في ضيافة الآخر – ليفيناس ومسألة الآخرية… بقلم: أبانوب خلّاف

بقلم: أبانوب خلاف

d8a3d8a8d8a7d986d988d8a8-d8aed984d8a7d981 في ضيافة الآخر - ليفيناس ومسألة الآخرية... بقلم: أبانوب خلّاف

نحن هنا أمام فيلسوف فريد من نوعه: يعترف أن التفلسف دون معرفة هايدغر هو محض سخافة ولا يرتقي أبدًا إلى التفلسفِ الحقّ. ورغم ذلك تشعر أن كل كلمة يكتبها تتجه ضد هايدغر. لهذا يمكن لنا القول أنه ينطلق منه ليتخطّاه إلى ما هو بعده، يقول: “حضور دائم لهيدغر وحوار مستمر معه لمغادرة فضاء هذه الفلسفة التي ندين لها “بأسف” – يقول ليفيناس1“.

فبدلًا من الانطلاق من الأنطولوجيا أصبح الانطلاق من الإيتيقا، وبدلًا من زيف العالم اليومي الذي رأيناه في المقال السابق، أصبح العالم اليومي غذاء كما يطلق عليه، وبدلًا من نداء الوجود، تدخل هنا “الاستجابة لقبول نداء الغيرية”. فكان من ليفيناس –كما انتقد هايدغر الفلسفة الغربية كونها أهملت سؤال الوجود– أن لامَ على هايدغر كونه أهمل قضية “الوجود – مع”، أهملها أشد إهمال ولم يعطها حقها الكامل، حتى أصبحت الفلسفة منعزلة وسجينة داخل أنانيتها2. ومن هنا يخرج لنا فيلسوف الغيريّة العظيم: إيمانويل ليفيناس.

levinas1-1 في ضيافة الآخر - ليفيناس ومسألة الآخرية... بقلم: أبانوب خلّاف
إيمانويل ليفيناس


يرفض ليفيناس تلك التجربة “للكينونة من أجل الموت” التي رأيناها عند هايدغر، ويرفض أيضًا التحرر بالعزلة ممّا أطلق عليه هايدغر “الوجود الزائف” ووحل الحياة اليومية. إن العزلة في رأيه —أي ليفيناس– ملازمة للموجود، ومزروعة بداخله؛ وليست محض انعزالٍ عن العالم، إنما هي مسجونة «في» الموجود في العالم، وإنها ترافق الوجود اليومي مرافقةً تامّة. وإن الوجود اليومي ليس سقوطًا أو خيانةً لمصيرنا الميتافيزيقيّ؛ لأن الحياة اليومية “تنبعث من عزلتنا، وتشكل اكتمالًا لها ومحاولةً يائسة للنهوض من بؤسنا الدفين. إن الحياة اليومية انهمامٌ بالخلاص”3.

إن هذا الأمر يرتبط ارتباطًا وثيقًا –في رأي ليفيناس– بالحرية؛ “فحرية الأنا ليست حظوة، وإنما عبء وثقل”4. إن علاقة الأنا بذاتها عند ليفيناس أشبه “بشبيه مكبّل بي، شبيه لزج وثقيل وغبي”5 مفروض على الأنا لأنه أنا! هي ليست وحيدة لأنها لا تَلْقى نجدة، بل لأنها ملقى بها كطعمٍ لذاتها. إن هذه ال”أنا” مكبّلة بذاتها. لذا تصير عزلة الإنسان بداخله لأنه لا يستطيع الفكاك من ذاته؛ فالموجود ينشغل بذاته، وحريته محدودة عبر مسؤوليته تجاه ذاته، لهذا يقول ليفيناس: “تنحسر حرية الموجود بفعل مسؤوليته عن ذاته”6. ويطلق على انهمام الذات بذاتها اسم “المادية”.

إن العالم في رأيه كالأغذية، وإن الخلاص يأتي عبره. وفي هذا ينطلق أيضًا ضد هايدغر بقوله أن العالم قبل أن يكون نظامًا من الأدوات التي تحيل لبعضها البعض، هو مجموعة من الأغذية. ولا يقصد ليفيناس أننا مثلًا نعيش من أجل الأكل أو أننا نأكل لنعيش؛ “فالغائية النهائية للأكل متضمنة في العنصر الغذائي”7. وكذلك عندما نشمّ وردة فنحن نتغذى روحيًّا بالرائحة، والتنزه يعني استنشاق الهواء النقي لا من أجل شيء إلا من أجل الهواء النقيّ، وهذا هو الغذاء.

 ويطلق على هذه العملية اسم “اللذة”. لذا يكون الغذاء خاصية تشكل وجودنا في العالم. وعملية الغذاء هذه يمكن تفسيرها بأنها تحرر من مادية الذات المنشغلة بذاتها، وأن التغذي من الحياة اليومية، ومما يكون في الأرض، يجعلنا نندمج بهذا العالم، ونتحرر قليلًا من ماديتنا المغروسة بداخلها العزلة. لذا يكون الغذاء من العالم أول التحرر من المادية التي تتشكل الذات وفقها عند ليفيناس. وليس التحرر هذا يعني أننا نبتعد كليةً عن الوجود الماديّ الذي للذات، بل إنه بالأحرى لنا أن نقول أنه خروج عن الذات في العالم، ثم العودة إليها مرة أخرى.

وإن هذا المجهول الأكبر هو الموت، الذي تكون علاقته مع الذات أشبه بلغزٍ. وإنه –أي الموت– يعلن عن “حدث لا تكون الذات سيدة عليه، حدث تكف الذات عن كونها ذاتًا بالنسبة إليه”10. وإذا كان الموت هو أقصى حدود الممكن في المعاناة، فإن الذات “تجد نفسها مربّطة ومثقلة ونوعًا ما، سلبية. بهذا المعنى يضع الموت حدًّا للمثالية”11. لذا يكون الموت ليس من سمات الوجود الأصيل كما يقول هايدغر، بل إنه تعبير عن المحدودية التي تشعر بها الذات في الألم، وفي العالم أيضًا.

d985d983d8aad8a8-d987d98ad8afd8acd8b1 في ضيافة الآخر - ليفيناس ومسألة الآخرية... بقلم: أبانوب خلّاف
مارتن هايدغر

 إن “الكينونة للموت” عند هايدغر تجعل الممكنات الأخرى متاحة وممكنة كالحرية والفاعلية. لكن، كما رأينا قبل قليل، أن الموت هو الممكن الأخير، ولهذا فإنه يشعر الذات بكل هذا الثقل، والسلبية، والقيد الذي يدمي المِعصم، ولا يفتح الموجود على هذه الممكنات الذي قال بها هايدغر. والموت ليس هنا، وليس الآن؛ لأنه إن وُجِدَ، لا أوجد أنا. وإن وُجِدتُ أنا، لا يوجد هو. وبما أنه ليس “الآن”، وإنه لا يكون بالنسبة لي “الآن” و”هنا”؛ فإنني سيد الآن. إن “الآن” حدثٌ ينتج عن كوني أنا؛ أنا صانع الممكنات وسيدها. لذا يصل ليفيناس أن الاستسلام للموت بالنسبة للذات هو “نهاية لرجولتها”؛ فذلك النحيب الطفوليّ يشير إلى حالة من اللا-مسؤولية. لكن الذات الحقّة تقف مرةً أخرى على قدميها كماكبث شكسبير وهو يقول: “فإني سأحاول المحاولة الأخيرة”. حتى النهاية نبحث عن الفرص في الحياة، نصنع كعادتنا الممكنات. 

وليس معنى هذا أن قدرات الفرد أصبحت، بطريقة ما، متناهية. ما يعلنه الموت بكل وضوح هو أننا، في لحظة معينة، لا يمكننا الإمكان. وهنا تفقد الذات تمكّنها كذات. “إن مقاربة الموت هنا تشير إلى أننا في علاقة مع شيء آخر كليًّا، أي مع شيء يحمل الآخرية، لا كتحديد مؤقت يمكننا تمثله عبر اللذة، إنما كشيء ما وجوده متشكل من الآخرية. بالتالي لا تتثبت عزلتي عبر الموت، بل إن الموت يشكّل كسرًا لها”12


ومن هنا تتسلل التعددية إليّ، تتسلل عبر المعاناة التي تشكّلها العزلة. وتسلُّل هذه الأنا الأخرى إلى ذاتي هو تسلل غامض، وعلاقة ملغَّزة؛ لأن الآخر يحافظ على خارجيته، رغم تسلله إليَّ. يبدو أن ثمة علو ميتافيزيقي هنا، لكن هذا الأمر يخلق أيضًا «لا-تناظر ميتافيزيقي»14.

إنه كما نرى الآن ليس علوًّا يمحي الذات ويقلل من شأنها (كما سنرى في المقال الآتي عند سارتر)، بل إن علوّه يعني خارجانيته. وهنا نكون في علاقة مع آخر تكون فيها الإمكانات ممكنة لكل ذات، إنها علاقة الوجه لِـ-وجه (وهذا حديث يطول، أشرنا له في المقال رقم ١ سريعًا، لكن ربما نتجه له في مقال آخر بشكل أعمق). ومن ثم تنشأ لغة الحديث، ويبدأ الحوار؛ إذ حين يتكلم كائنان فإن “الأنا” تتوجه نحو “الآخر” وتقول له: “أنت”، قبل أن يبدأ في الحديث عن نفسه.

وهنا يحدد ليفيناس العلاقة بين الأنا والآخر على أنها “مقابلة” و”ضيافة”: “أن يكون بإمكان الذات احتواء أكثر مما يمكن احتواؤه: ذاتية مضيافة للآخر، ذاتية كضيافة16.

ai-hands-practice-fennec-fox في ضيافة الآخر - ليفيناس ومسألة الآخرية... بقلم: أبانوب خلّاف

إننا في انفتاحنا على الآخر لا نفقد أنفسنا، بل نتعزز من خلاله. إن اهتمامنا بذاتنا مقيد داخلنا كما رأينا قبل قليل، وهنا يحذرنا ليفيناس ألَّا نقع في التماثل والتطابق؛ لأنه في التماثل والتطابق يختفي الآخر كـ”آخر”، وتختفي الأنا كـ”أنا”، ولا يبق إلا شيئًا غريبًا يبتعد عن هويته الأصيلة (والهوية هي أن يكون المرء هو هو وليس غيره. الأنا بوصفه معبّرًا عن الهوية، والآخر بوصفه مقابلًا للهوية).

 إن المقابلة تحدث في احترام كل واحد منهما مسافته الزمانية والثقافية والتاريخية، وإنها أيضًا –لتتكون علاقة حقيقية– يجب أن تكون علاقة تخدم الآخر ولا تنازعه، أي علاقة أخلاقية؛ “لأن التنازع بل وحتى التطابق يؤدي إلى انتفاء أحد الطرفين والقضاء بالتالي على العلاقة وتنعدم شروط المقابلة ووضعية الحوار”17.


  1.  إيمانويل ليفيناس: “الزمان والآخر”، ترجمة: جلال بدلة، معابر للنشر والتوزيع، سوريا – دمشق، الطبعة الأولى: دمشق ٢٠١٤، ص: ١٢. ↩︎
  2.  لمعرفة المزيد في هذا الشأن راجع: بوبعاية كريم، قايد سليمة: “ليفيناس قارئًا لهايدجر (من الأنطولوجيا إلى الإيتيقا)، حوليات جامعة قالمة للعلوم الإجتماعية والإنسانية، المجلد ١٧، العدد ٢ (ديسمبر ٢٠٢٣)، ص: ٣٨٧ – ٤٠٧. ↩︎
  3.  الزمان والآخر، سبق ذكره، ص: ٥٩. ↩︎
  4. نفسه، ص: ٥٧. ↩︎
  5. نفسه. ↩︎
  6. ص: ٥٦. ↩︎
  7. ص: ٦٥. ↩︎
  8. ص: ٧٤. ↩︎
  9. ص: ٧٥. ↩︎
  10. ص: ٧٦. ↩︎
  11. ص: ٧٧. ↩︎
  12. ص: ٨١. ↩︎
  13.  راجع المقال رقم ١ بعنوان “ما الذي تُحدِّق فيه، أيها الغريب؟. ↩︎
  14. ص: ١٥. ↩︎
  15. غيضان السيد علي: “الغيرية في التفكير الغربي بين غلبة الأنا والتضحية من أجل الآخر”، منشور في مجلة “الاستغراب”، العدد ١٠، بيروت – لبنان، ص: ٢٨٧. ↩︎
  16.  الزمان والآخر، ص: ١٤. ↩︎
  17.  الاستغراب، ص: ٢٨٨. ↩︎

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

2 comments

اترك رد

ندوات