قهقهةُ التفاحةِ نَحِيبُ المِخْلَبِ… ترجمة: أنطونيوس نبيل

العنوان الأصلي: الأسد
تأليف: يفجيني زامياتين

أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

d8a7d986d8b7d988d986d98ad988d8b3-d986d8a8d98ad984-d8b4d8a7d8b9d8b1-d988d985d984d8add986 قهقهةُ التفاحةِ نَحِيبُ المِخْلَبِ... ترجمة: أنطونيوس نبيل

بدأ كُلُّ شيءٍ بواقعةٍ بالغةِ الغرابةِ: عُثِرَ على الأسدِ -الملكِ المَهِيبِ لجميعِ وحوشِ الأرضِ- ثَمِلًا حَدَّ الغَشَيانِ. كان يَتَرَنَّحُ على قوائمَ أَرْبَعٍ -وقدْ غَالَتْهُ الخَمْرُ وتَعْتَعَهُ السُّكْرُ- ثُمَّ أَهْوَى على شِقِّهِ بلا حِراكٍ؛ فَبَزَغَتِ الكَارِثَةُ فِي أَوْجِ كمالِهَا المنكود.

كان الأسد يدرسُ في جامعةِ لينينجراد وفي ذاتِ الوقتِ يعملُ مُمَثِّلًا إضَافيًّا (كومبارسًا) في مسرحِ الباليه. وكان عليه في يومِ العَرْضِ أن يَقِفَ -مُكْتَسِيًا إهابَ أسدٍ- على شَفَا جُرْفٍ ويَتَرَقَّبَ رُمْحًا تَقْذِفُهُ بِهِ بطلةُ الباليه لتُرْدِيَهُ قتيلًا؛ ثُمَّ يسقطُ الأسدُ الصَّرِيعُ مِن حافَّةِ الجُرْفِ على حَشِيَّةٍ مَخْفِيَّةٍ (في الكواليس) عن أعينِ الجمهورِ. كان كُلُّ شيء يسيرُ على أكملِ وجهٍ في البروفات- واليومَ يومَ العرضِ الأوَّلِ، بَغْتَةً، قبلَ رَفْعِ السِّتارِ بنصفِ ساعةٍ مَكَرَ بهم الأسدُ واقترفَ تلك الخُدْعَةَ القذرة! ولمْ يكنْ هناك ممثلونَ إضافيون مُتَاحُونَ كي ِيَنُوبُوا عنه في أداءِ دَوْرِ الأسد. كان إلغاءُ العَرْضِ ضَرْبًا مِن المُسْتَحِيلِ؛ فقد قَدِمَ مندوبُ الشَّعْبِ مِنْ موسكو لحضورِ العَرْضِ. كان هناك اجتماعٌ طارئٌ مُنْعَقِدٌ في مكتبِ المُدِيرِ الأحمرِ (أيِّ التابع للحزبِ الشيوعيّ السوفيتيّ) للمسرحِ.

سُمِعَ قَرْعٌ على البابِ، ثُمَّ دَخَلَ إلى المكتبِ رجلُ إطفاءِ المسرحِ پييتا چيريبيكين؛ فانْقَضَّ عليه المُدِيرُ الأحمرُ (الذي صَارَ أحمرَ اللونِ على الحقيقةِ مِن وَقْدَةِ السُّخْطِ):

قال رجلُ الإطفاء:

لا أدري إنْ كانت الدِّبَبَةُ تملكُ جلودًا مُبَرْقَشَةً بالنَّمَشِ وعيونًا زرقاءَ اللونِ! إنْ كانت هناك دِبَبةٌ تَتَّسِمُ بهذه الصِّفاتِ؛ فإن چيريبيكين الجَرِيمُ -مُنْتَعِلًا حِذَاءَهُ الضخمَ المصنوعَ مِنْ حديدِ الزَّهْرِ- قد لاحَ أَشْبَهَ بِدُبٍّ مِنْهُ بأسدٍ. لكن، ماذا لو أَمْكَنَ تحويلُهُ إلى أسدٍ بمعجزةٍ ما؟ لقد أَقْسَمَ أنَّهُ يستطيعُ أنْ يُنْجِزَ الأمرَ؛ وأنَّهُ قد راقبَ بعنايةٍ جميعَ البروفاتِ مِن الكواليس، وأنَّهُ حينما كانَ جُنْدِيًّا قامَ بأداءِ دَورٍ في مسرحيةِ “القيصر ماكسيميليان” الفلكلوريَّةِ. أَمَرَ مديرُ المسرح چيريبيكين بأن يرتدي زيَّ الأسدِ في التوِّ واللحظةِ ويقومَ بتجرِبَةِ أداءٍ للدَّورِ، وذلك ليغيظَ المُخْرِجَ الذي كان وجهُهُ موبوءًا بابتسامةٍ رَحِيبةٍ مُتْرَعَةٍ بالمَكْرِ والخِدَاعِ.

بعد هُنَيْهَةٍ كان الموسيقيُّون على خشبةِ المسرحِ يعزفونَ “مارش الأسد” هَجْسًا؛ فقد جعلوا مِنْ كَوَاتِمِ الصَّوتِ شَكَائِمَ لآلاتِهم الموسيقيَّة. أدَّى الأسدُ پييتا چيريبيكين -مُكْتَسِيًا إهابَ أسدٍ- دَوْرَهُ خَيْرَ أداءٍ، كأنَّ مَوْلِدَهُ لم يكنْ في مقاطعةِ رِيزان، بل في الصَّحَرَاءِ اللِّيبيَّة، ولكنَّهُ في اللحظةِ الأخيرةِ، التي يَتَوَجَّبُ عليه فيها أَنْ يُهْوِيَ مِن الجُرْفِ، نَظَرَ إلى أسفلَ، ثُمَّ وقفَ مَبْهُوتًا وقد سُقِطَ في يَدِهِ.

هَمَسَ المُخرجُ إليه بهسهسةٍ تكادُ تَتَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ:

سَقَطَ الأسدُ مُذْعِنًا للأمرِ، سَقَطَ على ظَهْرِهِ سقوطًا قويًّا قاسيًا، واستلقى هناك عاجزًا عن النهوضِ. ألن يَتَسَنَّى لَهُ النهوضُ؟ أتُبَاغِتُنَا كارثةٌ أخرى في اللحظةِ الأخيرةِ مُجَدَّدًا؟

رفعوه ليُعِينُوه على النهوضِ، فانسلخَ زَاحِفًا مِن جلدِ الأسدِ، ثُمَّ وَقَفَ وقد اعتراهُ الشحوبُ مُمْسِكًا ظَهْرَهُ، وعلى وجهِهِ ابتسامةٌ خَجْلَى. كانت إحدى ثَنِيَّتَيْهِ العُلْوِيَّتَيْنِ مفقودةً؛ لذلك بَدَتْ ابتسامتُهُ – إلى حَدٍّ ما- باعثةً على الشَّفَقَةِ وطُفُولِيَّةً (لكنْ، دائمًا ما يكونُ هناك شيءٌ طُفُولِيٌّ تَتَحَلَّى بِهِ الدِّبَبَةُ، أليس كذلك؟)

لحُسْنِ الطالعِ، لم يُصَبْ الأسدُ الساقطُ –على ما يبدو ظاهِريًّا- بأذًى فادحٍ، نطقَ پييتا طالبًا جرعةَ ماءٍ، فأمرَ مديرُ المسرحِ بإحضارِ كوبٍ مِن الشاي يُؤْتَى خِصِّيصًا لَهُ مِن مكتبِهِ، وحالما جَرَعَ پييتا الشاي، أَخَذَ المديرُ يَسْتَحِثُّهُ بلَجَاجَةٍ:

هُرِعَ شخصٌ ما وعادَ بجلدِ الأسدِ مُهَرْوِلًا، لكنَّ الأسدَ أحْجَمَ عن أنْ يَتَزَيَّا بِهِ: أعلنَ على نحوٍ صارمٍ أنَّهُ مضطرٌّ إلى مغادرةِ المسرحِ لبُرْهَةٍ من الوقتِ، رافضًا أنْ يبوحَ بحقيقةِ الحاجةِ المُلِحَّةِ التي تَحُضُّهُ على المغادرةِ، مُقْتَصِرًا في تبريرِ سُلُوكِهِ على ابتسامةٍ خَجْلَى فحسب. استشاطَ المديرُ غَضَبًا وحاولَ عبثًا بأوامرَ يَرْشُقُها تِبَاعًا أنْ يُرْغِمَ چيريبيكين على البقاءِ، وحاولَ عبثًا أنْ يُذَكِّرَهُ بأنَّه مُرَشَّحٌ لنيلِ شَرَفِ عضويَّةِ الحزبِ وبأنَّهُ عاملٌ مُتَّصِفٌ بالكفاءةِ يُعْتَمَدُ عليه في المُلِمَّاتِ ويُعَوَّلُ عليه في الحالاتِ الطارئةِ، ولكنَّ الأسدَ –العامل المذخور لعظائمِ الأمور- صَمَدَ في وجهِ تلك المحاولاتِ الحثيثةِ بعنادٍ لا يلينُ؛ فاستسلمَ المديرُ مُرْغَمًا مُفْعَمًا بالقنوطِ. انطلقَ پييتا چيريبيكين راكضًا إلى مكانٍ ما خارج المسرحِ، وعلى وجهِهِ ابتسامةٌ هَتْمَاءُ: يُفْصِحُ إشراقُهَا عن فَيْضِ نشوتِهِ.

تساءلَ مديرُ المسرحِ في ذهولٍ وقد احمرَّ وجهُهُ مِن وقدةِ السَّخَطِ مجدَّدًا:

لم يكنْ بمقدورِ أحدٍ أنْ يُجِيبَ عن أَسْئِلَةِ المُدِيرِ الأحمر؛ فلا أحدَ يُحِيطُ عِلْمًا بِكُنْهِ السِّرِّ إلَّا پييتا چيريبيكين وقَطْعًا مُؤَلِّفُ هذه القصَّةِ. بينما يركضُ پييتا چيريبيكين في مكانٍ ما عبرَ أمطارِ بطرسبرج الخريفيَّة، يُمكننا أن نَهْتَبِلَ الفُرْصَةَ ونَتَسَلَّلَ معًا -لبُرهةٍ من الوقتِ- إلى تلك الليلةِ مِن شهر يونيو التي وُلِدَ فيها سِرُّهُ.

في تلك الليلةِ لم يكنْ هناك ليلٌ: بل نهارٌ يَغْلِبُهُ النُّعَاسُ لهُنَيْهَةٍ؛ كجُنْدِيِّ يغفو أثناءَ الزحفِ العسكريّ دونَ أَنْ يَكُفَّ عن السَّيْرِ، بذهنٍ حائرٍ يَنُوسُ بين الحلمِ والواقعِ.

في الزجاجِ المائيِّ ورديِّ اللونِ للقنواتِ، كانت الأشجارُ والنوافذُ والأعمدةُ وبطرسبرج تغفو مقلوبةً رأسًا على عَقِبٍ، وفجأةً بلمسةٍ واهنةٍ مِن أناملِ نسيمٍ رقيقٍ تلاشتْ بطرسبرج وحلَّتْ مَحَلَّها لينينجراد، والرايةُ الحمراءُ التي نَبَّهَتْهَا الريحُ مِن سُبَاتِها فوق قصرِ الشِّتَاءِ، ورجلُ شُرْطَةٍ يَقِفُ حامِلًا بندقيَّةً عند السِيَاجِ الحديديِّ لحديقةِ ألكسندروڨسكي.

كان رجلُ الشُّرطةِ مُحَاطٌ بزمرةٍ مِن عُمَّالِ التِّرَامِ يَتَأَهَّبُون لنوباتهم الليليَّةِ، ومِن خلفِ كَتِفَيْ پييتا چيريبيكين لا يَبِينُ مِن رجلِ الشرطةِ إلَّا وجهُهُ: وجهٌ مستديرٌ أَمْلَدُ كالتفاحِ الشَهِيِّ لمقاطعةِ رِيزَان.

كان هناك أمرٌ بالغُ الغرابةِ يَحْدُثُ: أَمْسَكُوا برجلِ الشرطةِ قابضِينَ على ذراعَيْهِ وكتفَيْهِ- وفي نهايةِ الأمرِ طَبَعَ أحدُ العُمَّالِ برفقٍ قُبْلَةً رَهِيفةً على وَجْنَتِهِ؛ فاصطبغَ وجهُهُ بلونٍ أرجوانيّ، وأطلقَ صَافِرَتَهُ بغضبٍ مُسْتَعِرٍ؛ فتبدَّدَ شَمْلُ العُمَّالِ ولَاذُوا بالفِرَارِ، ليَجِدَ پييتا چيريبيكين نفسَهُ وحيدًا في مواجهةِ رجلِ الشرطةِ- وكما توارتْ بطرسبرج المُنْعَكِسَةُ على المرآةِ المائيَّةِ للقنوات هَلَعًا مِنْ هَرِيرِ الريحِ، كذلك توارى رجلُ الشُّرطةِ: فإذا بالواقفِ قُبَالَة چيريبيكين فتاةٌ ترتدي زِيَّ الشُّرطةِ مِن سُتْرَةٍ وقبعةٍ- أوَّلُ امرأةٍ شُرطيَّةٍ قامتْ الثَّوْرَةُ بتعيينِها في شارعِ نيڨسكي. كانَ احْتِدَامُ غضبِها قَدْ ضَمَّ حاجِبَيْهَا الفاحِمَيْنِ فوق عِرْنِينِ أَنْفِهَا وصارَ شَرَرًا يتطايرُ مِنْ عَيْنَيْهَا.

كانتْ هذه الكلماتُ المُقْتَضبةُ هي كُلَّ ما قالتْهُ لپييتا چيريبيكين، إلَّا أنَّ سِحْرًا غامِضًا كان يَنْبُعُ مِن بينَ أصابعِ حروفِها، فَيَا لَهُ مِن صَوْتٍ!

تمتمَ چيريبيكين في ارتباكٍ بنبرةٍ مُشَبَّعَةٍ بشعورِهِ بالذنبِ:

قاطعتْهُ الشُّرطيةُ وهي تنظرُ إليهِ شَزْرًا، وَيَا لَهَا مِن نظراتٍ!

لو كان هناكَ بابٌ سِرَّيٌ في الرصيفِ كالبابِ السِّحْرِيِّ الذي يُوجَدُ في أرضيةِ المَسرحِ، لَمَا تردَّدَ چيريبيكين طَرْفَةَ عَيْنٍ في أنْ يبادرَ إلى السقوطِ عَبْرَهُ؛ كي تَبْتَلِعَهُ أحشاءُ الأرضِ، ولكانَ مُوقِنًا بأنَّ سقوطَهُ ما هو إلَّا خلاصٌ لَهُ ورحمةٌ بِهِ. لكنْ عِوضًا عن ذلك، كان على چيريبيكين أنْ يبتعدَ بخطواتٍ مُتَّئِدَةٍ، شاعِرًا بنظراتٍ لافِحةٍ تخترقُ ظَهْرَه.

جاءت الليلةُ التالية شبيهةً بسابقتِها ليلةً لمْ تَأْفُلْ الشَّمْسُ عن سمائِهَا، وكان الرفيقُ چيريبيكين مرَّةً أخرى آيبًا إلى بيتِهِ مِنْ عملِهِ في المسرحِ، ومرَّة أخرى كانتْ الشُّرطيةُ واقفةً عند بواباتِ حديقةِ ألكسندروڨسكي. كان چيريبيكين يَرْغَبُ في التَّمَلُّصِ مِنْ مواجهتِها، لكنه عندما لَحَظَ أنَّها تَرْمُقُهُ بناظِرَيْها حَيَّاها بانحناءةٍ خَجْلَى مُثْقَلَةٍ بشعورِهِ بالذَّنبِ، فأومأَتْ إليه برأسِها. انعكسَ بَرِيقُ شمسِ منتصفِ الليلِ على المرآةِ السوداءِ لفولاذِ بندقيتِها، فَبَدتِ البندقيةُ وَرْدِيَّةَ اللونِ. كان چيريبيكين يرتجفُ رعبًا أمام هذه البندقيةِ الوَرْدِيَّةِ، أكثرَ ممَّا ارتجفَ أمامَ جميعِ تلك البنادقِ الهَتُونِ التي ظَلَّتْ تُمْطِرُهُ بشُوَاظٍ مِن نارٍ على جبهاتٍ شتَّى مُدَّةَ خمسةِ أعوامٍ.

بعد انقضاءِ أُسْبُوعٍ مِن اللَّيَالِي المُشْرِقَةِ، تجاسرَ چيريبيكين على الحديث إلى الشُّرطيةِ، تَبَيَّنَ أنَّها أيضًا مِثْلَهُ مِنْ مقاطعة رِيزان، وأنَّها لمْ تَزَلْ تَذْكُرُ تفاحَ رِيزان:

كان چيريبيكين يَتَوَقَّفُ عند حديقةِ ألكسندروڨسكي في كُلِّ مرَّةٍ يؤوبُ فيها إلى بيتِهِ. كانت الليالي البيضاءُ قد جُنَّتْ تمامًا يتخبَّطَها الضِّياءُ مِن المَسِّ- السَّماءُ الخضراءُ والورديَّةُ والنحاسيَّةُ لم تَذُقْ طَعْمَ سَكِينةِ الظُّلْمَةِ لُحَيْظَةً واحدةً. وفي الحديقةِ كان العُشَّاقُ المُتَعَانِقُون يَلْتَمِسُونَ ظِلًا يتحصَّنُونَ فيه مِن أعينِ الرُّقَبَاءِ كأنَّهم في وَضَحِ النهارِ.

في ليلةٍ مَهْقَاءَ كهذه الليالي سألَ چيريبيكين الشُّرطيةَ بطريقةٍ خرقاءَ تَلِيقُ بِدُبٍّ:

قالت كاتيا الشُّرطية وهي مُتَّكِئَةٌ على بندقيتها:

تَخَضَّبَتْ بندقيتُها باللَّوْنِ الوَرديّ، وَوَلَّتْ وَجْهَهَا شِطْرَ سَمَاءٍ غَشِيَتْها الحُمَّى تتَصبَّبُ ضَوْءًا يَتَلَظَّى، ثُمَّ تَشَوَّفَتْ إلى مكانٍ ما، بنظراتٍ حالماتٍ لَمْ يَكُنْ چيريبيكين بالنسبةِ لَهُنَّ إلَّا حاجزًا شفَّافًا يَخْتَرِقْنَهُ سَهْوًا، وأَتَمَّتْ كاتيا الشُّرطية كلامها قائلةً:

تفاحةٌ أشهى مِن عَسَلِ الجِنَانِ: فيها الحلاوةُ والمرارةُ تَوْأَمَانِ. أدركَ پييتا چيريبيكين أنَّهُ مِنَ الأحْرَى بِهِ أنْ يُغَادِرَ وألَّا يعودَ إلى هنا مرَّةً أخرى؛ فقد لَفَظَتْ آمَالُهُ أنفاسَهَا الأخيرةَ وانتهى الأمرُ…

لا، لَمْ ينتهِ الأمرُ! لا تزالُ هناك معجزاتٌ في هذا العالَمِ! عندما طَرَأَتِ الواقعةُ العجيبةُ -التي قَضَى اللهُ فيها أنْ يَجْعَلَ الأسدُ مِن نفسِهِ فريسةً للخمرِ- أدركَ چيريبيكين فجأةً أنَّ أمامَهُ فرصةً سانحةً لإحْياءِ آمالِهِ المَوْءُودَةِ التي يَسْتَصْرِخُهُ رَمِيمُهَا؛ فانطلقَ على عَجَلٍ إلى مكتبِ المُدِير.

لكن، كلّ هذا قد صار وراءَهُ: الآن يهرولُ عبرَ مطرِ الخريفِ إلى شارع جلينكا. كان الشارعُ لحُسنِ حظِّهِ على مَقْرِبَةٍ مِنَ المسرحِ. ولحُسنِ حظِّهِ أيضًا وَجَدَ كاتيا الشُّرطيةَ في بيتها، لم تكن كاتيا في تلك اللحظة شُرطيَّةً، بل كانت –وقد انسلختْ مِن إهابِ خدمتِها الرَّزينةِ- على سَجِيَّتِها: كاتيا في بساطتِها مشمرةً عن ساعديها تغسلُ بُلُوزَتَها البيضاءَ في الطَّسْتِ وقطراتٌ مِن الندى تتساقطُ على أنفِها وجبهتِها. لم تُبْدِ كاتيا مِن الجَمَالِ الخلَّابِ قَطُّ ما هو أكثر كمالًا ممَّا تُبْدِيه الآن وهي تَتَجلَّى في بهاءِ هيئتِها المنزليةِ.

عندما وَضَعَ چيريبيكين أمامَ كاتيا تذكرةً مجانيَّةً لمشاهدةِ عَرْضٍ مسرحيٍّ وأخبرها أنَّهُ اليومَ سيقومُ بأداءِ دَوْرٍ في هذا العَرْضِ، لم تُصَدِّقْهُ في البَدْءِ، ثُمَّ طفقتْ –بعد هنيهة- تُبْدِي اكتراثًا للأمرِ، ثُمَّ لسببٍ ما، اعتراها الخجلُ وارختْ الأردانَ المَطْوِيَّةَ على ساعدَيْها، ثُمَّ رَمَقَتْهُ ببصرِها (ويَا لها مِن نظراتٍ!) وأبلغَتْهُ أنَّها ستأتي لمشاهدةِ العرضِ بلا أدنى شَكٍّ.

كانت أجراس المسرح تُقْرَعُ في غرفةِ التدخين وفي المَمَرَّاتِ وفي البَهْوِ، وكان مندوبُ الشَّعْبِ الأصلعُ في مقصورتِهِ يُحَدِّقُ عبرَ نظارتِهِ الأنفيَّةِ. على خشبة المسرحِ، خلفَ السِّتَار الذي لم يُرفَعْ بعدُ كانت راقصات الباليه يُمَلِّسْنَ تَنَانِيرَهُنَّ بالحركاتِ ذاتِها التي تُنَظِّف بها طيورُ التَّمِّ أجنحتِها عندما تَحُطُّ على الماءِ. وخلفَ الصَّخَرةِ التي يعلوها الجُرْفُ -على مقربةٍ مِن الأسدِ چيريبيكين- كان المُخرجُ والمديرُ وَاجِفَيْنِ تَؤُزُّهُمَا الهَوَاجِسُ أَزًّا.

هَمَسَ المديرُ في أُذُنِ الأسدِ قائلًا:

رُفِع سِتَارُ المسرح- وخلف خطِّ النَّارِ الذي أَنْشَأَتْهُ الأضواءُ السُّفْلِيَّةُ لمُقَدِّمةِ المسرحِ، دَاهَمَتِ الأسدَ قاعةٌ مُدْلَهِمَّةٌ طافحةٌ ببُقَعٍ بيضاءَ مِن الوُجُوهِ. منذ زمنٍ بعيدٍ -عندما كان الأسدُ لا يزالُ چيريبيكين- خرجَ مِن الخندقِ مُتَسَلِّقًا جوانبِهِ الزَّلِقَةِ والقذائفُ تنفجرُ أمامَهُ، أُرْعِدَتْ فَرَائِصُهُ، رَسَمَ على نفسِهِ علامةَ الصَّلِيبِ اتِّباعًا لتقاليدِ القريةِ، وظَلَّ يركضُ إلى الأمام على الرُّغمِ مِن الأهوالِ المُحِيقَةِ بِهِ. والآن بَدَا لَهُ أنَّهُ يَعْجَزُ عن أنْ يخطوَ خطوةً واحدة. لكنَّ المخرجَ لَكَزَهُ في ظهرِهِ وأخذ يَدْفَعُهُ مِن الخلفِ. تزحزحَ چيريبيكين عن مَوْضِعِهِ بمشقَّةٍ مُضْنِيَةٍ وهو يَجُرُّ ذَرَاعَيْهِ وَرِجْلَيْهِ جَرًّا كأنهما قدْ صَارَا غَرِيبَيْنِ عَنْهُ بَغْتَةً، وصَعَدَ الجُرْفَ ببطءٍ شديدٍ.

على قُنَّةِ الجُرْفِ، رفعَ الأسدُ رأسَهُ- في مقصورةِ الطابقِ الثَّانِي، رَأَى كاتيا الشُّرطيةَ مُتَّكِئَةً على الحاجزِ تنظرُ إليه مباشرةً وليس بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا قابُ قَوْسَيْنِ أو أدنى، فَوَجُلَ قلبُ الأسدِ وَوَجَفَ: خَفْقَةً، خَفْقَتَيْنِ!- ثُمَّ تَوَقَّف. صارَ جسدُ الأسدِ بكامِلِهِ مَرْتَعًا لسوائمِ الرَّعْشَةِ، فالآن يَتِمُّ تقريرُ مَصِيرِهِ. ها هو ذا رمحٌ قد انطلقَ بالفعلِ مُحَلِّقًا نحوَهُ، أزيرٌ خاطفٌ ثُمَّ نَزْغَةٌ في جنبِهِ. الآن يَتَوَجَّبُ عليه أنْ يسقطَ. ماذا لو سقطَ بشكلٍ خاطئ مرَّةً أخرى وأفسدَ كُلَّ شيءٍ؟ انتابَهُ هَلَعٌ لمْ يعرفْ لَهُ مثيلًا في أيِّ وقتٍ مَضَى في حياتِهِ، هَلَعٌ هائلٌ ضَؤُلَ أمامَ طغيانِهِ كُلُّ رُعْبٍ، حتَّى ذاك الرُّعْب الذي تَسَلَّطَ عليه حينما صَعَدَ خارجًا من الخندقِ.

كان الجمهورُ قد لاحظَ أنَّ هناك خَطْبًا ما على خشبةِ المسرحِ: كان الأسدُ المُصابُ بطعنةٍ قاتلةٍ واقفًا بلا حِرَاكٍ على قُنَّةِ الجُرْفِ وهو ينظرُ إلى أسفل. سَمَعَ الجالسون في الصفوف الأماميَّة مُخرجَ العَرْضِ وهو يصرخُ بصوتٍ خَفِيضٍ رَهِيبٍ:

ثُمَّ رأى جميعُ الحُضُورِ ما صَعَقَهُم مِن حَدَثٍ عُجَابٍ: رَفَعَ الأسدُ كَفَّهُ اليُمْنَى وَفِي طَرْفةِ عَيْنِ رَسَمَ إشارةَ الصليب على نفسِهِ، وسَقَطَ مِن أعلى الجُرْفِ كأنَّهُ حَجَرٌ تَرَدَّى مِن رأسِ طَوْدٍ مُنِيفٍ.

1000029500 قهقهةُ التفاحةِ نَحِيبُ المِخْلَبِ... ترجمة: أنطونيوس نبيل

خَيَّمَتْ على الجميعِ لَحْظَةٌ مُطْبِقَةٌ مِنَ صَمْتِ الذُّهُولِ، ثُمَّ انفجرَ في القاعةِ بُرْكَانٌ مِن الضحكِ الرَّاعِدِ كقذيفةٍ فتَّاكةٍ لا تُبْقِي ولا تَذَرُ. كانت كاتيا الشُّرطية تُقَهْقِهُ ودموعُ الضَّحِكِ تنهمرُ على خَدَّيْهَا، وكان الأسدُ الصَّرِيعُ –وقد دَفَنَ طَمَرَ وجهُهُ بين كَفَّيْهِ- يَنْشِجُ باكيًا.

تمت

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات