وقعت أول كراماتي في مشوار حياتي المفعم بالكرامات. أحسست أن النور بدأ ينسكب ناعمًا من أعلى رأسي إلى أرضية الحجرة، بل وأحسست بدفء لذيذ يتسرب من رأسي إلى جسدي. يا لها من لحظات حالمة. رفعت الست جواهر بصرها باتجاه رأسي وصرخت صرخة مدوية، لو سمعها الأموات في ساحة الملعب لعادوا إلى الحياة قبل أن يموتوا من شدتها مرة أخرى. نظرت أنا كمان لأعلى فوجدت النار قد انتقلت – مش عارف إزاي – من اللمبة الجاز إلى بوص السقف وأخذت تنتشر شيئًا فشيئًا. سقط قلبي في لباسي، وسقطت اللمبة من يدي. في أول تجربة تنوير في مشوار حياتي العامر بالأنوار.
أفقت على صوت الست جواهر خارج الدار تلطم وتصيح وتنهال عليَّ بما فتح الله لها من أنواع الأدعية: “الله يخرب بيتك. إلهي أمك تعدمك، يارب قطر ياكلك، إلخ.” وبعد لحظات كان زملائي الأعزاء ورفاقي الخلصاء قد وصلوا من الساحة إلى حيث أقف متجمدًا كتمثال خارج الغرفة التي تشتعل النيران في سقفها. لم يكن هناك ماء في المكان، ولا تراب ولا أي شيء يساعد على إطفاء الحريق. ويبدو أن أحد الرفاق قد تفتق ذهنه الألمعي عن فكرة لوذعية جهنمية عبقرية: أن يقف الجميع على السقف، ويسقطوه من أعلى لتنطفئ النار من أسفل.
أسرع الصحاب بكل جرأة وشجاعة وهمَّة. صعدوا السلم، ووصلوا إلى السقف المشتعل من أسفله، وأخذوا ينطون ويدبدبون ويقفزون فوق السطح بحماس ونشاط وجدية لم أعهدها فيهم من قبل، مع مزيج من الصراخ والهتاف والضحك اللذيذ. فجأة سمع المجاهدون السبعة صوت طقطقة أو طرقعة تحت أقدامهم، وقبل أن ينهار السقف بفيمتو ثانية، كانوا قد قفزوا إلى سطح الغرفة المجاورة بكل أمان. وحانت اللحظة الفارقة والكرامة الخارقة للعادة الحارقة بزيادة: سقط السقف كله مرة واحدة، وسبحان الخالق، بدأت النار في الانحسار والاستسلام.
كان التمثال لا يزال واقفًا في مكانه يستمتع بصراخ وعويل وأدعية جواهر وابتهالاتها أن ينتقم الله من المنحوس، ومن رفاقه ولاد الكلب. آمين يا رب العالمين. وأخذ الملاعين ينظرون بكل فخر وافتخار وفشخرة وافتشخار إلى السقف وقد عانق أرضية الغرفة بعد فراق طويل، بينما دخان اللقاء الحار يتصاعد من الجوانب والأركان. وهكذا نجح الفرسان السبعة في إنقاذ دار جواهر من الحريق بعد مجهود شاق.
والتفتنا فجأة على صرخة الست من خلفنا، أعقبها سقوطها في مكانها أمام باب الدار وقد فقدت الوعي أو رحلت عن الحياة من شدة الفرحة بالطبع. فأخذ كل واحد منا ذيله في أسنانه و”هات يا فكيك”.
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد