قربان الدم… بقلم: أنسام النجار
“أين هو قلبك؟” ان منحت قلبك الى كل شىء فلن تحقق له شيئا، بل ستقضى عليه. هل يوجد كل ما تطلب على وجه الأرض!عند شروق الشمس كل صباح اعتادوا على تحيتها بقولهم”أشرقت الشمس، لكن كيف ستسلك طريقها؟ وكيف ستنضى يومها؟ وقد يواجه شعبها بعض العقبات والالام “، كما قيل “ان من يموتون فى القتال يرحلون نحو بيت الشمس، ويقيمون هناك بصحبة نورها.
بقلم: أنسام النجار

هذه الاقتباسات من كتاب لميجيل ليوت بعنوان “روحانية السكان الأصليين فى أمريكا الوسطى”. اختيرت هذه كبداية لموضوع يبدو أشبه بالخيال، بل ربما أقرب إلى أساطير قديمة كانت تروى كقصص رعب خيالية، غير أن ما نحن بصدد بحثه خلال هذه الأطروحة كان حقيقة صادمة في التاريخ البشرى: حقيقة قربان الدم.
هل يتصور أحدنا في هذا العصر الحديث أن بشرا قتلوا آخرين، لا دفاعا عن أنفسهم أو حماية لممتلكاتهم أو حتى طمعًا في أراضي من يُقتلون، وإنما لينالوا رضا الآلهة في السموات البعيدة؟
كان الذبح في أحيان كثيرة يتم بأيدي الكهنة على أبواب المعابد، كان الكهنة يسفكون الدماء المحملة بالصرخات والخوف والألم والعجز، وهم رافعو أيديهم الى السماء أن يتقبل الرب الأضحية البشرية، فيرضى عنهم. كانوا يشقون الصدور ويخرجون القلوب يرفعونها إلى السماء منتظرين أن يمن عليهم الإله بكامل رضاه.
لم أستطع من خلال البحث في علم النفس التوصل إلى الدوافع النفسية التي تجعل الانسان يتصور أن الدم والألم يقترنان بجلب الرحمة والرخاء، ولم أجد ما يربط بين الرغبة في سفك الدماء واستجلاب الرحمة. هل كان الانسان الأول يرى في سفك الدم شيئا من الحياة ذاتها؟ فبعض الحيوانات مثل النمور، والأسود، والفهود، والدببة تتغذى بقتل أخرى. وهنالك حيوانات كثيرة تتغذى وتحيا بسفك الدماء. ولماذا نذهب بعيدا؟ فالإنسان بالفعل يتغذى على ذبح بعض الحيوانات. لكن الدافع للقتل هو سد الجوع، فالإنسان يقتل فريسته ثم يتغذى عليها.
هل هو ارتباط الميلاد ذاته بالألم والدم، واعتبار أن الحياة تولد من الألم والدم؟ ما الدافع وراء اعتقاد البشر أن القتل والدم مرتبطان بجلب الخير؟
كانت القرابين من الحيوانات والبشر رجالا ونساءا وأطفالا، ولم تقتصر على منطقة جغرافية بعينها أو حتى ثقافة أو دين بذاته، بل مورست في مختلف البقاع وعبر مختلف الأزمنة.
في هذا البحث عرض لممارسات تقديم القرابين البشرية في ثقافات سابقة، ثم مقارنة بين معنى طقس قربان الدم المقدم في إطار رؤية فلسفية دينية، وشكل هذا القربان في الديانات الابراهيمية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام.
القرابين البشرية في ثقافات مختلفة ودلالتها
قدم أبناء شعب الأزتك في المكسيك القربان البشري في طقس ديني. يقول إيدوين ماير لويب في كتابه “عقدة الأضحية البشرية”: لقد قتلوا حوالي 2300 إنسانا، ويشير إلى أن شعب الأزتك كان يرى أنه يجب تقديم المزيد من القلوب البشرية كي تشرق الشمس كل يوم. كانت الصدور تُشقّ وتُخرج القلوب وتُرفع إلى السماء كي يرفع الإله البلاء عن هذا الشعب، أو يغمره بالنماء. وكان أبناء الأزتك يحصلون على قرابينهم البشرية بالإغارة على جيرانهم وأَسْر الأشخاص الذين سيضحى بهم فيما بعد.
مارست عشر حضارات تقريبا نفس الطقس في مراسم دينية، منهم على سبيل المثال البابليون والكنعانيون والأزتك والمايا والتولتك والأنكا والتولتكس والكلتس.

ومنذ ظهور الدراسة المقارنة أو التاريخية للأديان في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، جرت محاولات لاكتشاف أصول التضحية بالبشر. ورغم أن هذه المحاولات ساعدت في فهم هذه التضحية بشكل أكبر الا أنها لم تكن حاسمة.
في عام 1871 اقترح السير ادوارد بورنيت تايلور، عالم الأنثروبولوجيا البريطاني، أن التضحية كانت في الأصل هدية للآلهة لاستجلاب عطاياها أو صد عدائها، فما الدوافع وراء مثل هذه الممارسات تاريخيا؟
يقول السير جيمس جورج فريزر عالم الأنثروبوجيا والفولكلور البريطاني، مؤلف “الغصن الذهبي” إن التضحية نشأت في ممارسات سحرية يتم فيها تنفيذ طقوس ذبح الإله كوسيلة لتجديد شباب الإله. كان الملك أو زعيم القبيلة مقدسا لأنه يمتلك المانا أو القوة المقدسة، التي تضمن رفاهية القبيلة، وكان يُقتل ويستبدل به آخر حين يضعف بتقدم العمر مثلا، وتضعف بالتالي قوته، وتصبح القبيلة معرضة لخطر الانهيار.
أما عالما الاجتماع هنري هويد ومارسيل موسى فقد ركزت أبحاثهما على التضحية الهندوسية والعبرية، وتوصل الاثنان الى استنتاج مفاده أن “التضحية هي عمل ديني من خلال تكريس الضحية، مما يحسن الحالة الأخلاقية لمن يضحي، وكأن التضحية تنشئ علاقة ما بين عالم المقدس والحياة الدنيا، ويحدث ذلك من خلال وساطة الضحية المذبوحة وفق طقوس معينة تعمل كممر بين العالَمين.
أما ويليام روبنسون – وهو عالم اسكتلندي موسوعي شهير – فقد سجل انطلاقة جديدة بنظريته القائلة إن الدافع الأصلي للتضحية كان لمحاولة تحقيق الشراكة بين أعضاء المجموعة من ناحية والإله الذي يعبدونه من ناحية أخرى.
كيف تمت الاشارة للفداء في العهد القديم؟
هناك إشارة في الكتاب المقدس الى إله كنعاني قديم اسمه مولش (Molch)، كان يطلق عليه لقب إله التضحية بالأطفال. منذ عام 1953 نشرت كتابات لعلماء أن اسم مولوك يشير الى الذبيحة نفسها، حيث إن الكلمة العبرية “ملك” متطابقة في التهجئة مع مصطلح يعني التضحية، وذلك في اللغة البونيقية (القرطاجية) ذات الصلة الوثيقة. ولا يزال الجدل مستمرا حول ما إذا كانت الذبائح قد قدمت للرب أو لإله أخر، أو ما إذا كانت التضحية عادة اسرائيلية أصلية أو مستوردة من الفينيقيين. نجد أنه في سفر الملوك الثاني، يرتبط مولوك بالتوفة أو مكان الإحراق في وادي جهنم عندما دمرها الملك يوشيا، ونجّس توفة التي في وادي بن هنوم لكي لا يعبر ابن أو ابنة له في النار إلى مولوك (مولوك الثانى 10:23)، سفر آرميا (19:5و7:31). وأخيرا يُدين النبي أرميا الممارسات المرتبطة بمولوك باعتبارها تظهر الخيانة للرب.
نحن نجد أنه وفقا لسفر اللاويين، فمن أخطأ “وخان خيانة بالرب وجحد صاحبه، أو وجد لقطة وجحدها وحلف كذبا.. يأتي الى الرب بذبيحة لإثمه كبشا صحيحا من الغنم؛ ذبيحة إثم للكاهن، فيكفر عنه الكاهن أمام الرب فيصفح عنه” (اللاويين 21-22). هنا القربان ذبيحة من الحيوان لطلب الغفران من الرب.
وفي سفر اللاويين أيضا ” من أخطأ وخان خيانة بالرب وجحد صاحبه أمانة أو مسلوبا، أو سلب صاحبه، أو وجد لقطة وجحدها وحلف كاذبا، يأتي الى الرب بذبيحة لإثمه كبشا صحيحا من الغنم، ذبيحة إثم للكاهن، فيكفر عنه الكاهن أمام الرب فيصفح عنه” (اللاويين 6,1:6). وفى المقابل فإن ابني هارون – وهو الكاهن الأكبر – يموتان فورا لتعديهما حدا من حدود التابو: “وأخذ ابنا هارون كل منهما مجمرته وجعلا فيهما نارا ووضعا عليهما بخورا وقربا أمام الرب نارا غريبة.
وأخذ ابنا هارون: “ناداب وأبيهو، كل منهما مجمرته وجعلا فيها نارا غريبة لم يأمرهما بها” سفر اللاويين من(01:10). لقد اخذ ابنا هارون وفقا للتوراة مجمرة فيها جمر – والمجمرة هي صفيحة من الحديد يوضع فيها الجمر – فوضعا عليها بخورا وقدماها للرب فسخط عليهما فسلط عليهما نارا قضت عليهما..فقال الرب لموسى القرابين مني أنا أشرعها لأمجد بها الشعب و قدسه، بمعنى لماذا أتى ابنا هارون بطقوس لم أوصيهما بها ..ثم دعا موسى ميشائيل والصافان بنى عزيئيل عم هارون وقال لهما ارفعا أخويكما من أمام قدس الرب الى خارج المحلة ،فأخرجهما خارجها، ثم قال موسى لهارون وبنيه العازر وايثامار “لا تكشفوا رؤوسكم ولا تشقوا ثيابكم فيكون مصيركم كمصير أخويكم فيسخط الرب على الجماعة. أما في بيوت بني اسرائيل فقد بكوا على ما أحرقه الرب”. ثم قال لهم موسى “لا تخرجوا من خيمة الاجتماع لأن دهن المسح لازال على أجسادكم”.
بعد هذه الحادثة حد إله التوراة على موسى وهارون وبني اسرائيل حدودا أو محرمات تمنعهم من ممارسة بعض البدع عند خيمة الاجتماع.. منها عدم دخول المخمور اليها للتمييز بين المحلل والمحرم وبين الطاهر والنجس، وعلى موسى تبليغ بنى اسرائيل بفرائض الرب (التوراة اللاويين إصحاح 10).
يفهم مما سبق أن ابني هارون قد خالفا طقوسا مقدسة فحكم عليهم بالموت كعقوبة إلهية تقربا لله ووضع الحدود لبني اسرائيل، فتكون عقوبة خطيئة ابني الكاهن هنا الموت.
مما سبق ذكره لا يمكن القول إن التضحية البشرية كانت تمارس على نطاق واسع أو حتى أنها كانت عادة في اسرائيل القديمة، لكن الأدلة النصية تشير الى أن البعض اعتقد أنها فعالة في تكفير الخطايا (مى 6-7) أو في تفادي كارثة عظيمة (مى 27:3)، ومع ذلك لا يشير أي من النصوص العبرية للكتاب المقدس التي تصور التضحية البشرية إلى أن لدم الضحية البشرية على وجه الخصوص دورا خاصا في الكفارة، فقد كان دم الحيوان فقط هو المستخدم وليس القربان البشري.
ولكن ما حكاية الجرار التي عثر عليها وأثارت فكرة الفداء البشري؟ فقد وجدت أثناء التنقيب جرار دفن فيها الأطفال بطريقة مقلوبة مما يعني أنهم قتلوا وفق طقس ديني كان يمارس في هذه المنطقة؟ ولم يمكن التأكد مما إذا كانت هؤلاء الأطفال قد دفنوا احياء أو بعد أن لفظوا أنفاسهم. وجدوا جثث مقطعة، وجرار ممتلئة بالرمال، بعضها موضوع على جانبه بطريقة مكررة كثيرا. لقد أشار الكتاب المقدس فعلا لهذه الممارسة، ولكن عن قيام ملك كنعاني سابق بالتضحية بالأطفال، ولا يوجد في التوراة تكليف للقيام بهذه الممارسات، وبالتالي تظل الإشارة إليها في التوراة على سبيل الذكر وليس التكليف.
قصة النبى ابراهيم فى التوراة وإقدامه على ذبح ابنه تقربا للرب
أخبرتنا التوراة عن قصة واضحة وصريحة للقربان البشري ممثلة في إقدام النبي ابراهيم على ذبح ولده اسحق قربانا للرب “يا ابراهيم، ها أنا ذا، خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق، واذهب الى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك“ سفر التكوين 1،2″، فلماذا طلب الرب إذن تقديم ابراهيم ولده اسحق وفق التوراة ذبيحة رغم أن التوراة فيما بعد حرمت الذبائح البشرية؟
يبدو أن الأفكار التي كانت سائدة في تلك الأيام هي اعتبار أن الذبيحة البشرية هي قربان القرابين، وإذا كان القربان مقدما لعزيز أو قريب كان أغلى، وهل هناك من هو أغلى من الأبناء ليتم تقديمهم كقرابين؟ تدخل الإله هنا ليمنع ذبح إسحق، وقدم أضحية من الغنم بدلا عنه ليُضحى بها. فهل يبدو أن التوراة هنا تخلص البشرية من فكرة القرابين البشرية، وتعلن عن مرحلة جديدة من القربان الحيواني بدلا من البشري لاختبار القلوب واستجلاب رضا الرب والكف عن هذه الممارسات؟
التضحية والفداء في المسيحية:-
هل يمكن القول إن المسيحية في الأساس قائمة على فكرة الفداء البشري ممثلا في المسيح الذي أتى العالم ليفدي البشر بابن الله فانتهت بقدومه فكرة القربان البشرى بتقديم الرب ابنه قربانا؟
لقد تكررت الاشارة الى إقدام نبي على قتل ابنه، والحدث يسبق المسيح، لقد كان النبي ابراهيم نفسه وفق الكتاب المقدس كما ذكرنا سيذبح ابنه اسحق تقربا لله، فهل هي نفس الفكرة، الأب الذي يتقرب للرب بذبح الابن؟
لقد جعلت المسيحية من خطيئة آدم أساسا لاهوتيا، وأصبح الفداء (الخلاص أو الدم على الصليب) أساس الدين المسيحي، ولم يُشَر من قريب أو بعيد إلى أن هذا الفداء كان دليلا على وجود الممارسة أصلا في المنطقة والرغبة في التخلص منها، ولا حتى أن فكرة قربان الابن ذاته المقدم لله كان معتمدا في أكثر من موضع. لقد أشارت المسيحية فقط لخطيئة واحدة عظيمة وهي خطيئة أدم. وحسب اللاهوت المسيحي يولد الإنسان مذنبا، والخلاص مرتبط بارتباط الانسان بالمسيح وبقوة ايمانه وبالروح القدس (يوحنا الاصحاح 25-15).
لقد وصف دم المسيح بأنه قربان القرابين جميعا، حيث أن المسيح حسب الحواريين “حمل الله” الذى ذكر على كل القرابين (عبرانيين 15)، ووفق نظرية التعويض الجزائي عن الكفارة فإنه يمكن مقارنة صلب المسيح بالتضحية بالحيوان، لأن موته هو بمثابة عقوبة بديلة لكل خطايا البشرية.

لكن إذا كان الله يكره التضحية بالبشر فكيف قدم المسيح ذاته قربانا؟ أو بمعنى آخر هل الحدث (صلب المسيح) إقرار بالطقس، أم كراهية له وتنفير منه؟ لقد حُرّمت الذبائح البشرية في كل من (اللاويين 21:18)،(25:24) ،التثنية من (10:18) وفي حزقيال 39،37:23، حيث تعتبر الذبيحة البشرية وفق العهد القديم من الممارسات الشريرة مثل السحر والخرافة التي لا ترضي الله. وكان الرد في إصحاح يوحنا أن يسوع لم يُضحِّ الله به، ولكن ” ليس أحد أن يأخذها منى، بل أنا أضعها رضاى. لى سلطان أن أضعها رضاى وسلطان أن أخذها أيضا” (يوحنا 10:18). فيكون فداء المسيح طقسا خاصا بابن الرب فقط، وليس طقسا يمكن أن يمارسه المسيحون أبدا بحق أولادهم.

الفداء في الإسلام ما بين التراث والقرآن:-
في التراث الإسلامي نجد في قصة حفر بئر زمزم ونذر عبد المطلب جد النبي محمد عليه السلام إشارة الى وجود فكرة القربان البشري لله بين العرب قديما. (مرة أخرى الأب والابن المفضل عنده). تقول القصة (٦) إن عبد المطلب لم يكن قد أنجب من الأبناء عددا يرضيه، فنذر لله عند حفر بئر زمزم إن وهبه عشرة أبناء سيذبح أحدهم قربانا وشكرا لله.
وعندما بلغ عدد أبنائه عشرة أخبرهم بنذره، واقترع على أي من الأبناء سيكون وفاؤه بنذره، وكانت القرعة تقع في كل مرة على ابنه عبد الله الذي كان أحب الأبناء اليه. وهنا تقول الروايات أنه لجأ لعرافة أو أن أخواله من بنى مخزوم تدخلوا وقالوا أرضِ ربك وافْدِ ولدك بمئة ناقة. ويقال أيضا إن بناته انتحبن كثيرا وقت الوفاء بالنذر كي لا يذبح والدهن أخاهن. ونجد القصة مذكورة في “فضائل الأنبياء”، روى الحاكم من حديث عبد الله بن محمد العبثي حيث نادى رجلٌ النبيَ محمد بابن الذبيحين، وهنا يقصد (اسماعيل وعبد الله).
أما في القران فقد تمت الإشارة بوضوح في سورة الصافات (103) “وفديناه بذبح عظيم” الى فكرة القربان البشري (الأب والابن)، “فلما أسلما وتله لجبين وناديناه أن يا إبراهيم (104) قد صدقت الرؤيا”.
وبالرغم من أن الله وِفق القران قد افتدى ابن النبي ابراهيم بذبح عظيم، ذلك الذي فُسر أو حُول فيما بعد لكبش عظيم، كممارسة طقس الفداء في عيد الأضحى؛ الا أن أصل الفكرة هو إقدام الاب دون تردد على ذبح ابنه كي ينفذ أمر الله الذي أتاه في رؤيا أثناء نومه.
وتأتي مسألة فداء المسيح كنموذج آخر للقتل، ولكن لم يُشر هنا من قريب أو بعيد الى رمزية القصة من ناحية أن الله يفتدي بنبيه، بل جعلها أن الله أنقذ نبيه من على الصليب، فقد قال القران إنهم “ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم”.
التوافقات والتباينات بين الديانات الثلاث مجملا فيما يخص القرابين البشرية
لقد أشارت اليهودية للقربان البشري كطريقة للتخلص من الذنوب عندما يكون مرتكبها ذا مكانة كبيرة، فتكون التضحية بالنفس مقابل الغفران. وهنا اقتصر ذكرها على ابني هارون: “من أخطأ وخان خيانة بالرب وجحد صاحبه أمانة أو مسلوبا، أو اغتصب من صاحبه، أو وجد لقطة وجحدها وحلف كاذبا، يأتي الى الرب بذبيحة لإثمه كبشا صحيحا من الغنم، ذبيحة إثم للكاهن، فيكفر عنه الكاهن أمام الرب فيصفح عنها”(اللاويين 6,1:6). وفى سورة البقرة وفق الاسلام آية 54 (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم). في المعنى ذاته قال القرآن إن قتل النفس كان قربانا لله في المعصية الكبرى التي كانت هنا عبادة العجل وفيهم النبي موسى. نجد هنا إشارة صريحة في التوراة والقرآن الى مسألة التقرب الى الله بقتل النفس أي تقديم القربان البشري، فهل كان القربان البشري تكليفا إلهيا واضحا وفق العقيدتين في مرحلة ما؟
كانت الإشارة للأمر تتم في صورة فعل خاص بمرحلة ووفق أحداث محددة، في غير دعوة للتكليف أصلا بالأمر للمتقين، بل على العكس تماما كان قتل النفس فيما بعد أو قتل الأولاد عملا يخرج الانسان من رحمة الله، “ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما” سورة النساء آية 29.
وفى موضع آخر قدم القرآن فكرة القربان البشري كامتثال كامل لإرادة الله، وكانت اختبارا لقوة إيمان النبي إبراهيم، حتى أن النبي ابراهيم بالفعل كان مقدما على ذبح ولده، وأعد الأمر، ووضع السكين على رقبة ابنه، ولكن جاء التخفيف من الله ليرضى بفداء من الحيوانات بدلا من البشر. ذكرت هذه القصة في الكتب الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، وكأنها نقطة تطور ما بين مرحلة التضحية بالإنسان كقربان عظيم، والانتقال لممارسة نفس الطقس، ولكن بنذر من الحيوانات تنوع ما بين الكباش والأغنام والماعز بشكل مقارب لممارسات قامت بها حضارات قديمة مثل المصريين القدماء وغيرهم.
أشار القرآن أيضا لاستبدال قربان حيواني بالقربان البشري. يذبح الحيوان فداءا وقربانا كما في قصة النبي ابراهيم. ولأجل ذلك يحتفل المسلمون كل عام في عيد الأضحى بفداء الله للنبي أسماعيل بذبح عظيم، بعدما نجح أبوه ابراهيم في اختبار الله له في صدق إيمانه. يذبح المسلمون الماشية من الخراف أو الماعز أو الأبقار اقتداءا بالنبي ابراهيم.
تأخذ المسيحية فكرة القربان البشري الى درجة عالية من القداسة، فقد كان هذا الطقس حكرا على ابن الرب كدليل على المحبة الخالصة للبشر بأنه أعطاهم ابنه ليفتدي خطيئة آدم، فيكون المسيح الذي افتدى خطايا البشر بدمه قربانا لله في مكانة عظيمة لقيامه بذلك.
عادات مستمدة من القربان البشري
لم يتبق من ممارسة الفداء بالدم التي كانت تمارس تاريخيا عبر مختلف الحضارات والثقافات والأديان سوى ذبح الحيوانات من الماعز والأغنام والأبقار في عيد الأضحى لدى المسلمين والذي فيه إشارة لانتقال طقس الفداء من الإنسان ممثلا في ولد ابراهيم الذي يبتغى مرضاة الله أو نفسه الى الضحية الحيوانية (الذبح العظيم الذى جعلوه كبشا عظيما). ففي عيد الأضحى يقوم المسلمون كل عام في العاشر من ذي الحجة وفق التقويم الهجري بذبح آلاف الحيوانات التي تتنوع ما بين الأبقار والماعز والخراف ثم اقتسام لحمها ما بين الأهل والفقراء تقربا الى الله.
أما العادة الثانية التي فيها إشارة للقربان بالدم هي عادة الختان بوجه عام، ومن اسمها يمكن الاستدلال على المعنى من وراء هذه الممارسة لتي تكون بإزالة القلف أو الغُلفة ودفنها بعد ذلك. تشير إزالة هذا الجزء من الجسد الى الجنس الذي هو السبيل لخلق الحياة داخل الأرحام. ويقوم اليهود والمسلمين بممارسة هذا الطقس، ويعتبرونه سنة عن النبي ابراهيم الذي اختتن نفسه وفق الروايات بقادوم وهو في الثمانين من عمره. وبالرغم من أن النبي ابراهيم وفق الروايات قد اختتن نفسه ولم يختن أولاده، إلّا أن الآباء يختنون أبناءهم الآن، وبدلا من أن تُجرى هذه العادة على البالغين أصبحت تُجرى على الرضع وحديثي الولادة، وبالطبع دون إرادتهم، وبدلا من استخدام القادوم كما فعل النبي ابراهيم تُجرى الجراحة الآن وفق الطرق الطبية الحديثة. ولم يتبق من الطقس سوى الإصرار على قطع غلفة الصغار مما يشير لتطور الممارسة ذاتها بتطور الزمن. لقد كانت هذه الممارسة تتم في مصر القديمة احتفالا ببعث تموز وأدونيس للتكفير عن خطيئة أدونيس في موضع آخر من منطقة الشرق الأوسط مما يلاحظ معه تلاقي الثقافات، وامتزاج الممارسات، وتطويرها، وانتقالها لثقافات أخرى حاملة معها دلالات ربما تبدو مختلفة في ظاهرها، ولكنها تحمل في باطنها المعنى الأصلي لفكرة أن الدماء تطهر، وأن الحياة يمر من خلالها جسد الانسان عبر الدماء التي تسفك.
رجاء الرجوع الى هذه المصادر لمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع:
The blood sacrifice complex “regional Motecuel zoma11, the practice historic excess.
Va- Yikra, Animal sacrifices in the ancient world,Leviticus chapters 1-5.
ميلفى كوفيل،قرابين الآلهة في مصر القديمة.
عبد التواب رياض خميس، “قرابين الأضاحي البشرية في بعض المجتمعات البدائية في أفريقيا”، كلية العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، المجلد الأول، العدد 2.
ديفيد كارسكو وسكوت ميشونز،”عصر الأزتك – أمة الشمس والأرض، ص 10،26.
Amy-Jill Levive, Marc ZVi Brettler,The bible with and without Jesus, how Jews and the Christians read the state.
موفق محادين، مجلة أفكار، المملكة الاردنية الهاشمية، العدد.416
ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء الثاني.
Web site (Robert L .Faherty ,Theories of the origin of sacrifice, Britannica.Web site (Robert L .Faherty ,Theories of the origin of sacrifice, Britannica.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد