ما تبقى من لوتشيرا الإسلامية ولقاء المصري چورچ فريد .. بقلم: محمد التداوي
بقلم: محمد التداوي
شاعر وكاتب

تأجل لقاؤنا أكثر من مرة بالرغم من الرغبة الشديدة عندي كي أتعرف بالأستاذ جورج فريد والذي تعرفت عليه من خلال صالون تفكير، وهو مصري يسكن البلاد النمساوية منذ عقود، اختار أن يحقق لنفسه حلم المزرعة السعيدة فاشترى لنفسه بيتا بحديقة هناك في أقصى الجنوب الإيطالي في مقاطعة بوليا أو “أبوليا” كما ذكرت في المراجع العربية، بعد شرائه لهذا البيت أصبحت حياته ما بين النمسا وإيطاليا ذهابا وإيابا بالسيارة مرورا ببولونيا حيث أعيش، لكنه كان يمر دائما في أوقات سفري إما للخارج أو لأحد مدن إيطاليا وهذه المرة كنت في روما فاتفقنا أن نتقابل حتما، وبسبب طول المسافة بيننا قررنا أن نلتقي في مكان وسط ويا حبذا لو كانت “لوتشيرا” قلت له.
ولوتشيرا مدينة صغيرة في الجنوب الإيطالي، لا يعرفها الكثير من الناس إلا أن لها في التاريخ صولة وجولة، خاصة حين أهداها الإمبراطور فريدريك الثاني لأتباعه من العرب الذين نقلهم من صقلية وتلك قصة طويلة نختصرها بأنه في العام 1226 ميلادية، انتقل أو لنقل التعبير الأصح نفي ونقل من صقلية عشرون ألف تقريبا من العرب الذين كانوا يدينون بالولاء لفريدريك الثاني، وكان منهم أهم فرقة للرماة في تلك الفترة والتي اعتمد عليهم فريدريك الثاني ملك صقلية في كل معاركه على الأراضي الإيطالية وورث ابنه تلك التبعية حتى قتل مانفريد في معركة بينفينتو 1266 م، وتركهم كغنيمة حرب لملوك الانجوين المنتصرين بعدما أن ورثهم من أبيه.
لقب ابنه مانفريد بسلطان لوتشيرا من قبل ساكنيها حيث أحاطوه بكل الحب والولاء، وهو ما سبب لهم سلسلة من الصدامات بعد موت سلطانهم، مع ملوك نابولي المنتصرين إلى أن قرر لهذا الصدام ولهذه المستعمرة الإسلامية ولهذه القصة أن تنتهي بنهاية مأساوية لم يتخيلها يوما أجدادهم حين قدموا من صقلية إليها قبل أربعة وسبعين عاما، كانت مدينة عربية إسلامية بكل ما تحمله الكلمة من معان، لها جامعها الكبير والذي هدم جزء كبير منه، وحول إلى كاتدرائية بعد المذبحة بعامين. اتفقت أن أقابل الأستاذ جورج عند نفس المكان.


بعد أن أخذنا صورة أمام هذه الكاتدرائية والتي كان قبلها المسجد الجامع للوتشيرا وقبل المسجد كنسية وقبل الكنيسة معبد روماني وقبله يوناني، قررنا أن نستغل الوقت لزيارة المتحف قبل أن يغلق أبوابه خاصة وأنه يوم أحد.
زيارة المتحف الخاطفة والتي ركزنا فيها على الصالة التي تضم بعض المكتشفات مما خلفته الحقبة العربية على أرض لوتشيرا، وفي هذه الصالة يعرض عدد من الأطباق والأباريق والأكواب المصنوعة من مواد مختلفة مثل الفخار والسيراميك والزجاج على بعضها رسومات لطيور وأحدها لمحارب يحمل درعا وسيفا والبعض لرسومات وكتابات عربية.
المتحف يضم أيضا آثارا لحقب أخرى مثل قطع قليلة من العصور الحجرية والبرونزية وقطع أكثر من الحقبة اليونانية والرومانية، لكن أكثر ما كان يهمنا أن نستكشف أكثر عن تاريخ لوتشيرا العربي.






خرجنا من المتحف نبحث عن مطعم للغداء، وهو ما استغرقنا فيه وقتا وجهدا للبحث عن مطعم محلي يقدم الأكلات المحلية ولم يكن متاحا حيث نسبة الإشغال كاملة وحتى حين حاولنا أخبرونا (كله محجوز) فأجبرنا بعضا من الجوع أن نبحث عن مطعم (وخلاص) أيا كان نوعه وهو ما كان في مطعم فندق متاح به أماكن، كان كريما الأستاذ جورج بحيث أصر على أن يدفع هو الحساب حيث أننا في بوليا وبالتالي أنا الضيف وقالها بالإيطالي للكاشير (io sono pugliese) بمعنى أنا ابن المكان (أنا بوليزي).
خرجنا وكانت سيارتي أقرب من سيارته فأخذناها وذهبنا إلى قلعة فريدريك الثاني قريبا من البلدة نفسها على تلة يفصلها خندق عن باقي تلة لوتشيرا.
كنت قد عرفت أن غالبية المقتنيات التي تدلل للحقبة الإسلامية وجدت هنا في محيط وصحن القلعة والتي اكتشفنا حجمها الهائل فقط حين دخلنا إلى ذلك الصحن الكبير والذي يحتاج إلى عمل هائل من الحفريات حيث ينتظر أن يكتشف هنا ما لا يتوقعه أحد خاصة وأنها كانت معقل الرماة العرب قبل المذبحة والتي راح فيها أكثر من ثلثي سكان لوتشيرا ما بين القتل والسبي والبيع في أسواق العبيد في نابولي، لكن البعض من أثرياء المدينة استطاعوا أن يحصلوا لأنفسهم على عفو أو استطاعوا أن يشتروا حياتهم بما لهم من نفوذ وثراء جعلهم ينجون من المذبحة واستطاعوا أن ينتقلوا لأماكن متفرقة أقربهم في سان باولو فيتالي وقصتهم تحتاج إلى تحقيق وبحث كبير، أما من تنصر نجاة بحياته فنالهم نفس المصير بعد ذلك بسنوات، والحكمة التي استخلصتها من هذه القصة أن المسأله لم تكن دينية بل كان المال خلفها فمن كان ثريا نجا ومن كان فقيرا ذبح أو بيع في سوق العبيد حتى من تنصر.
لو تخيل الآباء المؤسسون أن تلك هي نهاية أبنائهم هل كانوا قبلوا بالاتفاق القديم مع فريدريك الثاني على ترك صقلية في مقابل لوتشيرا؟
لا أعلم ولكن مشاهد المذبحة وما سبقها من مناوشات قاومها أهل لوتشيرا ماثلة أمامي طيلة الوقت، ولا أشك أن الكثير من الكنوز التي أخفاها أهل لوتشيرا المحاصرون ستخرج يوما ما لتحكي القصة بتفاصيل أكثر عن كيف عاشوا وكيف تأقلموا وسط المحيط الإيطالي المسيحي المتصارع خاصة في منطقة الوسط والجنوب الإيطالي.

صعدنا إلى البرج وحاولنا أن نسترجع سويا بعضا مما تعلمناه في الجامعة وذكرياتها حول علم الآثار حيث أن الأستاذ جورج خريج كلية الآثار جامعة القاهرة وأنا خريج كلية الآداب قسم الآثار المصرية والإسلامية جامعة الإسكندرية، وبالتالي غلب التخصص علي زيارتنا التي حاولنا فيها أن نستكشف المزيد من أسرار القلعة لكن بعض المناطق كانت خطرة واتخذنا حذرنا في بعثتنا الاستكشافية الخاطفة.
في الحقيقة هنا في الجنوب الإيطالي عشرات القصص التي أعرفها عن العرب والمسلمين في الأرض الطويلة أو الكبيرة كما كان ينعتها المدونون العرب الأوائل، وغيرها آلاف من القصص تنتظر الكشف عنها وعن المغامرات التي خاضها من جاء إلى هنا أملا في فتح أو انتصار أو إمارة وما أكثرهم، أما مغامرتي مع الصديق أستاذ جورج لم تنتهي هنا وإنما بدأت لأننا سنتقابل حتما من جديد لزيارة مكان جديد سنكتب لكم عنه وسنمدكم بصور له مثل ما سأفعل هنا حيث سأضم إلى المقالة عددا من الصور التي قد تعطي فكرة عن المكان والقصة.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد