فوزي البدوي وأثر الاستشراق والهاسكلاه في الدراسات الإسلامية بالدومينيكان الجزء الأول بقلم: محمد صلاح
بقلم: محمد صلاح سليم

نظّم معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومينيكان دورة علمية تحت عنوان “الإسلام والأديان الأخرى” وحاضر فيها الأساتذة فوزي البدوي ونايلة أبي نادر، وعبد الجواد ياسين، وكانت فرصة ثمينة للتعرف على أفكارهم ورؤاهم النقدية حول الإسلاميات والتراث، وعلاقات الإسلام بالديانات الأخرى، وأثارت المحاضرات نقاشات ومداخلات عديدة؛ مما يعكس بوضوح أن كثيرًا من هذه الأفكار جديدة على المناخ الأكاديمي المصري، وقد كان الدكتور فوزي البدوي المحاضر الأول في الدورة، وسنسلط الضوء في هذا التقرير على أول يوم من هذه المحاضرات.

بدأ د. فوزي البدوي بالتأكيد على أنّ كثيرًا من النقد التاريخي للظاهرة الدينية والاستشراق يُنظر إليه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية على أنه مجرد تشكيك وهجوم على الدين، وعلى الإسلام خاصة، أو أنه كله يعكس النظرة الاستعمارية تجاه الشرق ومجتمعات المسلمين, وأكد البدوي على أنه ربما تكون هناك دوافع استعمارية شكيّة لبعض أنماط الاستشراق، إلا إنّه من الإنصاف الاعتراف بأن هناك أيادي بيضاء استشراقية على التراث الإسلامي، بالتحقيق والاكتشاف والدراسة، فعلى سبيل المثال حقق “كاترمير” مقدمة ابن خلدون، وفعل مثله غيره من المستشرقين.
وبالنسبة للنظرة الاستعمارية، يرى البدوي أن جزءُا صغيرًا من الاستشراق الفرنسي والإنجليزي هو الذي تورط في هذا المنظور، أما مثلًا الاستشراق الألماني فقد اهتم بالمنظور الأكاديمي المحض، وركز على الفيلولوجيا أو فقه اللغة، بدلُا من الاهتمام بالمنظور السياسي أو الإيديولوجي.
ثم شرع البدوي – من قبيل التوضيح أولًا- في تسليط الضوء على الفرق بين منظورات مقاربة المسألة الدينية، فأكّد على أنّ دراسة الدين إما أن تكون من منظور تاريخ الأديان، أو الأديان المقارنة، أو علم الأديان، الذي يركز على دراسة الديانات عبر أسس علمية ومنهجية منها: التخلي عن أي نزعة معيارية أو تفاضل بين الأديان، واجتناب الجدل والدفاع اللاهوتي، والتفرقة بين الدين والتدين، أي بين الإيمان الشخصي ودارسة الدين علميًا. وهذا العلم تأسس في القرن التاسع عشر. وبيّن البدوي أن كثيرًا من علماء الأديان المعاصرين لا يزدرون الدين، بل يعدونه من أفضل ما أنتجه العقل البشري.وإما أن يكون المنظور الثاني المتعلق بالدين لاهوتيًا، وهذا المنظور يركز على الدفاع والنزعة الإيمانية التقليدية، وله مؤسساته وكلياته، وهو لا يُعنى بالنقد التاريخي، ولا يهتم به تيار النقد التاريخي، وإن كان لكلٍ مشروعيته الطبيعية، على الرغم من اختلاف المقاربات.

ثمّ تطرّق البدوي إلى الكلام عن الاستشراق، وحاول أن يلقي نظرة بانورامية حوله، فأكّد على أن هناك أنماطًا مختلفة داحل الاستشراق، تطورت وتداخلت، منها الاستشراق الكلاسيكي الذي اطور حنى حدود سبعينيات القرن العشرين، وفيه تيار يهودي وآخر يهومسيحي، وكان هذا النوع – في رأي البدوي- يشارك الثقافة الإسلامية مسلماتها التقليدية، على الرغم من أن كثيرًا من مفكري المسلمين تلقوه بالنقد والرفض.ثم ظهر في السبعينيات ما يُسمى بالاستشراق الجديد، الذي يمس الفكر الإسلامي في مواضع حساسة، وإن كان لا يختص بالإسلام وخده، بل طبّق رؤاه ومناهجه على اليهودية والمسيحية، أي أنه لم يتوجه بسهام النقد إلى الإسلام منفردًا، بل إلى الموروث الديني ككل، وأخذ على نفسه ألا يسلم بالقديم من غير تفكيك ونقد.
ذلك وقد ظهر الاستشراق بصفة عامة نتيجة لعصر الأنوار، الذي كانت له سمات جديدة في الفكر الإنساني، مثل بزوغ فكرة ومفهوم “المواطن” والحقوق والعقد الاجتماعي في الفلسفة السياسية، لكن أيضًا، ظهر “النقد التاريخي” وهو الاعتقاد بقدرة العقل على فهم الظواهر والأفكار داخل سياقها التاريخي، ووُجه النقد التاريخي بدايةً إلى النصوص الأدبية، ثم إلى النصوص الدينية المقدسة.وبين البدوي أنّ عالم الأديان بعد الأنوار أصبح مختلفًا، فلم يصبح شرطًا أن يكون مؤمنًا بالمقدس بالضرورة، بل المهم أن يرى أثر هذا المقدس فيما يمكن ملاحظته ووصفه ورصده، ودراسته في المجتمعات الإنسانية، أي لم تعد دراسة الدين تقتصر على المنظور الإيماني واللاهوتي، بل امتدت لتتجاوز ذلك إلى المنظور التاريخي والأنثروبولوجي.
فظهر علماء كبار، اهتموا أولًا بدراسات الكتاب المقدس، مثل يوليوس فلهاوزن، الذي أتى بنظريته الوثائقية ونقد العهد القديم، وبدأت تبرز مدرسة يهودية متأثرة بالأنوار؛ فظهر “مندلسون” رائد عصر الهاسكلاه أي التنوير اليهودي، وعزم على عدم الانغلاق في وجه حركة الأنوار، ونشأ جيل لم تعد تقنعه التصورات التقليدية، وطرح هؤلاء اليهود سؤال: من نحن؟ وأعملوا في تاريخهم معول النقد، وأعادوا كتابة التاريخ اليهودي.وتسمى المدرسة التي اهتمت بالعلوم اليهودية “حكمة إسرائيل” وهي تُعنى بإخضاع اليهودية إلى مقتضيات النقد التاريخي والعلم المعاصر، وكان اهتمام هؤلاء اليهود بالإسلاميات اهتمامًا عرضيًا من دون قصد أول الأمر، وكان دافعهم في هذه المرحلة معرفة تقاطعات تاريخهم مع تاريخ المسلمين؛ لأنهم كانوا جزءًا منه، فتخصص بعض رواد مدرسة “حكمة إسرائيل” في العالم الناطق بالألمانية في الدراسات الإسلامية، ويرى البدوي أنهم كما كان الاستشراق الكلاسيكي، لم يختلفوا جوهريًا عن الطرق التي درس بها المسلمون تاريخهم وفكرهم الديني.
ثم بيّن البدوي التطور الجذري الأهم الذي حدث للاستشراق، وهو ظهور الاستشراق الجديد عام 1977 الذي قلب الصورة، ومثّل خطرًا فكريًا على بعض المسلمات الإسلامية، وأتى من بريطانيا وأمريكا، فظهر عالم من التقاليد اليهومسيحية هو “جون وانسبرو” رائد المدرسة المراجعية أو التنقيحية، وله تلاميذ مثل مايكل كوك وباتريشا كرون.وتؤكد هذه المدرسة أن مصادر المسلمين متأخرة، وهي “مصادر وكفى” أي أنها لا تعكس تاريخًا حقيقيًا، بل هي تاريخ مقدس، ولا تُعد شاهدًا علميًا، ولا يوجد دليل خارجي على السردية الإسلامية التقليدية، بل ذهب وانسبرو إلى تأخر القرآن نفسه قرنًا أو اثنين عن القرن السابع الميلادي، وشككوا في مركزية مكة، وفي مسلمات أخرى.
وجدير بالذكر أن هناك حركة نقد تمت لاحقًا في الغرب نفسه لأسس هذه المدرسة، لكن الأهم أن البدوي أكد على أن القراءة العلمية النقدية الهادئة هي وحدها القادرة على نقد هذه المدرسة وغيرها، بل إن البدوي يرى نفسه كلاهوتي متكلم، وليس مجرد مؤرخ، لكنه ينتمي إلى الكلام الجديد، الذي يحترم مبادئ العلم المعاصر في أي موقف دفاعي.وخُتم اللقاء بأن هناك إمكانية لفهم ونقد الاستشراق الجديد، والتفاعل النقدي معه، وكان هذا موضوع اللقاء الثاني، وهو موضوع الجزء الثاني من هذا التقرير.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل:
salontafker@gmail.com
تابعنا عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي:
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد