كيف تمدد النص الديني الجديد عبر العصور الإسلامية المختلفة؟ … بقلم: عمرو عبد الرحمن

بقلم/ عمرو عبد الرحمن

280709377_5758375077522788_4038074696299373968_n2 كيف تمدد النص الديني الجديد عبر العصور الإسلامية المختلفة؟ ... بقلم: عمرو عبد الرحمن

في الجزء الأخير من الكتاب، يذكر الكاتب التمدد الذي حصل للفقه والحديث، من خلال تطوره عبر المراحل السياسة المختلفة في التاريخ الإسلامي. ليقدم رؤية مختلفة عن العقل السلفي الذي يرى هذا التطور ديني مرتبط بالوحي يتم تسليمه من جيل إلى جيل، من الرسول للصحابة للتابعين ولا يوجد أي تأثير للظرف السياسي في تطوره.

المرحلة الأولى، هي عصر الخليفتين أبو بكر وعمر. وفيها كان التشريع يصدر عن الخليفة والولاة والقضاة الذي يقومون بتعيينهم. لم يكن مفهوم النصية تبلور قبل جمع المصحف، وكان الخليفة يحكم بقيم الدين إلى جانب العُرف كامتداد طبيعي إلى جانب أحكام الخليفة.

المرحلة الثانية، مرحلة الخليفتين عثمان وعلي، يراها الأستاذ عبد الجواد ياسين هي المرحلة الأهم في هذا التمدد، فرغم أن النتائج لم تظهر فيها لكنها كانت البداية الحقيقية. جمع القرآن في مصحف واحد كان له أثر في التعامل مع النص بعدما كانت آيات متفرقة تتعامل مع مواقف معينة، أصبح لدينا كتاب حصري وقراءة واحدة للنص.

التعاطي مع القرآن كوحدة واحدة أفرز بعض الإشكاليات، جعلتنا نحتاج وسيلة للتوفيق بين آيات تبدو متعارضة لأنها نزلت في سياقات مختلفة. الروايات إلى جانب أدوات لغوية وأصولية أخرى، كانت الوسيلة لذلك.

الصراع السياسي الذي حدث في هذه الفترة كان له دوراً في توجيه الروايات، فمثلاً البخاري أورد حديث “يقرأون القرآن لا يبلغ تراقيهم” في باب استتابة المرتدين والمقصود هم الخوارج. وهذا فقه خالص.
وامتد الموضوع ليشمل المعتزلة تحت اسم القدرية في رأي مالك وابن حنبل الذي عاملهم كالخوارج أو المرتدين.

المرحلة الثالثة، هي المرحلة الأموية. وهي التي ظهر فيها بداية الاختلاف بظهور نشاط تشريعي خارج سلطات الدولة سواء الخليفة أو القضاة. ظهور حلقات متخصصة في الفقه في أماكن مختلفة مثل الكوفة، والبصرة، والمدينة، أدى لتزايد الوعي بقيمة السنة كمصدر مستقل للتشريع، وتحول الفقه بالتشريع إلى علم نظري مطلوب لذاته بدوافع تدينية أوسع من دوافع القضاء العملية.

الدولة الأموية منذ البداية كشفت عن توجهات علمانية بمقاييس عصرها، لا تماهي بين طبيعة الدولة وطبيعة الدين. ورغم بعض المقولات التي كانت تبرر الاستبداد، لم يزعم الأمويون أن وظيفة الدولة هي حماية الدين كما فعل العباسيون، الذين جاؤوا بزعم الإصلاح الديني.
رغم ذلك كان الدور الأموي مهماً في تمدد البنية الفقهية، بسبب الممارسات السياسية القمعية في أغلبها والتي كرست لافتراق سياسي تحول لمذهبية دينية.

المرحلة الرابعة، هي الدولة العباسية. وهي مرحلة لم تؤد إلى إلغاء الاستبداد لكنها أسست له بمبررات دينية. وفيها تكونت ثقافة التديين الكامل، فأصبحت مسائل مثل الري، والضرائب، وحفر الترع، مسائل دينية يُستفتى فيها الفقهاء ويجتهدون فيها اجتهاداً دينياً.
لقد حل الفقه كمنطومة أحكام محل قانون موحد ومكتوب كان يمكن أن تصدره الدولة، وحل الفقهاء محل منظومة تشريعية كان يمكن أن تؤسسها الدولة.

لماذا لم يكن لدينا تشريعات مدنية صادرة عن الدولة كسلطة سياسية؟
لسببين.. أولهما، طبيعة نشأة الدولة في مناخ قبلي لم يكن لديه الوعي بفكرة الدولة.
وثانيهما، أنها وُلدت في سياق ديني وبسبب الدين. واندمجت مع الدين بشكل متصاعد بحيث أصبحت النصوص تمثل في حد ذاتها قانون الدولة المكتوب.
لكن السؤال عن قانون الدولة يظل مهم، لأن منظومة الفقه لم تقدم في الواقع قانون موحد واضح الحدود، بل مجموعة من الأحكام والآراء متنوعة وأحياناً متضاربة.

هل في الإسلام دولة دينية؟
عندما يُجيب العقل السلفي على هذا السؤال يسارع للنفير. لا توجد في الإسلام دولة ثيوقراطية، مستدعياً النموذج المسيحي ممثلاً في الكنيسة. وهذا حقيقي على الأقل في النموذج السني، لاختلاف السياق الذي تبلورت فيه الديانتين.

ففي المسيحية كان هناك دولة استوعبت دين فرضت عليه العلمانية ثم نشأت سلطة الكنيسة، لكن في الإسلام الدين كان موجوداً وأنشأ الدولة التي بدون الدين لم تكن لتوجد من الأساس. لذلك فالمقارنة الأدق هي مع الدولة الدينية في التاريخ اليهودي وليس المسيحي.

في اليهودية كانت الدولة كأنها عقد مع الإله، طالما تم الالتزام بأوامره، فكان الحكم لله والمملكة هي مملكة الله مستمدة قوتها منه مباشرة، وأعداء الدولة هم أعداء الله، وأي شخص يفكر في اغتصاب السلطة فهو يطعن في سلطة الله، فكان القانون حاضراً من اللحظة الأولى في صورة تعاليم الله وهدف الدولة تنفيذه.

في الحالة الإسلامية لم يكن هناك قانون في البداية ولم تكن هناك دولة، لكن مع الوقت ومع تطور النص من مكي لمدني نشأت الدولة، وتلاقى العقل الإسلامي مع اليهودي في التأصيل للشريعة واعتبارها اختصاصاً إلهياً مطلقاً، وللكتاب باعتباره القانون، وتحول الفقة لحجية قانونية مزاحمة للنص ووصية عليه.

bwgdf1sigvhjwcuqf0lwhbciznf5jtl5m9i7u1hf كيف تمدد النص الديني الجديد عبر العصور الإسلامية المختلفة؟ ... بقلم: عمرو عبد الرحمن

ما يمكن أن نخلص إليه من هذا الكتاب من وجهة نظري هو:
1- الأحكام التشريعية كانت تصدر كرد فعل لمعطيات البيئة المحلية.
2- الحلول التي أنشأتها الأحكام التشريعية، كانت تُستمد من النظام القانوني العرفي السائد، وليست مفارقة له.
3- هذه الأحكام ليست هيكل تشريعي شامل، لهذا لجأ الفقه لتغطية كل المساحة التي تركها النص الأول، لينشئ هيكلاً تشريعيا شاملاً.
4- الحل هو الاعتراف بالطبيعة المزدوجة للنص.. الدين، ويشمل العقيدة والأخلاق الكلية، كل ما هو مطلق ثابت لا يتأثر بالاجتماع الإنساني. والتدين، ويشمل التشريعات والفقه الذي تأثر بظروف الزمان والمكان والصراعات السياسية.
5- المعضلة الأساسية هي هل الإنسان كائن فاعل أم مجرد مفعول به؟ هل التدين تجربة فردية أم هي تجربة واحدة للجماعة الإنسانية كلها؟
هل يمكن له أن يختار الظروف التي يعيش فيها مع تغير الزمان والمكان، أم يجب أن يظل أسيراً للنقطة الزمنية التي يريد الفقه لكل شيء أن يتوقف عندها؟

وقفتان
1- قطع يد السارق
لو سألت عن أقسى العقوبات المذكورة في القرآن، غالباً ستكون الإجابة هي عقوبة السارق بقطع يده.
في معرض ذكر الأستاذ عبد الجواد ياسين، أجده قد تنبه لعدم التناغم بينها وبين ما يهدف للتدليل عليه في كتابه.

ففي التوراة يعاقب السارق بغرامة مالية تبلغ ضعف ما قام بسرقته، إلا إذا سرق شاة وذبحها فتكون الغرامة أربع أمثالها. وإذا لم يقدر على سداد الغرامة، تبيعه المحكمة وإذا كان ثمنه أقل يظل مديناً بفارق القيمة حتى يُعتق في السنة السابعة. فيما عدا خطف أحد أفراد بني إسرائيل واسترقاقه وبيعه، فيُعاقب الخاطف بالإعدام جزاءً على جريمته.

للوصول لعقوبة قطع يد السارق يمكننا ربطها بمصدرين سابقين على الإسلام.
الأول، هو تشريعات حمورابي في بعض حالات السرقة، كسرقة الأجير لعلف أو بذور أعطاها له مُستأجره ليستخدمها كغذاء للماشية أو زراعة الأرض.
الثاني، هي مصادر تربط بين عقوبة القطع وقريش قبل الإسلام، وتحديداً عبد المطلب عم الرسول أو الوليد بن المغيرة.
وقد تفردت قريش بعقوبة القطع عن محيطها الاجتماعي، الذي اعتمد الغرامة المالية كما في التشريعات اليهودية والبابلية والرومانية.
اعتمد القرآن القطع كعقوبة للسارق. فهل هذا لأنها كانت العقوبة المعتمدة في لحظة ومكان نزول النص، متجاهلاً تشريعات سابقة كالتوراة ومتجاهلاً مدى قسوة العقوبة؟

نقطة أخرى هنا في تعريف السرقة.. وهي أن النص القرآني لم يقدم تعريفاً محكماً للسرقة التي يُعاقب عليها بالقطع.
فينبري الفقه لتحديد ضوابط تقلل من حالات القطع، متجاهلاً فكرة العبرة بعموم اللفظ، ربما لأنه كان بديهياً أن تطبيق عقوبة القطع على كل سارق هو شيء بالغ القسوة. فمن يحكم هنا.. النص أم التطبيق؟

الحل كان في اعتبار “السُنة” نصاً مكافئاً للقرآن يضبط مراده.. إلا أن ذلك لا يخلو من مشاكل سببها الخلل في التعامل مع السُنة من الأساس باعتبارها مجموعة من التعليمات المنفصلة عن زمانها ومكانها وسياقها.
لنجد أن الرسول يقول في حديث في الصحيحين “لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده، ويسرق البيضة فتقطع يده”
إذاً من سرق بيضة قطعنا يده.
ولنجد الرسول أيضاً يقول في حديث رواه البخاري “تُقطع اليد في ربع دينار فصاعداً”.
ولكن ماذا عن التضخم؟ فربع دينار من ألف وأربعمائة سنة بالتأكيد تختلف قيمته عنها اليوم!
في هذا نجد حديث لابن عمر متفق عليه بأن الرسول قطع في مِجَن (أي درع) قيمته ثلاثة دراهم.. لأن ثلاثة دراهم وقتها كانت تساوي ربع دينار.
وغير ذلك نجد مذاهب عديدة، صحيح أنها قلصت حالات القطع من عمومها في الآية، لكنها ألقتنا في بحر من الاحتمالات ما بين البيضة وربع الدينار وتغير سعر الصرف في البنك المركزي.

2- العبودية.. والربا
يناقش الأستاذ عبد الجواد ياسين تعامل النص القرآني مع العبودية والربا كنموذجين لاشتباكه مع الواقع. وفي حين أنه تعامل مع العبودية كأمر واقع حض على تغييره بخفة، تعامل مع الربا بحزم وحسم وتحريم ووعيد بالعقاب الشديد.

العبودية والربا كلاهما فعل غير أخلاقي ومقبول اجتماعياً. لكن مبدأ العبودية يكسر أحد مبادئ الإسلام كما أفهمها.. مبدأ نسبة كل الناس لله كمطلق ليكونوا سواسية كأسنان المشط. ليكونوا أحراراً في أفعالهم فيستحقون الحساب عليها، بينما الربا حينها في ظل عدم وجود مظاهر اقتصادية كالتضخم والتمويل الاقتصادي، في ظل مجتمع اقتصادي بدائي يقوم على المقايضة بشكل أكبر، ولم تكن العملات المالية اكتسبت هيمنتها على التعاملات التجارية كما هي الآن. كان الربا مجرد معاملة اقتصادية فيها استغلال لحاجة الناس.

أتفهم أن الإسلام لم يأت للمساواة بين الناس اقتصادياً، فهو يعتبر تكوين المجتمع لطبقات هو من الاجتماع البشري الحتمي. تعامل النص اقتصادياً بنظرة تكافلية أكثر منها تهدف للمساواة اقتصادياً. ولكن ماذا عن الحرية للتدبر والتفكر والاختيار؟
كيف تتحرر العقول وما يزال البشر ملكاً لبشر آخرين مثلهم؟
ألم يكن من الأحرى أن يُقبح النص الممارسة حتى لا يتعامل الفقه التقليدي فيما بعد على أن استمرارها إلى الأبد أمر مقبول بل ومحبب إلى البعض؟
اعتبار أن الموقف من الممارسة هو موقف أخلاقي ينتمي للمطلق الإلهي أكثر منه موقف من ممارسة اجتماعية.

حض النص القرآني على عتق العبيد عبر عدة طرق إلا أنه ترك مصدراً متجدداً يمكنه زيادة عدد العبيد والإماء، وهو طريق الحرب. ونحن نعلم أن منظومة الفقه التقليدية تعتبر الإسلام في حالة حرب دائمة، مما يجعل الرق منظومة مستمرة مهما حاول النص القرآني الحث على تقليصها لأنه لم يجفف منابعها تماماً.

لقراءة المقالات السابقة من سلسلة الدين والتدين بقلم عمرو عبد الرحمن، اضغط على الروابط التالية:
1- الدين.. والتدين.. الطبيعة المزدوجة للنص … بقلم عمرو عبد الرحمن
2- التشريعات في إطار الاجتماع … بقلم عمرو عبد الرحمن
3- هل التشريعات الدينية مطلقة أبدية؟ …. بقلم عمرو عبد الرحمن
4- الدين والاجتماع… أثر متبادل ومتجدد بينهما … بقلم عمرو عبد الرحمن

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات