قهقهة فوق النيل … بقلم: محمد رفعت
بقلم: محمد رفعت

كتاب “قهقهة فوق النيل.. اقتباس الكوميديا في السينما”، يقدم دراسة تاريخية بالغة الأهمية للقضايا الفنية والثقافية، التي حكمت ظاهرة اقتباس السينما المصرية لأفلام ومسرحيات أوروبية وأمريكية طوال فترة يراها الكاتب أنها العصر الذهبي للسينما فى القاهرة (من أول الأربعينات إلى آخر الستينات).
يتعامل وليد الخشاب مع الكوميديا بجدية بالغة، والتى يراها أنها تساعدنا على فهم تاريخنا الثقافي، وتحليل تفاعل العالم العربي مع الغرب، من خلال الاقتباس. ويحاول الخشاب أن يرد الاعتبار لفن الكوميديا، والذي تعرض للتهميش بسبب تصوراتنا عن الكوميديا بوصفها فنًا سطحيًا.
يحلل الخشاب 11 فيلمًا من كلاسيكيات السينما المصرية، مقتبسة عن الغرب والذي يراها الكاتب جزء من حركة ثقافية واسعة لاقتباس قيم الحداثة، وجزء من دعاية دولة يوليو الجديدة، والتي تعرض على مواطنيها إثبات ولائهم مقابل فتح المجال لدخولهم الطبقة الوسطى، أو ما أسماه الخشاب “أيديولوجية الفودفيل”، وهذا ما نراه واضحًا فى فيلم “الجريمة الضاحكة”.
تذهب ايديولوجيا الفودفيل إلي أبعد مدى؛ ..فالخطاب المضمر هو استعراض متع الدخول إلى الطبقة الوسطى : فيلا في مصر الجديدة، والزواج من الفاتنة سعاد حسنى، والتوظف كمخرج في التلفزيون، وهو الجهاز الوطني المهم الذي كان عمره ثلاث سنوات فقط وقت تصوير الفيلم”. الأهم من كل هذا أن الفيلم يجعل المشاهد في صف أحمد مظهر باعتباره رمزًا للحداثة وللدولة التحرر الوطني ضد الرجل المتخلف طبقيًا وثقافيًا والذي يريد الاستمرار في الرجعية بأخذه للثأر.
وليد الخشاب يمحي عن مصطلح “الاقتباس” سُوء سمعته، بل ويُحسن منها، فهو يرى:”إن الاقتباس ـ بعد الترجمة ـ هو الصيغة الكبرى لنقل الحضارة الغربية الحديثة، إلى العالم العربي منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، لكنه الصيغة الأهم لاستيعاب الحداثة، وهضمها في النسيج الحيوي الثقافي، والمؤسس العربي عمومًا والمصري خصوصًا. نقتبس أفكار الحداثة ومنتجاتها ومؤسساتها وممارستها وتصوراتها وقيمها، ثم نعدل كل هذا ونطوعه ونتمثله، وبالتالي ننقل الحداثة إلى مجتمعاتنا العربية”.
لا يعتبر الاقتباس أنه دليل على تبعية السينما المصرية للثقافة الغربية، بل دليل على اعتبار السينما المصرية نفسها جزءًا من الحداثة التي تشكل العالم أجمع، وبوصفنا نحن المصريين جزءًا من العالم الأرحب نتعامل معه بندية.
كما يرى أنه لا يجب حتى أن نشعر بالذنب من ممارسة الاقتباس عن الغرب؛ “لأن الغرب كثيرًا ما اقتبس ويقتبس المنتجات الفكرية والأدبية والفنية من خارجه، لكنه ـ بحيل بلاغية وبضعف ذاكرة عمدى وبنزعه إبادية ثقافية مركزية ـ يمحو آثار اقتباسه”.
الاقتباس إحدى سنن التفاعلات الثقافية بين المجتمعات؛ والدليل على ذلك أن الغرب هو أيضا اقتبس الكثير من عالمنا العربي، قصة المسيح، قصص ألف ليلة وليلة منها علاء الدين والسندباد وغيرها من القصص.
كتاب “قهقهة فوق النيل” يُغير وجهة نظرك في فن الكوميديا، يجعلك تتعامل معها بعمق وليس مجرد فيلم سطحي يُضحك، ويُلهي المتفرج، تعامل الخشاب مع الكوميديا بفلسفة بالغة “الكوميديا فن قابل للعولمة بامتياز”، بل ورفعها إلى درجة أن جعلها ضمن الاحتياجات الأساسية “إن كل كائن بشري يحتاج للضحك ، كما يحتاج للغذاء والشراب والجنس، فثمة أرضية مشتركة يمكن أن يبحث عنها البشر في إطار سعيهم للوصول إلى وسائل لاشباع مايمكن أن نسميه ـ مجازًا وتجاوزًا ـ غريزة الضحك”.

عادةً ما تكون النصيحة عقب كل كتاب، أن أقول “كتاب يُنصح بقراءته”، ولكن لهذا الكتاب شأن آخر لعدة أسباب:
أولاً: الكتاب يضرب جميع الثوابت التي تربينا عليها في السينما المصرية، فتجد مثلاً أنك أُصبت بصدمة، عندما تعلم أن أغلب أفلام إسماعيل ياسين، مقتبسة من أفلام كوميدية أمريكية متواضعة الميزانية، مثل سلسلة أفلامه عن (الجيش، الطيران، البحرية)، إسماعيل ياسين يقابل ريا وسكينة، إسماعيل ياسين في متحف الشمع. ثم تجد أن معظم أفلام الخمسينات والستينات، والتي شكلت جزء كبير من طفولتنا، مقتبسة أيضًا مثل فيلم اشاعة حب، الزوجة 13، نهر الحب، أمير الدهاء، امير الانتقام، غزل البنات .. وغيرها من الأفلام.
لم يكتفي الكاتب بذلك، بل تطرق أيضًا لمسرحيات فؤاد المهندس، ونجيب الريحاني، والتي جاء أغلبها مقتبس، مثل سيدتي الجميلة مأخوذة عن مسرحية “بيجماليون”. وبالمناسبة فؤاد المهندس يتمتع بخصوصية بالغة للكاتب، يراه نجم الكوميديا الأمثل في مرحلة التحرر الوطني، كانت أعماله تعتمد بالأساس، على الاقتباس من ثقافة المستعمر “الإنجليزي”. ألف كتاب خاص به “مهندس البهجة .. فؤاد المهندس ولا وعي السينما”.
والسبب الثاني وراء أن أنصح بعدم قراءة الكتاب، هو أنه يخلق لك وعي، نعم يخلق وعي بفن الكوميديا، فتجد مثلاً أن الفيلم الذي تُشاهده كي يُخرجك من ضغوطات الحياة، وحتى يقف دماغك عن التفكير قليلاً، مثل فيلم “عروس النيل” وبدلاً من أن تشاهده، وتضحك، وتقضي سهرة كوميدية سعيدة مع من تحب، و الأمر ينتهي عند ذلك.. تجد أن الأمر يتخطى ذلك بكثير فتجلس تتحدث، أن الفيلم مقتبس عن فيلمي “السيد بيبور وعروس البحر”، وفيلم “الروح المرحة”. وبرغم أن الفيلم “مغرقًا فى المصرية ، إذ أن بطلته عروس نيل، من زمن الفراعنة تعود إلي الحياة في مصر في عز زهوة مرحلة التحرر الوطني والبناء القومي”. ويلقي الفيلم التحية علي مؤسستين حديثتين، من مؤسسات العزة القومية، واحدة ترتكز على الماضي، وتستثمر في الحاضر، هي مؤسسة الآثار والسياحة، والثانية تستثمر في الحاضر المادي، متوجه نحو مستقبل صناعي حديث مأمول وهي مؤسسة البترول.
يعرض الفيلم الصراع بين عالم الآثار فؤاد شفيق، ومهندس البترول رشدي أباظة، وجهين للدولة الحديثة التي تعتنى بالآثار، وكذلك تعنى باستخراج البترول… قبل قراءة الكتاب كنت ستشاهد الفيلم.. وتضحك.. ثم ينتهى الأمر، لكن بقراءة الكتاب ستنظر للكوميديا بعمق شديد. وهذا ما أراده الكاتب وفعله.
السبب الثالث أنك تكتشف أن فيلم صغيرة على الحب، هو أيضًا مقتبس عن الفيلم الأمريكي “Too young to kiss”. وهذا تشكيك في الثوابت يصل لدرجة الكفر.
السبب الرابع: مازلنا نتحدث عن أسباب النصيحة بعدم قراءة الكتاب ـ أن الكتاب يظهر به مصطلحات لم أجدها في كتاب آخر قد يكون هذا مرجعه إلي حداثة الموضوع أو إلي أنني أول مرة أقرأ فى كتاب عن السينما، من بين هذه المصطلحات “ايديولوجيا الفودفيل”.
الكتاب رائع، يثري العقل والفكر، سيغير وجهة نظرك في فن الكوميديا.. ولكن أردت أن تكون كتابة المقال فيها جزء من الكوميديا التى نتحدث عنها.

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل:
salontafker@gmail.com
اشترك في صفحة تفكير الثقافية لتصلك مقالات تفكير اضغط هنا
تابعنا عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي:
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد