لماذا أخشى أن أقول لك من أنا؟ … بقلم: عمرو عبد الرحمن
بقلم: عمرو عبد الرحمن

“إنني أخشى أن أقول لك مَنْ أنا، لأنني إذا فعلت، قد لا يروق لك مَنْ أنا، وذلك جُلُّ ما أملك”
في السينما، اعتاد الجمهور على حصر الممثلين في أدوار معينة. ربما كان هذا بسبب ملامح وجوههم أو أشكال أجسامهم، لكن ذلك أيضًا يرتبط بالأدوار الأولى التي قدمها هؤلاء الممثلون، لتترسخ علاقة بين الممثل وهذه الأدوار بشكل لا واعٍ في مخلية الجمهور، فيستحيل عليهم تخيّل الممثل في أدوار من نوعية مغايرة، مهما بذلوا من جهد.
فهم الواقع البشري
في الواقع، نلعب نحن أيضًا العديد من الأدوار، يصنفها الأب چان باول اليسوعي في كتابه “لماذا أخشى أن أقول لك من أنا؟” إلى ثلاثة حالات للأنا:
حالة الطفل الذي يحتاج إلى المساعدة والاهتمام، وحالة الأب أو الأم وفيها الشخص يشعر بالمسئولية تجاه حماية ومساعدة الآخرين، وحالة البالغ الذي يعتقد أنه وصل إلى مستوى من النمو يكون فيه قادرًا على التعامل مع الآخرين من موقف متكافئ.
وهي حالات ننتقل بينها تبعًا للواقع الحالي، وطبيعة احتياجاتنا النفسية في فترة زمنية بعينها. ربما تكون المشكلة هي إذا قمنا بحصر أنفسنا أو قام الآخرون بحصرنا في دور واحد، ليصبح وكأن قدرنا الدائم هو لعب ذلك الدور فلا نتخيل أنفسنا إلا كطفل غير قادر على فعل شئ دون توجيه صارم، أو لا يتخيلنا الآخرون إلا كأب أو أم نوجد لرعايتهم، ولا يمكننا الشكوى أو التألم. تمامًا كما يتعامل الجمهور مع الممثل، إلا أننا أحيانًا نكون الجمهور والممثل في الوقت نفسه.
يؤكد چان باول أن لا أحد منا يحب العيش في الغش والتزييف، لكن الخوف من التعبير عن الذات يدفعنا إلى لعب أدوار وارتداء أقنعة، تصبح هي واقعنا في النهاية.
“إنني أخشى أن أقول لك مَنْ أنا، لأنني إذا فعلت، قد لا يروق لك مَنْ أنا، وذلك جُلُّ ما أملك”
النمو الشخصي
أثناء عملية نمونا المتواصلة للوصول للإنسان الكامل، نحاول الحفاظ على التوازن بين وجهنا الداخلي، الذي لا يراه سوانا، وفيه ندرك حقيقتنا وعمق عواطفنا ونتقبل ذاتنا. ووجهنا الخارجي الذي نتصل به مع الآخرين، ونشاركهم مشاعرهم، ونكتسب الخبرات من التعامل معهم، ونصغي إليهم.
أحيانًا نحتاج أن نسمع صوتًا آخر غير صوتنا، لأن صوتنا أصبح لا يقوى على الخروج للعالم، بعدما قمعناه لسنوات طويلة. فيكون هذا الصوت الآخر وسيلة تحررنا من سجن أنفسنا.

“اخلق فيّ يا رب قلبًا يعرف كيف يصغي“
طبقًا لهايدجر فالسر يكمن في الشغف بما هو كائن، والرغبة في الوصول إلي الكمال فيما سوف يكون. هذا هو الاتزان الذي ينشده الإنسان، بحرية، وبممارسة التجرد، ليضع نفسه على طريق النمو، الذي هو قدر الإنسان، لا الكمال.
الإنسان الكامل لا تؤثر عليه الأجواء بقدر ما يؤثر هو عليها. يحاول طوال الوقت السمو فوق غبار المعارك اليومية التي لا مفر منها، لكنه لا يدعها تتحكم في ردود أفعاله. يتأثر بها عاطفيًا، لكنه طوال مسيرة نموه يحاول التحكم في مدى انعكاس هذا التأثر على أفعاله.
العلاقات الشخصية
في كتابه “البحث عن المعنى”، يحكي ڤيكتور فرانكل عن تجربته في معسكرات الاعتقال النازية أثناء الحرب العالمية الثانية. وفيها أنه لما تم تحريره مع من صمد من السجناء، بعد قضائهم سنوات عديدة في السجن يتوقون للحرية، خرج السجناء ليروا ضوء الشمس، ثم سرعان ما عادوا إلى ظلمة السجون بمحض إرادتهم.
يرى چان باول أن هذه هي المعضلة التي نعيشها جميعًا في مسيرة نمونا. معضلة التوق للخروج إلى الناس، والخوف من لقائهم بعد أن ألفنا الأمان في سجننا الذي صنعناه لأنفسنا بأيدينا، خوفًا من رفض الآخرين لنا.
يقسم چان باول مستويات الاتصال بين البشر إلى خمسة مستويات:
المستوى الخامس هو مستوى الكلام المبتذل. أشياء نقولها على سبيل المجاملة، ونحن غالبًا لا نعنيها. كالسؤال عن الحال انتظارًا لإجابة مقتضبة تقليدية لا تعبر عن الحال على وجه الحقيقة، لأننا لا نهتم كفاية لنسمع.
بالنسبة إليّ شخصيًا لا أعتبر نفسي إنسانًا مُحبًا للمجاملات، لأن مع كثرة المجاملات يمكن أن نفقد القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مُصطنع. حتى إذا كان مُصطنعًا بنيّة طيبة.
"وفي ظلمات الليل العارية
رأيت عشرة آلاف شخص وربما أكثر
يتحدثون دون أن يتكلموا
يسمعون دون أن ينصتوا
يكتبون أغاني لم تشاركها أصواتهم أبدًا
ولا يجرؤ أحد على تعكير سكون
صوت الصمت"
المستوى الرابع هو مستوى سرد الوقائع التي تخص الآخرين دون إبداء وجهة نظر تعبّر عنا، كوسيلة للهروب عن الكلام عن أنفسنا.
المستوى الثالث هو أفكاري وأحلامي، وفيه نقرر الإفراج عن بعض أفكارنا للطرف الآخر، لكن ليس كلها. مع مراقبة رد فعل الطرف الآخر، الذي بُناءً عليه يمكننا أن نقرر الاستكمال أو الانسحاب لمنطقة آمنة أكثر.
المستوى الثاني هو شعوري وعواطفي. وفيه ندخل مع الطرف الآخر إلى منطقة أكثر عمقًا في شخصيتنا، لأن الأفكار المجردة لا تصلح لبناء اتصال خاص مع الآخر.
المستوى الأول هو قمة العلاقة أو العلاقة العميقة. وفيه يعرفك الآخر كما تعرف نفسك. علاقة تتميز بانفتاح كلي وصدق يضمن استمرار العلاقة، لأن التزييف لابد له أن ينكشف يومًا ما، ومع هذا الانكشاف تنهار العلاقة عندما يكتشف الآخر أنها كانت مع شخص آخر لا يعرفه.
ثم يضع چان باول عدة قواعد للاتصال الشخصي الحميم لتحقيق اللقاء بين طرفين في علاقة عميقة:
- عدم الحكم على الآخر.
- العواطف بحد ذاتها لا هي حسنة ولا سيئة، هي جزء من طبيعتنا البشرية التي نتقبلها.
- تكامل العواطف مع العقل والإرادة. حيث ينتج عن تقبلنا لمشاعرنا كمبدأ، أن نخضعها للعقل من حيث هل نسير تبعًا لها أم لا، ومن ثم تضعها الإرادة قيد التنفيذ.
- التعبير عن العواطف واجب.
- يجب التعبير عن العواطف أثناء اختبارها.
التعامل مع العواطف
ينطلق حديث چان باول من أن الوحدة والعزلة ليست شيئا صحيًا؛ لأن من يظل أسير الخوف من مشاركة ذاته مع الآخرين، من غير المرجح أن ينظر إلى نفسه نظرة إيجابية. فنحن نحتاج من يفهمنا ويتقبلنا ويحبنا، والعائد من ذلك يستحق المخاطرة بأن يُقابل انفتاحنا باللامبالاة أو عدم التفهم.
في حين نجد أن الحداثة تحاول إقناعنا بعدم الحديث عن آلامنا، خشية أن يعتبرنا الآخرون مصدرًا للطاقة السلبية، وأن نتمسك بالوحدة لأن فيها نجاتنا، إلا أن بالمشاركة فقط يستطيع الإنسان التعرف على نفسه والسير على طريق النمو.
وفي هذا الطريق كلًا منا سيتغير دون أن يغير أحدنا الآخر، ونحافظ على المشترك بيننا وتزيد العلاقة عمقًا ورسوخًا.
مخابئ الإنسان وحيّله الدفاعية
عادةً يلجأ الناس إلى حيّل دفاعية مختلفة لسد ما يعتقدون أنه نقص فيهم، خوفًا من أن لا يُعجب الناس. هذه الحيّل تتميز بالمبالغة في اتجاه مضاد لما نعتقد أنه ينقصنا. وهي من علامات عدم النمو. وتكون المشكلة أن الإشارة إلى هذه الحيّل لدى من يلجأ إليها، تؤدي إلى ردة فعل عكسية تجعله يُبالغ في اللجوء إليها أكثر.

توجد عدة أساليب لهذه التكتيكات: منها الإبدال حيث يوجه الشخص مشاعره في اتجاه آخر بحثًا عن كبش فداء. والإسقاط بأن ننزه أنفسنا عن النقائص والعيوب وننسبها للآخرين. والإلباس عندما ننسب لأنفسنا ما نحب عند الآخرين. والتبرير الذي هو الحيلة الأشهر، ويكون أخطر عندما نكذب فيه على أنفسنا كما نكذب على الآخرين.
هذه الحيّل الدفاعية تكون عقبة أمام أي علاقة تمنعها من الوصول إلى مستوى العلاقة العميقة. فكلما احتاج الشخص إليها كلما كان واضحًا أنه لا يشعر بالأمان إذا أخبر الآخر حقيقتة. الحقيقة التي هي شرط النمو وضمانة اللقاء العميق، والتي هي طريق ثنائي الاتجاه، يدفع فيه كل شخص بمشاركته لحقيقة نفسه الآخر ليفعل الشئ نفسه.
فهل انت مستعد لتخبرني من أنت؟ لأنني رغم كل ما قاله چان باول، لازلت أخشى ذلك بعض الشئ، إلا أنني أحاول.
عن الكاتب

كان الأب چان باول كاهنًا وكاتبًا يسوعيًّا. تابع دراسته الابتدائيّة في مدرسة چون مورفي بشيكاغو، وقد تخرّجَ هناك من كليّة لويولا في العام 1943. وفي ذلك الوقت، التحق بالرهبانيّة اليسوعيّة في ميلفورد. درس الفلسفة وحاز على شهادة تعليميّة في الفنون من جامعة لويولا. سِيمَ كاهنًا في العام 1956.
أهم كتبه:
- فنّ التواصل
- سرّ البقاء في الحبّ
- لماذا أخشى أن أقول لك من أنا؟
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد