محاولة في قراءة كتاب: كاملات عقل ودين … بقلم: محمد يادم
بقلم: محمد يادم
باحث في تاريخ العصور الوسطى، مترجم، ومحاضر في اللغات القديمة (اللاتينية واليونانية القديمة).

محاولة في قراءة كتاب: كاملات عقل ودين1

تتناقل الأمثال الشّعبيّة من فم لفم ومن مكانٍ لآخر، متطايرة في دخان الزمن، حتى تبلغ هدفها المنشود: الأجيال المتتالية، ومن ضمن هذه الأمثال: “الممنوع دائمًا مرغوب” وهذا ربّما في نفسي هو الدّافع الأساسي لقراءة هذا الكتاب مبكّرًا بعد صدوره بأيّام قلائل، أعقبها منعه من التداول. إلى جانب ذلك تأتي روح الاستكشاف وعزيمة الباحث، وإن كنت أكاديميًّا أبعد بكثير عن علم الكلام والدّراسات القرآنية، ولكن هو حب العلم والشّغف دومًا للمعرفة. في هذه المقالة أحاول جاهدًا الخروج بقراءة أتمنى منها بيان الكتاب، الّذي حصد الرّفض في أول أيّامه، لكنّه في الحقيقة، وإن تمّ منعه، لاقى رواجًا بشكلٍ أو بآخر.
في فترة مُبكرّة من عام 2024م حضرت دورة تدريبيّة بمعهد الدّومينيكان للدّراسات الشّرقيّة تحت عنوان: “الأديان والعلوم الإنسانية”. حاضر فيها أساتذة متخصّصُون في مجال الحضارة الإسلاميّة وتحديدًا كان اهتمامهم الأكبر: علم الكلام. بالنّسبة لي أرى المؤلّفة هي أحد المهتمين بذلك الحبل الممتد في التخصُّصات الأكاديمية. من هنا كان اهتمامي بقراءة مؤلَّفِها والكتابة عنه بعد ذلك. لأنّه ببساطة شديدة، وكما تقول المؤلفة في ص 63: “فإذا كان هذا الخوف وهذا الاعتقاد، تقصد الخوف من تنقية الأحاديث من الموضوع منها، له تبريره قديمًا حيث صعوبة البحث والدراسة، فالآن لا تبرير له؛ لأن العقول نضجت، والمعرفة اتضحت، والمعلومات توافرت بصورة غير مسبوقة، فمن الممكن تنقية الصّالح من الطالح دون إصدار أحكام كلية غير حقيقية.”.
يستعرض الكتاب بالتتبع والتحليل والنقد بأسلوب علمي ولغة سهلة فكرة تتبع الأحاديث الّتي من شأنها التصغير والتقليل من شأن المرأة في المجتمع: الّتي هي نصفه. ونحن الآن في هذا الزمان نشاهد بأعيننا في الشوارع ربّما أو في الـ Social Media، ما يسمّى: عُنفًا ضد المرأة، أو كما يُطلق عليه كل منّا على حسب مصطلحاته الّتي ترتضيها ذائقته اللّغويّة أو حتى حياؤه العام. كان سببه الأساسي في وجهة نظر المؤلّفة هو ذلك الفهم المغلوط لأحاديث يعتبرها الجميع صحيحة لأنّها ذُكرت في كتب الحديث الثقات، ولكنّها بالمنطق البسيط وبإعمال العقل ترى: أنّ النبي (ﷺ) ما كان ليقول شيئًا كهذا. إذًا ولابد لي أن أُضيف شيئين: أوّلهما أنّ كل الأحاديث الصحيحة التي وردت في كتب أئمة الحديث الثقات، هي صحيحة بالنّسبة للشروط الّتي وضعوها، فمثلًا صحيح البخاري: هو صحيح بالنّسبة للشروط الّتي وضعها البخاري نفسه. ثانيًا: إن كُنّا نخشى التجديد! فلابد وأن نعلم أن القدماء أنفسهم، وهي تطلق عليهم في كتابها لفظ الأوائل والآباء، كانوا مُجدّدين بالفطرة.
لذلك: لم المنع؟ فنحن الآن في قرية صغيرة، مُنع الكتاب ورقيًّا فانتشر إليكترونيًّا بصورة أوسع.
في بيان طريقة العمل ابتدأت الكاتبة ببيان معاني بعض الكلمات مثل: السّند، وهي كلمة السرّ الّتي إليها يحتكم المتخصصون في جمع الأحاديث النّبوية، ثم معنى المتن، إلى جانب سردها لأسماء مجموعة المصادر التي اعتمدت عليها بشكل أساسي. هنا يستطيع القاريء بناء رؤية واضحة عن المؤلّفة، وأنّها لا تسير عشوائيًّا. ثم بخطوات ثابتة رصينة بدأت توضّح عملية جمع القرآن والحديث.
ابتدأت بالقرآن ومراحل الجمع في حياة النّبي المُختار (ﷺ) وكيف كانت ماهية تلك العملية: وسنجدها ببساطة شديدة مجموعة في شيئين: إما الحفظ في الصّدور، أو الكتابة بطريقة بدائية على حسب المورد المتاح: السعف، أو القطع الجلدية، أو حتى العظام. ولما كانت فترة الخلافة الرّاشدة وجميعنا نعلم أنّ حروب الردّة في تلك الفترة لعبت دورًا هامًّا في التفكير جدّيًا في عملية جمع القرآن في صحائف، في مهمة تولّى القيام بها عبد الله بن الزّبير. ولما جاءت خلافة عمر استخار الله ورفض أن يقوم بجمع الأحاديث النّبوية مخافة أن ينصرف النّاس به عن القرآن. وفي ذلك يقول محمد رشيد رضا: إنّ الصحابة لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث دينًا عامًا كالقرآن، ولو فهموا عن النبي (ﷺ) أنّه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة ولجمع الراشدون ما كُتب، وضبطوا ما وثقوا به، وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به.
إلى هنا يأتي بيان ما قلته سابقًا أن القدماء كانوا مجددين أنفسهم: حيث لم يبدأ تجميع الحديث سوى في عهد بنو أميّة متقلّبًا بين مراحل: هي مرحلة الجمع في أواخر عهد الأمويّين، ثم مرحلة أكثر تطوّرَا في عهد العباسيّين كان فيها الجمع مخلوطًا بأقوال الصحابة والتّابعين. ثم تأتي مرحلة أخرى متقدّمة بأسلوب أكثر تجديدًا ظهرت معها الأحاديث النبوية فقط، ومنها مسند الإمام أحمد. ثم في النهاية تأتي فترة ظهرت كتب الصحاح الستّة، البخاري ومسلم وابن ماجه وأبي داوود والترمذي والنسائي، معتمدين على منهج أكثر تقدُّمًا من سابقيه وضعه البخاري وسار عليه من بعده؛ يمكننا وضع تسمية لتلك الفترة هي مرحلة التنقيح والاختيار.
فيمكن هنا ملاحظة الفروق بين جمع القرآن الكريم الّذي تم منذ أول يوم من بدء نزول الوحي على النبي (ﷺ) حتى أنّه لما حدثت المغالطات والاختلافات في عهد عثمان كان هناك نسخة واضحة يحتكم إليها الجميع، بينما الحديث نرى تقلبه بين منع رسمي ثم توجهات، ربما فردية، سقطت مع زوال حكّام وتم إحياؤها بمجيء آخرين. مرورًا بمشكلات كبرى أرّقت جنبات العالم الإسلامي كالفتنة في عهد عثمان ثم التحكيم بين علي ومعاوية، واختار المؤرخون سنة 40 هـ، بصفتها الحد الفاصل بين صفاء السنّة وخلُوصها من الكذب والوضع.
في الفصلين التالين تراقب الباحثة عن كثب أسباب وضع الأحاديث، أو ما يمكن صياغته بشكل أوضح: ما الذي يدفع أشخاصا للكذب على لسان النبي (ﷺ)؟ وقد قسّمت الكاتبة الأسباب لقسمين: متعمد وغير متعمد. من ضمن الأسباب المتعمدة التي تناولتها المؤلفة بالبحث والشرح: تشويه الإسلام، أو الأغراض السياسية والعسكرية، أو محاولة تجميع الأهالي حول الرّاوي طلبًا لبعض الأغراض الدنيوية، أو حتّى الترغيب والتّرهيب. ومن ضمن الأسباب غير المتعمّدة: وقوع الوهم والخطأ، أو الدسّ في كتاب الرّاوي وهو لا يعلم. حتّى أنّهت حديثها بمصادر تلك الأحاديث الموضوعة: إما من الإسرائيليات، أو الخرافات والأوهام، أو حتّى أقوال الصحابة والتابعين التي يتم نسبتها للنبي (ﷺ)، إلى جانب أقوال الأطبّاء والفلاسفة والزّهاد، أو حتى المصدر الذّاتي. لذلك كان لابد من العمل على قراءة الحديث مرة أخرى في محاولة لتتبع السند بمنهجية علمية بما توافر في زماننا من إمكانيات واضحة متطورة تعيننا على تنقيتها من كل ما هو طالح يسيء إليها.
ثم استدركت في الباب الثالث عملية شرح صحة السند والمتن والأمثلة التي تحقق تلك الشروط. إلى جانب ذلك في الباب الرابع وانطلاقًا من الجملة المطّاطية: “صحيح البخاري أصحّ كتاب بعد كتاب الله” بدأت في تفنيد بعض الأسماء التي عملت على القيام بنقد بعض متون أحاديث وردت به.
منهم على سبيل الإجمال لا الحصر: أبو بكر الإسماعيلي المتوفى 371هــ وما ذكره عنه ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري الجزء الخامس من خلال عرض ابن حجر لرأي الإسماعيلي في حديث أبي هريرة عن لقاء إبراهيم عليه السلام بأبيه يوم القيامة، فقال فيه الإسماعيلي بعد أن أخرجه: ” هذا خبر في صحته نظر، من جهة أن إبراهيم علم أن الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما صار لأبيه خزيا مع علمه بذلك.” إلى جانب الإسماعيلي فهناك الدّارقطني: والّذي أفرد ثلاث مصنفات لانتقاد صحيح البخاري، هي: التتبع، وبيان أحاديث أودعها البخاري رحمه الله كتابه الصحيح، وأخيرًا انتقادات متفرقة في كتابه: “العلل الواردة في الأحاديث النبوية” وعدد الأحاديث التي أعلَّها الدارقطني في الصحيحين على ما أحصاه الحافظ ابن حجر يبلغ مائتي حديث وعشرة، المتفق عليه منها اثنان وثلاثون، وانفرد البخاري بثمانية وسبعين، ومسلم بمائة. ومجموعة من المحدثين المهتمين بالتجديد في التراث منهم: الإمام محمد عبده، وتلميذه من بعده محمد رشيد رضا، وأيضًا الإمام الغزالي.
بعد قراءة هذا الباب يكون أمام القارئ فكرة أوضح، كما أشرت سابقًا في بداية حديثي: صحيح البخاري هو صحيح بالنسبة للشروط التي وضعها البخاري؛ أي لا يمكن إنزاله منزلة التقديس للقرآن الكريم، من هنا يمكن العمل على إكمال ما بدأوه مسبقًا، فإن كانوا انصب جهدهم على تحقيق السند؛ فمن باب أولى الآن أن نعمل على تحقيق المتن. ليس لإبداء التقصير وإظهارهم بمظهر يسيء لهم، بل هو من باب الشكر لهم وإكمال جهودهم المبذولة لخدمة هذا الدين ورفعته، فمثلًا إن نظرنا لعدد الأحاديث التي جمعها البخاري فتجدها فوق الـ 4000 حديث، إن خرج منها 80 حديثًا يخالف متنهم القرآن أو الواقع أو حتّى الحدث التاريخي الثابت أو وقع تحت طائلة الوهم والغلط؛ فلا بأس بل هي نسبة ضئيلة توضح مدى الكفاءة التي عليها البخاري ليصل إلى حد من الكمال.
من خلال ما سبق قامت الكاتبة بإخضاع عدة أحاديث من باب: “ناقصات عقل ودين” وحديث “إن المرأة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان” وحديث “ولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدّهر” وحديث “المرأة خُلقت من ضلع أعوج” وحديث “فإنما هن عوان عندكم” وحديث “لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة” .. أخضعت متن تلك الأحاديث إلى ثلاثة قواعد: الأولى، أن لا يكون مخالفا لما جاء به القرآن. الثانية: أن لا يكون مخالفًا لما تواتر فعله عن النبي ﷺ. والثالثة، أن لا يكون مخالفا للواقع. في النهاية لن أستعرض هذا الجزء من الكتاب لأنه سيحتاج إلى نقل النص كاملًا، لذا سأكتفي بالإشارة فقط إلى بعض الأحاديث. وسأكتفي هنا بنقل الفقرة الأخيرة التي ذيلت بها الكاتبة نصها:
“إن الله تعالى في قرآنه قد كرم المرأة أيما تكريم، لكن أصحاب الخطاب الديني الذين يأخذون أحكامهم ودينهم من هذه الأقوال المكذوبة، لا يستخدمون آيات القرآن الكريم للتأكيد على مكانة المرأة، لكنهم لا ينفكون يستخدمون هذه الأقوال على أنها الدين وفقط، فيقع الناس في حيرة شديدة، ويعطلون عقولهم، لأنهم بعقولهم ما يسمعونه من أحاديث هي عنصرية بغيضة ضد المرأة، بينما عند المشايخ هي تكريم، ويجب أن يصدقوا هذا التناقض، هذا يحدث لكل مسلم منذ الصغر، فيتربى على عدم إعمال عقله، ويفقد القدرة على النقد، وعلى البحث والتقصي، والنتيجة أن الهوة التي بيننا وبين العالم المتقدم أصبحت تُحسب بالسنوات الضوئية”.
وسأختم حديثي عن الكتاب بما قاله رشيد رضا ذات يوم حينما همّ بعض الشيوخ بتكفيره بعدما نقد حديث الذبابة إذا وقعت في إناء أحدكم، حديث غريب عن الرأي والتشريع، فمن قواعد الشرع العامة أن كل ضار قطعًا فهو محرم قطعًا، وكل ضار ظنًا فهو مكروه كراهة تحريمية أو تنزيهية على الأقل. هنا قال عنه رشيد رضا:
“ذلك المسلم الغيور لم يطعن في صحة هذا الحديث إلا لعلمه بأن تصحيحه من المطاعن التي تنفر الناس من الإسلام، وتكون سببًا لردة بعض ضعفاء الإيمان، وقليلي العلم الذين لا يجدون مخرجًا من مثل هذا المطعن، إلا بأن فيه علة في المتن تمنع صحته، وما كلف الله مسلمًا أن يقرأ صحيح البخاري، ويؤمن بكل ما فيه، وإن لم يصح عنده.”
- أسماء عثمان الشرقاوي: كاملات عقل ودين، ط1، دار السراج للنشر والتوزيع، القاهرة، 2025م. ↩︎
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد