في ضيافة الموت هايدغر ومسألة «الوجود – مع».. أنطولوجيا الآخَر في العالم المخيف … بقلم: أبانوب خلّاف
يأتي المقال هنا ضمن سلسلة مقالات عنوانها الرئيسي “أنطولوجيا الآخر في العالم المخيف”، ولكل مقال عنوان فرعي: بدأنا بـ”مرايا الهوية – نبوءة معبد دلفي”، وهو المقال رقم صفر. ثم نشرنا المقال رقم ١ بعنوان: “ما الذي تُحدِّق فيه، أيها الغريب؟”، وكان بمثابة مقدمة. ونحن الآن أمام المقال رقم ٢ بعنوان: في ضيافة الموت – هايدغر ومسألة «الوجود – مع».
بقلم: أبانوب خلاف

في ضيافة الموت هايدغر ومسألة «الوجود – مع»
إنَّ «الآخَر» هو أحد المفارقات الأشد تعقيدًا؛ فمثلًا يمكن أن يكون «جحيمًا» أو «نعيمًا»، «لحمًا للذات» و«تكوينًا» أو «تمزيقًا» و«تفريقًا»، يمكن أن يكون «عدمًا» أو «وجودًا». للآخر قوَّة إلهية وشيطانية على الإنية أن تتفاعل معها شاءت أم أبت إن أرادت الوجود. لذا، أليس من الواجب أن نتساءل عن هذا الآخر الذي يشاركنا الوجود، وجودنا الخاص؟ فنحن إذ نتساءل عنه، نتساءل عن أنفسنا أيضًا.

كان فيلسوف الغابة السوداء قد حدد الإلقاء في العالم بوصفه سقوطًا؛ فكان الوجود هو «وجود – مع» Mit Dasein؛ مع الأشياء والأحياء: وجود -مع- الغير -في- العالم. لكن هايدغر أشار إلى حالة الزيف التي تتبع السقوط مع الغير، وأن هذا “الوجود – مع” من شأنه أن يزيف الوجود الحق (الوجود الذي بكى هايدغر مصير تغييبه أو هجرانه أو نسيانه القاسي على مدى قرون غائرة من الزمان)؛ فيعيش الموجود كما يعيش الناس، يفكر كما يفكر الناس، يصبح نسخة من الناس، يدخل –بمرارةٍ تُبكي الكينونة– إلى وحل الحياة اليومية. تكون الذات في سقوطها أشبه بحالة من الهشاشة النفسية والفكرية؛ فلا يستطيع المرء أن يسير منفردًا، أن يفكر منفردًا، أن تكون له فكرة واحدة على الأقل مخالفة لمن هم حوله. وبسبب هذه الهشاشة فهو يحتمي في «الجميع»؛ يسير دربهم، يتخفَّى بينهم، على أمل ألا ينفضح أمام ذاته، وألا يشتعل الخمول الساكن في أحشائه؛ الخمول الذي إذا اشتعل أحضر قلقًا وريبةً ورهبةً من الموقف، والذي في اشتعاله يكتشف أيضًا ثغرة العدم الكامنة في وجوده (والعدم هو حالة وجدانية خالصة، ليست منطقية)، تلك التي يكتشفها القلق – من – وعلى.
ويتبع سقوط المرء في العالم ملامح رئيسية مثل: “الإغراء، الطمأنينة الظاهرية، مغايرة الذات، والموحل” 1. والإغراء هو أن يُغرَى المرء بالوجود السهل، الوجود اليومي، وجود الناس، والاهتمام بقول الأخرين أكثر من قول الذات. والطمأنينة الظاهرية تأتي من اعتناق آراء الآخرين؛ فما دمنا على رأيٍ واحد فهذا لا يفتح مجالًا للخطأ، ومن هنا تأتي الطمأنينة الظاهرية. ومغايرة الذات تعني أن يصير المرء آخرًا غير ذاته؛ أي أن يوافق الغير ضد نفسه، فتحدث حالة من الاختفاء الذاتي في صالح الغير. والوحل اليومي هو زيف الحياة اليومية وتفاهاتها وثرثرتها. وكل هذه السمات ضمن الوجود الزائف. “ولا يقف الأمر «بالناس» عند هذا الحد، إن سيطرتهم لتمتدُّ وتتسع فتُحدِّد كذلك فَهْم العالم والذات، لقد ضاع الناس في عالمهم؛ عالم كل الآحاد ولا أحد!” 2.
ويتحرر الإنسان من الزيف كما يقول هايدغر بالتفكير في الموت والقلق؛ القلق الناشئ عن وجوده في العالم، وعن الموت الذي هو المهدد الأكبر لوجودي؛ “إنه العدم الذي يسكن الكينونة بشكل مستمر” 3. فالموت من سمات الوجود الأصيل لأنه لا يستطيع لأحد أن يأخذ موتي عني، ومن ثم لا يمكن سحبه مني؛ ومن هنا يكون القلق من الموت أعلى شعور بالفردية؛ لأن الإنسان، كما قلنا، يميل إلى الفرار من مآسي سؤال الوجود ومن حالة الموت المصاحبة للحياة الإنسانية منذ نشأتها؛ فالزائف يحصر الموت -هروبًا وخوفًا- في عدد الوفيات، وفي حدث يأتي في نهاية العمر. لكن الموت، كما رأيناه في المقال السابق، يحيط بالعالم من كل أوجهِه، وعلى كل أحد أن يفكر في موته الخاص، وهو عند هايدغر أيضًا، موجود بوجود الحياة الإنسانية، لهذا كان يقول هايدغر: «إن هذا الوجود بطبعه هو وجود للموت Sein zum Tode» 4. أو كما كان يقول المعرّي: “والناس مثل النبت يظهره الحيا ويكون أول هُلكِه الإظهار”. إن القلق من الموت الذاتي، موتي أنا، يُشعِر بالفردية، ونداء الكينونة (الكينونة بوصفها الحقيقة المتوارية المندسَّة بتلقائية بكل ما يحيط بنا) لا يأت هكذا خالي الوفاض، بل يأتي معه كل هذه المشاعر المخيفة والمنقذة.
ويجب أن نفرِّق بالطبع بين الموت والفناء:
كان الموت دخيلًا على الإنسان في مراحله الأولى، فكان مثله كمثل باقي الكائنات؛ يفنى ولا يموت. أما الموت فدخل إلى العالم مع إدراك الإنسان لموته، حينها أصبح يموت، وحينها دخل الموت إلى العالم. وبدخوله –هذا الموجِد والموجَد؛ أي الموت– بإدراك الإنسان له بدأ يكوِّن رؤيته لعالمه. رويدًا رويدًا بدأ الإنسان يتساءل عن الموت، أصبح هو شغله الشاغل، وكل إجابة عن سؤال الموت كانت تحدد وتكوِّن نظرة في الحياة؛ يعيش الحياة على أساس إجابته سؤال الموت. هكذا أصبح سؤال الموت أساسًا للوجود؛ فلا يوجَد الإنسان إلا بالموت، وهو ما تغرَّبَ عنه الإنسان الحديث بإهماله سؤال الموت.
ولنفهم الموت عند هايدغر بشكل أعمق نقارنه هنا بالشاعر العظيم “ريلكه” (كان هايدغر -يا للمفارقة- قد انتقدَ ريلكه).
يفرق ريلكه بين الموت الصغير والموت الكبير، يقول:
“هناك يعيشُ رجالٌ شاحبو الوجوه (قارن بالمقال السابق) عقيمون،
يموتون في دهشتهم من عالم بالغ الثقَل يسحقهم.
هناك يكونُ الموتُ. لا ذلك الذي لامستْ تباشيرُه
طفولاتهم بصورة شائقة،
بل الموتُ الصغيرُ كما يُجتَرَحُ هناك؛
أما موتُهم الخاصُّ فيتدلّى منهم في فجاجتِه
لاذعَ الطّعمِ كثمرةٍ لم تَيْنَع.
سيّدي، امنَح كلَّ واحدٍ موتَه الخاصّ.
ليكنْ موته مُنبثقاً من هذه الحياة
التي وجد فيها الكآبة وحبّاً للمعنى” 5.
إن ريلكه يرى أن الموت الصغير هو موت الحياة اليومية العادي الذي لا يأخذ المرء إلى وجوده الخاص، والذي يجعل الموت الكبير، الخاص، “يتدلى منهم في فجاجتِه لاذع الطعم كثمرة لم تينع”. إن الموت الزائف يخفي الموت الحقيقي. ثم يدعو ريلكه كي يُمنَح كل واحد موته الخاص؛ أي وفرديته وذاتيته.
إن الحياة الحديثة قد حوَّلت الموت إلى بضعة أشياء مبهرجة لا تهتم سوى بالمظاهر الخارجية، وأفقدته قداسته وحبسته في مظاهر كنسية حديثة على حد تعبير ريلكه، وهو ما حاول هايدغر أن يقدم طريقة ليهرب المرء من هذا الزيف، يقول ريلكه:
“ما أغرَبَها وا أسفاه شوارع مدينةِ الألم
حيثُ وَسْطَ كاذبِ السّكونِ المصنوعِ من فائضٍ من الصّخب،
يلمعُ بقوّةٍ، وقد صُبَّ في قوالبِ الفراغ،
ذلك الدّويُّ المُذَهَّبُ، نُصبُ الضجيجِ ذاك.
لو رآها ملاكٌ لَكنسَ سُوقَ سلوانِها هذه لا يُبقي على أثر،
صاعقاً بَساطتِها الملأى بِسِلَعِ التّعزيةِ أمامَ كنيسةٍ جُلِبَتْ جاهزةً تماماً،
كنيسة مُغلقةٍ ونظيفةٍ وشاعرةٍ بالفراغِ كدائرةِ بريدٍ في يوم أحَد” 6.
انتظروا الحلقة القادمة من سلسلة مقالات “أنطولوجيا الآخَر في العالم المخيف” ………
لقراءة الحلقات السابقة اضغط الروابط التالية:
0- مرايا الهوية – نبوءة معبد دلفي.. بقلم: أبانوب خلّاف
1- ما الذي تُحدِّق فيه أيها الغريب؟ .. بقلم أبانوب خلّاف
هوامش ومصادر:
- إبراهيم أحمد: “إشكالية الوجود والتقنية عند مارتن هايدغر”، الدار العربية للعلوم – ناشرون: بيروت، منشورات الاختلاف: الجزائر، الطبعة الأولى: ٢٠٠٦، ص: ٨٣. ↩︎
- عبد الغفار مكاوي: “نداء الحقيقة مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر، مؤسسة هنداوي ٢٠١٩، ص: ٨٩. ↩︎
- عبد الرحمن بدوي: “دراسات في الفلسفة الوجودية”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت، الطبعة الأولى: ١٩٨٠، ص: ٨٥. ↩︎
- نفسه، ص: ٩٣. ↩︎
- راينير ماريا ريلكه: “كتاب الساعات وقصائد أخرى”، ترجمة وتقديم: كاظم جهاد، منشورات الجمل: بغداد – بيروت، كلمة: أبو ظبي، الطبعة الأولى: بغداد – بيروت ٢٠١٩، ص: ٣١٣ – ٣١٤. ↩︎
- راينير ماريا ريلكه: “سونيتات إلى أورفيوس – يسبقه مراثي دوينو وقصائد أخرى”، ترجمة: كاظم جهاد، كلمة: أبو ظبي، منشورات الجمل: بغداد – بيروت، الطبعة الأولى ٢٠٠٩، ص: ٣٢١. ↩︎
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
3 comments