ما الذي تُحدِّق فيه أيها الغريب؟.. أنطولوجيا الآخَر في العالم المخيف … بقلم: أبانوب خلّاف
يأتي المقال هنا ضمن سلسلة مقالات عنوانها الرئيسي “أنطولوجيا الآخر في العالم المخيف”، ولكل مقال عنوان فرعي: بدأنا بـ”مرايا الهوية – نبوءة معبد دلفي”، وهو المقال رقم صفر.
ونكمل هنا بالمقال رقم ١: “ما الذي تُحدِّق فيه، أيها الغريب؟”، وهو بمثابة مقدمة.
بقلم: أبانوب خلاف

مدخل رمزي:
أعرفُ أن هذا العالم البائس في حالتَي شَرودٍ ويُتْمٍ. بعد أن انسحب الأب التقليدي عن الصورة، تسلَّلَت إلى عالم الروح عدّة آباء كَذَبَة لا تعرف معنى الإشباع، ملوّثة بخطيئة النسيان. لكن من ذا الذي يقنع الشريدَ واليتيمَ أن هذا ليس أباه؟ أنه خالي من العاطفة؟ أنه لا يكترث بأمره في حقيقة الأمر؟ لن يصدق بالطبع أن أباه الحقيقيّ خفي عن الأعين (أشبه بليلٍ أبدي تكون فيه الأبقار سوداء)، صار ظِلّّا لا يُرَ إلا في النور الحقيقي أو في الظلمة القاتمة. والضوء الآن كاذب؛ فليس ثمة نور حقيقي، ثمة إنارة، ثمة مصباح، لكن النور لا! والظلمة كاذبة أيضًا، ملوّثة بالإنارة، ولم يتكشَّف بعدُ غموضها المَهيب.
ها أنا الآن أقوم وأطوف في المدينة وفي الأسواق وفي الشوارع، أبحثُ عن بيتٍ للمشرَّدين! أحلِّفكن يا بنات أورشليم ويا ربّات الشعر أن تبحثنَ معي عن هذا البيت كي نهدأ جميعًا! اذهبن إلى جبل حوريب وابحثنْ. اذهبن إلى هضبة صهيون وابحثنْ. اذهبن إلى دلفي، إلى أعالي جبل بارناسوس وابحثنْ. أُحَلِّفكُنَّ يا بنات أورشليم ألا يتسرَّب الملل داخلكُنَّ، لا تهدأن. وأنتن أيضًا يا ربّات الشعر لا تغفلن عن نشيدكنَّ، لتصحن بأعلى صوت. لا تَكُنَّ مثل النفوس القديمات مَن غلبَ عليهنّ الشرّ في انقيادهنَّ؛ لأن الشرّ يعود أصلًا إلى “جسارتهنَّ ودُخولهنَّ في عالَم الصَّيرورة وخُطوَتهنَّ الأولى في الغيريّة وإرادتهنَّ أن تنفر كلّ منهنَّ بذاتها. فَمَلَك الفرح عليهنَّ أمرهنَّ/ لدى استقلالهنَّ بذواتهنَّ بعد ما ظهرن عليه، وأخذن يتحرّكنَ من تلقاء ذواتهنَّ مُفرِطات في انقيادهنَّ لذلك. فجرين في جهة مُعاكِسة وأبعدنَ في جريهنَّ وأصبحنَ جاهلات كونهنَّ من الملأ الأعلى 1“. فلا تتخذهنّ مثلًا أعلى ولا تغلبن عليكنّ أهوائكنّ:
اذهبن يا جميلات وبعلو صوتكن اسألن: هل لدى أحدكم ملجأ للمشرَّدين؟
ما الذي تُحدِّق فيه، أيها الغريب؟

“عندما لمحت بمقلتي عيني سيبل
وهي مُعلَّقة داخل قفص كبير
كان بعض الصبية المارّين يسألونها:
فيم ترغبين يا سيبل؟ أجابتهم بأنها تنشد الموت 2“.
في إهداء غريب يفتتح ت. س. إليوت “أرض الضياع” وهي المكتوبة في ظل أجواء الحرب العالمية الأولى. إن سيبل هي الأسطورة القديمة التي رواها الشاعر الروماني “بترونيوس”، وهو يتكلم عن سيبل الجميلة التي وقع في غرامها أبولّو ومنحها قدرة التنبؤ بالمستقبل وحياة مديدة بعدد الرمال التي تقبض عليها بيديها. ففرحت بهذه الهبة العظيمة لكنها غفلت عن شيء جوهري، عن حياتها الداخلية وتجددها، فأخذت تذبل وهي على قيد الحياة، حياتها البائسة؛ فأخذت تنشد الموت 3.
ونحن الآن نجدها في افتتاحية إليوت محبوسة في قفص الحياة. إن سيبل هنا لَخير تعبير عن حال القرن السابق وعن بشرٍ وجدوا بين أيديهم هبة حديثة فأخذتهم الفرحة، لكنهم غفلوا عن حياتهم الداخلية أيضًا، قد فقدوا جوهر الحياة في لَهثهِم وراء العالم الحديث. إن الحداثة التي جاءت مبشّرة بحياة طويلة وسعيدة كانت تحمل في طيّاتها الموت نفسه، وهو ما افتتح به إليوت قصيدته.
صمويل بيكيت:

إن صمويل بيكيت هو الآخر يعبر عن حال البشرية اليوم في «مسرح اللا-معقول». في مسرحيته الشهيرة “نهاية اللعبة” نجد أربعة أشخاص: الجدان: ناج ونيل. الابن: هام. والابن، أو الصديق، أو الخادم: كلوف. إن بيكيت يُحضِّر الموت بين لا-معقوليّة مسرحه، أو إنه، ببساطة، يأخذه من العالم إلى المسرح.
“هام: رائحة الجثة تفوح في المنزل كله.
كلوف: في الكون كله 4“.
تدور المسرحية بين أحد لا يستطيع الجلوس، إذ حُكِمَ عليه بالانتصاب الدائم. وآخر لا يستطيع النهوض، إذ حُكِمَ عليه بالعجز الدائم، ويا للسخرية، العاجز هو الحاكم. وبين أبوين في صندوقي القمامة. إن ما يكمن داخل وخارج مسرح بيكيت كما سبق ورأينا عند إليوت هو الموت، وليس الموت فقط، لكن يتبع الموت مشاعر أخرى، نضع يدنا عليها الآن: الموت: “هام: خارج هذا المكان، الموت 5“. اليأس “لو كانت ستنبت لأنبتت. لن تنبت أبدًا 6“. الندم والحنين “من النادر ألا يكون الإنسان جميلًا فيما مضى 7“. اللا-شرف:
“ناج: أقسم.
هام: أقسمتُ.
ناج: بماذا؟
هام: بشرفي.
(صمت ثم، يضحكان) 8“.
والاستسلام: “أنت على الأرض ولا علاج لذلك 9“. العدمية: “القذر! إنه غير موجود! 10“.
يبدو للقارئ –ربما– أننا مخبولون إذ نفسّر اللا-معقول. سأجيب بعد قليل. إن مسرح بيكيت هو العالَم، لكن في صورته الواضحة، الخام، غير المُجمَّلَة. الموت عنده يصير في الخارج هناك، لا.. ليس في مسرحه فقط، إن مسرحه هو الحياة اللا-معقولة، وخارج اللا-معقول ربما تتمثل حياة في شكل طفلٍ، لكنه وا حسرتاه إن لم يدخل مسرح اللا-معقول سيموت. فجأة، ينظر كلوف بالمنظر، فيرى شيئًا… هناك شخص! يصيح هام حينها: “إذن، اذهب واقض عليه 11“. ما جنسه؟ هذا لا يهم، لكنه يبدو صغيرًا. بعد متابعة تحرّكاته يحيط بهما الشكّ في أنه قد مات. ولما اقترح كلوف أن يذهب ليتحقق منه ومن وجوده، قال هام: إذا كان فعلًا موجودًا فسيأتي إلى هنا أو سيموت هناك 12“. نعم هو الأمر كذلك، إما أن يدخل إلى اللا-معقول بإرادته أو سيموت. هذا هو العالم.
قبل أن نترك بيكيت نسأل سؤالين بخصوص مسرح اللا-معقول والحضور الطاغي للموت فيه: هل يصير اللا-معقول لا-معقولًا إلا بوجود الموت؟ أو يكون الموت هو المعقول الوحيد والموجود الأوحد الدائم وسط عالمٍ من اللا-معقول؟ أترك لك الإجابة هنا.
كافكا:

ندخل الآن إلى عالمٍ كافكيٍّ (كافكا): وجودك في العالم يفرض عليك ديونًا؛ ديون لم تقترضها قطّ. تستيقظ في كل صباح ويجب عليك أن تقضي واجباتك كي تعيش؛ الاستيقاظ مبكرًا، “هذا النهوض الباكر من الفراش البشري يجعل المرء أبله تمامًا” 13، أن تأخذ فطورك، أن تركض للعمل مسرعًا كي لا تتأخر، تجني المال في نهاية كل شهر لتأتي بِقُوتِكَ، ويأتي غيره.. وهكذا دواليك. في رواية التحول لكافكا نرى إنسانًا استيقظ ذات يوم وجد نفسه حشرة. ورغم ذلك ظل شغله الشاغل ألا يُطرَد من عمله، عليه ألا يتأخر، عليه أن يترك سريره وغرفته ليلحق بعمله، ولو كان في هذا الكثير من الألم لجسمه الزاحف. يقول فتحي المسكيني مُعلِّقًا على رواية كافكا: “تبدو الحياة اليومية للجسم البشري تمرينًا أبله على الانتماء إلى إنسانية لا تحبه قطّ. لا ينهض الناس إلا من أجل تسديد ديون ما” 14.
وجودك في العالم ليس إلا دين لمجهول عليك أن تسدده كل يوم مرغمًا.. والمفارقة أنك لا تأخذ شيئًا في المقابل، في النهاية تراب في تراب. وهذه هي المأساة الكبرى؛ أن تشعر بأنك تبذر حياتك من أجل أشياء لا تريدها، من أجل أشياء فُرِضَتْ عليك فرضًا. وللمفارقة أن لفظة «دين» المقدسة لدى الإنسان، هي نفسها لفظة «دين» البائسة. إنه لعمري لهوٌ بائس وكوميديا سوداء.
ما يعني أن يتحول الإنسان إلى حشرة؟ “ما يرعب القلب، لأن نص كافكا مرعب حقًّا، هو أن الحشرة هي النسب الحيواني الأقدم لكل دابّة على الأرض. إذا جرّدنا البشري من كل ادّعاءات الإنسان حول نفسه، لن يتبقى سوى الدابّة، الجسم/ الحيوان الذي يدب على الأرض” 15.
إن العالم الكافكيّ يعبّر هو الآخر عن حال الإنسانية في السنين الماضية وحتى يومنا هذا، إذ تشيَّأَ الإنسان (أي صار شيئًا) وأصبح كمثل حشرة، ورغم تحقيره إلا أنه قد تأقلم حتى أنه يشعر –وهو الصرصار الكبير– أنه ما زال عليه أن يخدم نظامًا فاسدًا؛ فيا له من حقير. وهو نفسه الذي نجده في “المحاكمة” حيث يجد المرء ذاته محاكَمًا بغير ذنبٍ، فقط لأنه في العالم.
تخفّي الوجوه في الحياة الحديثة: ليفيناس، ريلكه، إدوارد مونش:
إن الوجه هنا هو أساس العلاقة وأساس الحياة. وإذا اغترب الإنسان، أو تشيَّأ، لاختفى وجهه. إن ليفيناس يؤسس علاقة أخلاقية مع وجه الآخر، علاقة مقدسة. كان فيليب نيمو في حواره مع ليفيناس يقول: “إن يوميات الحروب تخبرنا بأنه من الصعب قتل إنسان يحدق فينا بعينيه وجهًا لوجه ثم يقتله، فالوجه دلالة، لكنه دلالة لا سياق لها”. فوجه الآخر يحمل هذه العبارة “لا تقتلني” 16. وليس الوجه المقصود هو الوجه القبيح أو الوسيم بل إنه يشير إلى ما وراء الوجه؛ الوجه “بوصفه تجليًّا استثنائيًّا للذات بذاتها” 17. ومن هنا يقول: “فليس الوجه شيء يمكنني أن أدركه، بل هو تجلي وحالة من التكشّف” 18.




أما في لوحة إدوارد مونش هنا فنجد رجالاً لا وجوه واضحة لهم، من أولهم إلى آخرهم يختفي الوجه تدريجيًّا. والمرأة المختنقة هي التي حافظتْ على قليل من وجهها، فرأت فراغهم وشعرت به فلم تتحمّل هول المنظر.
وكان ريلكه في وصفه لامرأة صادفَها غارقة في ذهولها في شوارع باريس، قال: “لكن المرأة، تلك المرأة، كانت قد سقطتْ بكاملها في ذاتها، مندفعةً إلى الأمام، وتكوّرت في كفّيها. كان ذلك في زاوية شارع نوتردام – ديه – شان. ما إن رأيتُها حتى أبطأتُ خطاي. عندما يفكر الفقراء، فينبغي ألا نزعجهم. ربما انتهوا إلى العثور على ما يبحثون عنه. / كان الشارع فارغاً، سئماً من فراغه ذاك. ولقد سرق خطواتي من تحت قدميَّ، وجعلها تصطفقُ من رصيف إلى آخر، كسنبكِ حصان. فزعتِ المرأة، وانتزعتْ نفسَها مما كانت فيه، انتزعتْها بكثير من السرعة والعنف، حتى لقد بقى وجهها في كفّيها. كان في مقدوري أن أراه هناك، أن أرى شكله الفارغ المتحفِر. كلفني مجهوداً كبيراً أن أمكثَ عند اليدين، ولا أحدق بما كان قد تخلّع منهما. كنت أقشعرّ إذ أرى على هذه الشاكلة وجهًا من الداخل، لكني كنت أخشى أكثر من ذلك أن أواجه الرأس، رأسَها الحاسر، الذي باتَ بلا وجه” 19.
يعلق المترجم كاظم جهاد: “فقدان الوجوه الذي تعيشه أغلبية الناس بلا شعور يستحيل لدى هذه المرأة اقتلاعًا وعملية انتزاع عنيف يقرأ الشاعر من خلالها العنف المتطرّف الذي تمارسه المدن الكبيرة على ساكنيها 20“.
وفي كتاب الساعات، وعلى لسان الصبيّ الشاحبِ المحيّا هابيل:
“لستُ كائنًا. فَعلَ بي أخي شيئًا
لم ترَه عيناي.
لقد حجبَ النّورَ عني.
ألغى وجهي
بوجههِ هو.
وهو الآن وحيد” 21
أن تفنى هنا، أن تصير شيئًا، هو أن تحجب النور عن مرءٍ بإلغاء وجهه. الموت هو حالة من فناء الوجه أيضًا. سرق قايين وجه أخيه فصار وحيدًا.
كان فتحي المسكيني يقول: “أنّ “الوجهيّة” هي عنوان التواضع البشري أمام الكون: كشف الوجه كنوع من الكرم إزاء أيّ آخر ينظر إلينا، كرم المساواة والتبسّط والاستبشار بأنس المأنوس مهما كان جنسه، ولو كان حيوانًا أو جمادًا” 22.
يمكن أن تكون بلا وجه وأنت على قيد الحياة، وهو ما كان يقوله هؤلاء، وإنه ما يحدث في الحياة الحديثة أيضًا؛ إذ تجد بشرًا بلا وجه، لا يستطيع أحدهم أن يأنس بالآخر من كثرة ديون الحياة الحديثة وأنَّ المرء يشعر أن ثمة من يلف يديه حول رقبته.. لكنه في الحقيقة لا يلف يديه حول رقبته فقط، بل إنه يسحب وجهه.
نيتشه:

نمرّ الآن برجُلٍ أكثر تعقيدًا، لكنه، كما يُقال عنه: «فجرُ ما بعد الحداثة».. إنه نيتشه بالطبع. ولن نسأل نحن إلا شيئًا واحدًا: لِمَ ظهرَ نيتشه نبيًّا في هيئة زرادشت؟
إن «الإعلان» النيتشوي ليس أكثر من إشهار لما قد حدث بالفعل في العالم الحديث وفي الوقت الذي ظهر فيه نيتشه من موت للآلهة، وبحسب هابرماس فـ”ليست «عدمية الحداثة» سوى حلول ليل «غياب الآلهة» والإعلان في الوقت ذاته عن عودة «الإله الغائب»” 23. إذ نجد نيتشه يتحدث في المضارع، وليس في الماضي، فالعبارة التي تُتَرجَم لأسباب جمالية بـ”قد مات الإله” هي تتحدث في اللغة الألمانية بـ المضارع Der Gott ist tot. إن نيتشه في الحقيقة ليس إلا سليلًا لنبوءة الرومانسيّ «نوفاليس». يقول نوفاليس في غنائيةٍ مسيانية: “«سيأتي مخلِّص ونابغةٌ حقيقيّ وسيكون أخًا للبشر وسنؤمن به من دون أن نتمكن من رؤيته وسيراه المؤمنون بألف مظهر وسنأكله ونشربه على شكل خبزٍ وخمرٍ وسنقبِّله كما العاشق وسنتنفسه كما الهواء وسنسمعه كما نسمع الكلمة أو اللحن وسنحتضنه وسط الشهوات السماوية كما الموت بين عذابات الحب الأليمة في عمق أعماق جسدٍ عرفَ السَّكينة أخيرًا” 24. يحدثنا نوفاليس عن نبوءة غريبة يأتي فيها المُنقِذَ ليأخذ بيد البشرية البائسة إلى بر الأمان. إن نيتشه يمثل تلك الشخصية بالنسبة للعالم الحديث يتيم الأب؛ فيعلن الموت، ثم يظهر كنبيٍّ بديل يبشّر بحالةٍ خاصّة من الروحانية.
في معرض حديثه عن نيتشه يقول كارل يونج أن “«هكذا تكلم زرادشت» عمل ينبض «بما يدفُّ بين جوانح كل ألماني» –وهي صورة أزلية– أي صورة معلم البشرية. يضيف يونج: «إن الصورة التي يرسمها النمط الفطري للحكيم؛ أي للمخلِّص أو المنقذ، تظل دفينة وكامنة في اللاوعي الإنساني منذ فجر الثقافة. وهي تصحو كلما انفرط عقد من الزمان وتعرض المجتمع البشري لخطأ جسيم» 25“.
ما هو هذا الخطأ الجسيم إذًا الذي ظهر نيتشه معبّرًا عن كونه منقذًا من خطره؟ الآن أنت تعرف. إذًا، نيتشه ظهرَ فيلسوفًا وشاعرًا ومنقذًا.
شرود حديث:
إن البؤس الحداثيّ ليس جديدًا، بل إنه قديم بعض الشيء، وقد التفت إليه الكثير من الشعراء أيضًا.
قال بودلير في تعليق على لوحات وآراء بول شونافار Paul Chenavard، عام ١٨٥٩:
“إن عمر الإنسان إنما ينقسم إلى طفولة، تلك التي تطابق في عُمر الإنسانية الحقبة التاريخية الممتدة من بابل إلى المسيح، والتي تعتبر أوج الحياة الإنسانية؛ وإلى كهولة، وهي تمتد إلى الإنسانية من المسيح إلى نابليون؛ وأخيرًا إلى شيخوخة، وهي التي تطابق الحقبة التي سندخلها قريبًا وتتسم بدايتها بتفوق أمريكا والصناعة 26“.
إن الشعر الفرنسيّ الحديث قد ظهر هو الآخر ضد النزعات الوضعية والتجارية التي بدأت تسيطر على روح العصر، فتجدهم يبحثون عن الحقيقة، بعد أن تزعزع الإيمان التقليدي بالدين والتراث، والانطلاق من العالم الصغير والضيق والممل كما ما يقول بودلير، إلى عالم مثالي مجهول أشد واقعية في رأيهم من الروح الزائفة للعصر.
كان ريلكه يقول أيضًا في رسالة إلى مترجمه البولندي فيتولد فون هوليفيتش Witold von Hulewicz، عام ١٩٢٥:
“أما اليوم، فإنّ أمريكا تغرقنا بأشياء فارغة، تأتي خبط عشواء، أشباه – أشياء، وأحابيل لاقتناص الحياة (مثلما هنالك أحابيل لاقتناص الذباب). إن منزلاً بالمعنى الأمريكيّ، وتفاحةً أو عنقوداً من العنب أمريكيّين، لا يمتّان بأيّة صلة للمنزل والثمرة والعناقيد التي غذّت رجاءات أسلافنا الحالمة. إن الأشياء المزوّدة بحياة، الأشياء المَعيشة والواعية لنا، لهي الآن في انحدارٍ، ولن يمكن تعويضها. ربما كنا آخِر من يُعطَى لهم رؤية هذه الأشياء 27“.
يقول فتحي المسكيني معلّقًا على كتاب هوسرل: “ثمّة تنافر في صلب معنى الحياة الحديثة نفسها: لقد نسيت العلوم الموضوعية أنها هي نفسها تشكيلات “ذاتية” من عالم معيش بعينه. إن العلم الأوروبي قد نسى عالم الحياة الذي أنتجه”


إن هذا الشَّرود الحديث يعود أصله إلى ديكارت وغاليلي ونيوتن ولايبنتس وسبينوزا وغيرهم ممن حاولوا ترييض الطبيعة (صبغ الطبيعة صبغة رياضية). وهو الأمر الذي انتقده إدموند هوسرل في كتابه “أزمة العلوم الأوروبية” أثناء محاولته فهم الوضع الحديث. إن تحويل الطبيعة إلى كتاب لغته الرياضيات بحسب تعبير غاليلي قد أدى إلى نسيان لعالم العيش، أي عالم الحياة. ونحن هنا لا ننتقد الطريقة التي بدأ بها العلم التجريبي ولا طريقه المستمرّ، بل إننا ننظر فيما حدث ليس أكثر. يقول فتحي المسكيني معلّقًا على كتاب هوسرل: “ثمّة تنافر في صلب معنى الحياة الحديثة نفسها: لقد نسيت العلوم الموضوعية أنها هي نفسها تشكيلات “ذاتية” من عالم معيش بعينه. إن العلم الأوروبي قد نسى عالم الحياة الذي أنتجه” 28. وليس هذا هو السبب الوحيد بالطبع، بل إنه أحد أهمهم. فالطبيعة عندما رُيِّضَت (أي صبغت بصبغة رياضية) أُهمِلَ العالم ذاته وتحول إلى بضعة أرقام، أو على حد تعبير إيريك فروم، إلى بضعة أشياء أقل قيمة من الأشياء الصامتة والمادية، يقول: “في القرن التاسع عشر، استطاع المرء أن يعلن: “لقد مات الله”. في القرن العشرين، ينبغي أن يقول المرء إن الإنسان قد مات. اليوم يبدو هذا القول المأثور صحيحاً: “لقد مات الإنسان، وتحيا الأشياء!” ربما ليس هناك مثال يدل على شناعة هذه البربرية الجديدة أكثر من فكرة التخطيط الحالي لصناعة قنبلة نيوترونية. فما الذي ستفعله قنبلة نيوترونية؟ سوف تدمر كل شيء حي وستبقي على ما هو غير حيٍ: الأشياء، المنازل، الشوارع” 29.
يقول فتحي المسكيني: “إن الحداثة قد سحبت العالم التقليدي الذي كان موجودًا قبل القرن التاسع عشر، وعوضته بعالم آخر معدٍّ لسُكنى «الجموع»؛ حيث يسود «توثين» أو «تأليه الجمهور» الذي دُرِّب على «لغة التعميم»، و«العجز عن اتخاذ القرار» وحيث يُعامل «العقل بوصفه أداة». ولأول مرة، وبالتحديد منذ القرن التاسع عشر، صار «الإيمان بالمستقبل» لا ينفصل عن شعور بالذهاب نحو «الهاوية». وكان نيتشه وكيركغارد أساتذة في تقريظ «الوعي المظلم بالعصر»، الوعي بـ«حالة الخطر»؛ حيث أخذ «الإنسان يشعر بأنه مهدد» وهو يعيش في عالم «انسحبت منه الآلهة». 30.
لِمَ؟
لم قلنا كل ما سبق قوله؟ لأننا نريد أن ينتبه القارئ فيما هو قادم إلى هذا الأمر: “نحو ماذا كان ينظر الكاتب؟”. كان ينظر –أثناء الكتابة– إلى الموت بالطبع. كان بودلير يناجيه: “تعال!”. ونيتشه يعلن: “قد مات الإله!”. ريلكه، وعلى النقيض من نيتشه: “ماذا تفعل يا إلهي إذا متُّ؟ أنا جُرَّتُكَ، ماذا تفعل إذا انكسرتُ؟”. بيكيت يجعله “هناك” في الخارج. لا تخرج، سيراك.. أنظر! إنه أعلاك. إليوت يفتتح الأرض الخراب بـ”سيبيل” الخالدة، تترجى الموت. وكان في قصيدته “الرجال الجوف” يقول أن هذا العالم سينتهي بالأنين وليس بالصيحة المدوية التي يصل مداها إلى كل بقعة من بقاع الأرض، سيفقد هذا العالم حتى قدرته على الصراخ. أما هايدغر فقد صادق الموت وحوَّله إلى ظلٍّ يتتبع خطواتنا مذ وُجِدْنا (وهو ما سنراه في المقال القادم)؛ ولا يعرفه حقًّا إلا الأحرار. ليفيناس، وعلى النقيض من هايدجر، جعله لحظة واحدة تأتي في النهاية لا أكثر ولا أقل (وهو ما سنراه أيضًا في مقالٍ آخر)؛ الوشاكة الدائمة للموت طبيعته. لكنني ما دمت «الآن» هنا، أصنع الممكنات، فهو بعيد. على كلٍ إنه أحد السمات –المختبئة في آن والظاهرة في آن– بينهم. إنه حاضر، بشكل أو بآخر. وسنرى فيما سيأتي أن الكاتب إما أنه كان يهرب من الآخر خوفًا منه وما حدث فيه وما يمكن أن يحدثه من شرٍّ وزيفٍ، ويقترب من الموت. أو يبعد الموت –المحدق في كل عين– عنه قدر الإمكان مناديًا وجه الآخر وجسده.
ونحن هنا أيضًا، في القرن الحالي.. ألا نكتب والموت ينظر إلينا؟ ألم يتتبعنا الموت؟ إنه هنا، ما زال.
انتظروا الحلقة القادمة من سلسلة مقالات “أنطولوجيا الآخَر في العالم المخيف” ………
لقراءة الحلقة السابقة اضغط الرابط التالي:
مرايا الهوية – نبوءة معبد دلفي.. بقلم: أبانوب خلّاف
هوامش ومصادر:
- أفلوطين: “التاسوعات”، ترجمة: فريد جبر. مكتبة لبنان – ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى: ١٩٩٧، ص: ٤٤٢. ↩︎
- ت. س. إليوت: “أرض الضياع”، ترجمة ودراسة: نبيل راغب، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ٢٠١١، ص: ٤٩. ↩︎
- راجع الدراسة في المصدر السابق. ↩︎
- صمويل بيكيت: “نهاية اللعبة”، ترجمة: بول شاوول، الطبعة الأولى: منشورات الجمل – بيروت – بغداد ٢٠١٤، ص: ٦٠. ↩︎
- نفسه، ص: ٢٦. ↩︎
- نفسه، ص: ٣٠. ↩︎
- نفسه، ص: ٥٦. ↩︎
- نفسه، ص: ٦٢ – ٦٣. ↩︎
- نفسه، ص: ٦٥. ↩︎
- نفسه، ص: ٦٧. ↩︎
- نفسه، ص: ٨٧. ↩︎
- نفسه، ص: ٨٩. ↩︎
- فتحي المسكيني: “الهجرة إلى الإنسانية”، مؤسسة هنداوي – ٢٠٢٤، صدر الكتاب عام: ٢٠١٦، ص: ٣٠٣. ↩︎
- نفسه. ↩︎
- فتحي المسكيني: “الهجرة إلى الإنسانية” ص: ٣٠١. ↩︎
- غيضان السيد علي: “الغيرية في التفكير الغربي بين غلبة الأنا والتضحية من أجل الآخر”، منشور في مجلة “الاستغراب”، العدد ١٠، بيروت – لبنان، ص: ٢٨١. ↩︎
- غيضان السيد علي: التجلي المقدس لوجه الآخر في فلسفة ليفيناس، مجلة “الآداب والعلوم الإنسانية”، مجلد ٨٧، العدد الأول ٢٠١٨، ص: ٣٦٠. ↩︎
- نفسه، ص: ٣٥٣. ↩︎
- راينير ماريا ريلكه: “كتاب الساعات وقصائد أخرى”، ترجمة وتقديم: كاظم جهاد، منشورات الجمل، الطبعة الأولى: بغداد – بيروت ٢٠١٩، ص: ١٤ – ١٥. ↩︎
- نفسه. ↩︎
- نفسه، ص: ١٨٨. ↩︎
- فتحي المسكيني: “الكوجيطو المجروح”، منشورات ضفاف، الاختلاف، دار الأمان، الطبعة الأولى: ٢٠١٣، ص: ١٧. ↩︎
- محمد أندلسي: “أفول المتعالي وأزمة الميتافيزيقا الغربية أو هايدغر من خلال نيتشه”، مركز دراسات فلسفة الدين، تنوير – بغداد، الطبعة الأولى: ٢٠١٥، ص: ٢٧. ↩︎
- كريستيان دوميه: “جنوح الفلاسفة الشعري”، ترجمة: ريتا خاطر، مركز دراسات الوحدة العربية، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى: بيروت ٢٠١٣، ص: ٢٢٦. ↩︎
- محمد عناني: “علم النفس التحليلي عند كارل غوستاف يونغ”، مؤسسة هنداوي ٢٠٢٣، صدر الكتاب عام: ٢٠١٩، ص: ٢٢. ↩︎
- شارل بودلير: “ما وراء الرومنطيقيّة – كتابات في الفن”، ترجمة: كاظم جهاد – أم الزين بنشيخة المسكيني، أبو ظبي: دائرة الثقافة والسياحة، كلمة ٢٠١٩، ص: ٤٥. ↩︎
- راينير ماريا ريلكه: “كتاب الساعات”، ص: ١٩. ↩︎
- فتحي المسكيني: “الهجرة إلى الإنسانية”، ص: ١٩٥ – ١٩٦. ↩︎
- إيريك فروم: “كينونة الإنسان”، ترجمة: محمد حبيب، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى: ٢٠١٣، ص: ٣٠. ↩︎
- فتحي المسكيني: “براقع التنين أو كيف تصبح حاكمًا هوويًّا”، مؤسسة هنداوي ٢٠٢٣، ص: ١٤. ↩︎
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
4 comments