محمد أبو زيد الدمنهوري: قراءة جديدة في منهج تفسير القرآن بالقرآن ج١ .. بقلم: حسام الحداد

بقلم: حسام الحداد

d8add8b3d8a7d985-d8a7d984d8add8afd8a7d8af محمد أبو زيد الدمنهوري: قراءة جديدة في منهج تفسير القرآن بالقرآن ج١ .. بقلم: حسام الحداد

البداية

كان محمد أبو زيد شيخًا مغمورًا من دمنهور، تلقى تعليمه الديني في المدارس المحلية وفي الأزهر، ثم وجد عملًا كواعظ في مسجد في مسقط رأسه. كما عمل كمُحاضر شعبي في القضايا الإسلامية، ويبدو أنه نشر العديد من الكتب حول الشئون الإسلامية في عشرينيات القرن العشرين، وكتبها وفقًا للتقاليد الأرثوذكسية الصارمة.

في ديسمبر 1930 نشر تفسيرًا للقرآن، مما جعله عرضة لغضب المؤسسة الدينية. وقد تم قمع الكتاب، الذي حمل عنوان “الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن”، بعد فترة وجيزة من نشره، ويبدو أنه لم تبق منه أي نسخ، لكن المناقشة التفصيلية لنص الكتاب من قبل أحد العلماء المعاصرين، الذي كان على اطلاع على نصه، تلُقي الكثير من الضوء على نهج المؤلف وأسباب الضجة التي أحدثها.

لقد استخدم أبو زيد معايير عقلانية في تفسير المعجزات الموصوفة في القرآن، رافضًا أي تفسير يتعارض مع العقل البشري. ولنأخذ على سبيل المثال، رفض أبو زيد فكرة رحلة النبي السماوية عبر القدس، مدعيًا أن الترجمة القرآنية تشير في الواقع إلى هجرته من مكة إلى المدينة؛ وبالتالي فإن “المسجد الأقصى” لا علاقة له بالقدس، ولكنه في الواقع مسجد المدينة.

1000026712 محمد أبو زيد الدمنهوري: قراءة جديدة في منهج تفسير القرآن بالقرآن ج١ .. بقلم: حسام الحداد

المِحنة

لاحظ شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري بعد وقت قصير من ظهور الكتاب بعض شيوخ مؤسسته الشباب يوزعونه على الطلاب، فطلب فحص النص، وصدمه ما فيه. فاتخذ على الفور خطوات لحظره. وُأعيد تعيين الشيوخ الذين وزعوه في مناصب بعيدة مثل أسيوط، وصادرت الشرطة كل نسخة من الكتاب. وقامت لجنة من خمسة من كبار علماء الأزهر بتقييم الكتاب، وقدمت تقريراً مطولًا من 75 صفحة، نُشر أيضاً في مجلة الأزهر.

ناقشت اللجنة العديد من دلالات أبي زيد وأباطيله، والتي “لا يمكن أن تصدر عن عقل فيه ذرة من نور”. وقد أثبت هذا التحريف للرواية القرآنية أن المؤلف كان ضالًا وكاذبًا، والأسوأ من ذلك أن عمله لم يكن أقل من إلحاد في الدين وهروب من الإسلام. ولم تسع اللجنة إلى معاقبة أبي زيد على “بدعته”، حيث ذكرت أن “أمثاله مكلفون [ بالحكم ] أمام ربهم”، لكن صدر أمر قضائي يمنعه من الخطابة في المساجد وعقد الاجتماعات الدينية.

لم يضع ذلك نهاية لمحنة محمد أبي زيد، فقد شن محمد رشيد رضا، وهو بطل آخر من أبطال العقيدة، هجومًا علنيًا ضده، بعد أن خاب أمله في تقرير الأزهر “المعتدل”. وخصص رضا، المتحدث الفصيح باسم السلفية، أربع مقالات غاضبة في مجلته المنار (بين يونيو وأكتوبر 1931) لدحض تعليق أبي زيد واتهامه بالردة. ولزيادة التأثير العام لهجومه، أرسل مقالاته أيضًا إلى صحيفة الأهرام اليومية الشهيرة. وكشف رضا أن ما كان أبو زيد يسعى إليه لم يكن سوى مكسب سياسي، فباعتباره مؤيدًا لحزب الوفد، سعى إلى نزع الشرعية عن الحكومة، التي كان يرأسها آنذاك إسماعيل صدقي. ولتحقيق هذه الغاية، نشر كتابًا مليئًا بالكفر والإلحاد، يحوي أسوأ التفاسير المنحرفة التي كتبت على الإطلاق للقرآن. واتهم رضا كل من عبر عن مثل هذه الآراء بأنه مرتد، ولا ينبغي السماح له بالبقاء متزوجًا من زوجته المسلمة، أو توريث ممتلكاته للمسلمين أو أن يرث منهم.

لم يكن الهجوم على أبي زيد لفظيًا فحسب، بل إن مجموعة من شيوخ الدين الأصوليين في دمنهور رددوا دعوى ردته، وأخذوه إلى محكمة محلية، التي حكمت بتفريقه عن زوجته. ثم نقل أبو زيد قضيته إلى محكمة استئناف القاهرة، التي حكمت لصالحه. وبعد ذلك لم نسمع عن محمد أبي زيد، وغرق هو وقصته في طيات النسيان.

مقدمة الهداية والعرفان

يقول أبو زيد في مقدمة الكتاب: “ولقد كان من فضل الله بعثْ الرُسل لكل الأمم، فإذا مات رسول ونسي الناس تعاليمه أو خللوها بالخرافات والبدع، جاء رسولٌ آخر يجدد لهم الدين، ويُصدّق من سبقه من الأنبياء والمرسلين، «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» (النحل: 36) ثم اقرأ الأعراف. فالدين في الأصل واحد، وهو دين الله، ولو أنصف الناس وتركوا التعصب للتقليد لرجعوا كلهم إلى ذلك الدين، ولعلموا أن دين الله لا يتضارب ولا يتناقض.”

تعكس هذه الفقرة رؤية الشيخ محمد أبي زيد الدمنهوري حول وحدة الرسالات السماوية، حيث يؤكد أن جوهر الدين واحد في أصله، إذ جاء جميع الأنبياء برسالة التوحيد، داعين إلى عبادة الله ونبذ الطاغوت. هذه الفكرة تتماشى مع المفهوم القرآني لوحدة الوحي، حيث يربط النص بين بعث الرسل إلى الأمم المختلفة لتجديد الدين كلما أصابه التحريف، كما يظهر في الآية المذكورة من سورة النحل. إن هذا النهج يعكس بُعدًا تجديديًا في فهم النصوص الدينية، إذ يُشجع على العودة إلى أصول الدين بعيدًا عن الخرافات والبدع التي تراكمت بمرور الزمن، ما يجعل الدين أكثر نقاءً ووضوحًا.

تكمن أهمية هذا المنهج في الدعوة إلى تجاوز العصبيات المذهبية والانغلاق الفكري، الذي يمكن أن يحجب حقيقة الرسالة الإلهية. فالتمسك بالتقليد الأعمى دون تمحيص، قد يؤدي إلى تحريف المقاصد الأصلية للدين، مما يعزز الفرقة بين الناس بدلًا من توحيدهم على المبادئ الأساسية المشتركة. وعليه، فإن هذا الطرح يعزز مبدأ الاجتهاد والتجديد، داعيًا إلى قراءة النصوص الدينية بروح منفتحة تتجاوز الأُطر التقليدية الجامدة، وهو ما يجعل الدين قادرًا على مواكبة التغيرات المجتمعية والاستجابة لتحديات الزمن.

القرآن يصدِّق الكتب

كما يقول أبو زيد: “ولما كان القرآن آخر الكتب الإلهية، كان واجبًا على الناس أن يرجعوا إليه لمعرفة حقيقة الدين. والقرآن هو الذي حُفِظَ بما لم يُحفَظ به غيره، لأن الله يريد أن يجعله دائمًا، وقد كانت الكتب السابقة في زمن أممٍ لم تنضج النضج الكامل، فكان التشريع على قدر عقولها وأحوالها الاجتماعية. حتى إذا نضجت الأمم وتم استعدادها جاءها القرآن بالتشريع الكامل، فهذه هي الحكمة في حفظ القرآن وبقائه من غير نَسخٍ ولا تبديل. وإنه فوق تشريعه الاجتماعي الكامل، جاء بأصول الكتب السابقة كلها، فهو مصدّق لها وداعٍ إليها، والذين يؤمنون بها يؤمنون به. (اقرأ الأحقاف).”

يُقدِّم الشيخ محمد أبو زيد الدمنهوري في هذه الفقرة تصورًا محوريًا حول مكانة القرآن الكريم ضمن سلسلة الوحي الإلهي، حيث يجادل بأن القرآن ليس مجرد كتاب ديني جديد، بل هو الامتداد النهائي والمُصدّق للكتب السماوية السابقة، مما يعزز وحدة الرسالة الإلهية عبر التاريخ. هذا الطرح يتماشى مع آيات عديدة في القرآن، مثل قوله تعالى: “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ” (المائدة: 48)، حيث يُبرز القرآن دوره في التحقق من صحة التعاليم السابقة وتصحيح ما لحق بها من تحريف. ومن منظور تحليل الخطاب، نرى أن الدمنهوري يطرح رؤية وظيفية للقرآن، لا بوصفه نصًا منعزلًا، بل كنقطة ارتكاز ضمن سياق تطور الشرائع الإلهية.

يركز الخطاب أيضًا على مسألة حفظ القرآن كدليل على كونه الرسالة النهائية، حيث يلفت النظر إلى أن الكتب السابقة لم تحظَ بنفس مستوى الحفظ الإلهي، مما أدى إلى تعرضها للتحريف أو الاندثار. هنا يعتمد الدمنهوري على فرضية أن المجتمعات السابقة لم تكن ناضجة بالكامل، مما استدعى تشريعات مؤقتة تتناسب مع احتياجاتها في تلك الحقب الزمنية. هذه الرؤية تطرح بُعدًا تاريخيًا لتطور التشريع الديني، حيث يقدم القرآن كـنصٍ ختامي محفوظ، لأنه موجّه لأمة بلغت مرحلة من النضج الفكري والاجتماعي تجعلها قادرة على استيعاب الشريعة في صورتها الكاملة والدائمة. من منظور تحليل الخطاب، نجد أن المؤلف يوظف استراتيجية التفسير العقلي لربط الفكرة الدينية بمفهوم التطور الاجتماعي، مما يجعل طرحه أكثر انسجامًا مع المفاهيم الحديثة حول تطور المجتمعات.

كما يُبرز النص دور القرآن في تقديم تشريع اجتماعي شامل، حيث يشير إلى أنه جاء بعد اكتمال نضج البشرية ليضع تشريعًا لا يحتاج إلى تعديل أو نسخ، في مقابل الشرائع السابقة التي كانت مؤقتة ومحدودة بزمنها. هذا التصور يعكس رؤية إصلاحية للنص القرآني، حيث يضعه في موقع السلطة العليا التي تحتكم إليها المجتمعات في مختلف العصور. من منظور تحليل الخطاب، يمكن القول إن الدمنهوري يوظف الأسلوب الحجاجي القائم على المقارنة بين الشرائع السابقة والقرآن ليصل إلى نتيجة مفادها أن القرآن هو المرجعية النهائية، وهذا يعكس نزعة تأصيلية، تحاول إعادة تأسيس التصورات الدينية على منهج أكثر استنادًا إلى النصوص الأصلية.

أخيرًا، يقدم النص تصورًا شموليًا للقرآن، حيث لا يقتصر على كونه مجرد مصدر تشريعي، بل يُجمِل في طياته أصول الكتب السابقة ويدعو إليها، مما يعزز فكرته حول وحدة الدين الإلهي.

الإشارة إلى أن الذين يؤمنون بالكتب السابقة يجب أن يؤمنوا بالقرآن تستند إلى مفهوم قرآني أصيل، حيث يذكر القرآن في أكثر من موضع أن الإيمان به جزء من الإيمان بالوحي الإلهي عمومًا، كما في قوله: “قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ” (البقرة: 136). تحليل الخطاب هنا يكشف عن نزعة توفيقية لدى الدمنهوري، حيث يسعى إلى إزالة التناقضات بين الأديان السماوية من خلال إبراز مركزية القرآن كجامع لمبادئها جميعًا، وهو طرح يمكن اعتباره دعوة إلى إعادة فهم العلاقة بين النصوص الدينية بشكل أكثر انسجامًا مع فكرة وحدة الرسالات.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات