محمد أبو زيد الدمنهوري: قراءة جديدة في منهج تفسير القرآن بالقرآن ج٢ .. بقلم: حسام الحداد
في الجزء الثاني من قراءته لكتاب”الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن”، يواصل أ. حسام الحداد عرضه لرؤية الشيخ محمد أبي زيد الدمنهوري الفريدة في تفسير القرآن.
بقلم: حسام الحداد

حالة المسلمين
يقول أبو زيد في مقدمته: “ربما يعترض بعض الناس ويقول: إذا كان القرآن قد جاء بأصول الاجتماع الكاملة، فلماذا نرى المسلمين على حالتهم هذه المتأخرة؟ فالجواب: أن هؤلاء المسلمين قد بعدوا عن القرآن ولم يعملوا به، ففريق منهم لم يفكر فيه واكتفى منه بالانتساب إليه، والفريق الآخر- الذي يظن أنه متمسك به- بعد عنه من جهة الخطأ في التعاليم.”
يطرح هنا الشيخ محمد أبو زيد الدمنهوري إشكالية تأخر المسلمين بالرغم من امتلاكهم للقرآن، وهو تساؤل متكرر في الفكر الإسلامي الحديث. لكنه يعالج هذا التساؤل من منظور نقدي، حيث يُرجع الأزمة إلى الانفصال عن القرآن، وليس إلى النص نفسه. وفقًا لمنهج تحليل الخطاب، نلاحظ أن المؤلف يستخدم أسلوب التفنيد، إذ يطرح اعتراضًا متوقعًا ثم يقوم بالرد عليه، مما يعزز قوة حجته. كما أنه يوظف تقنية التقابل الثنائي بين ما هو مفترض (اكتمال التشريع الإسلامي) وما هو واقع (تخلف المسلمين)، ليصل إلى استنتاج مفاده أن المشكلة تكمن في سوء التطبيق لا في النص ذاته. هذه البنية الحجاجية تعكس نزعة إصلاحية تسعى إلى إعادة توجيه المسلمين نحو القرآن باعتباره مصدر النهضة.
ثم يقوم الدمنهوري بتقسيم المسلمين إلى فئتين، الأولى تكتفي بالانتساب الشكلي للقرآن دون التفاعل الحقيقي معه، وهي إشارة إلى ظاهرة “التدين الهوياتي”، حيث يصبح القرآن جزءًا من الانتماء الثقافي بدلاً من كونه مرجعية عملية. أما الفئة الثانية، فهي التي تعتقد أنها متمسكة به، لكنها أخطأت في فهم تعاليمه، مما يشير إلى ظاهرة أخرى، وهي الانحراف في تفسير النصوص. هذا التصنيف يعكس استراتيجية تحليلية تُبرز أن المشكلة ليست في الابتعاد فقط، بل أيضًا في سوء التأويل، مما يجعل الأزمة مضاعفة.
من منظور تحليل الخطاب، نرى أن الدمنهوري لا يلقي باللوم على القرآن أو حتى على “الآخر”، بل يُحمّل المسؤولية للمسلمين أنفسهم، مما يعكس رؤية داخلية نقدية تسعى إلى الإصلاح من داخل المنظومة الإسلامية.
أخيرًا، يمكننا ملاحظة أن الدمنهوري يتبنى خطابًا تجديديًا يركز على العودة الواعية للنصوص الدينية، بعيدًا عن التقليد الأعمى أو القراءة المشوهة. هذه الرؤية تتقاطع مع دعوات الإصلاح الديني التي ظهرت في القرنين الأخيرين، والتي شددت على أهمية إعادة تفسير القرآن وفقًا لمنطق العصر مع الحفاظ على روحه الأصلية. من خلال تحليل خطابه، نلاحظ أنه لا يدعو إلى مجرد العودة الشكلية للقرآن، بل إلى إعادة قراءته وفق منهج صحيح، وهو ما يعكس مشروعًا إصلاحيًا عميقًا يسعى إلى تجاوز العقبات الفكرية والثقافية التي تحول دون نهضة المسلمين.
التفاسير
وعن التفاسير يقول: “وقد بلغ الدس والحشو في التفاسير، أنك لا تجد أصلًا من أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة لهدمه وتبديله.والمفسرون قد وضعوا هذا في كتبهم من حيث لا يشعرون، وقد جعلوا الاصطلاحات والمذاهب الفقهية والكلامية أصولًا حكّموها في القرآن، وأنزلوه عليها حتى صار ميدانًا للجدل، وأصبح غير صالح للحياة بما حمّلوه من أثقال، وبما وضعوا فيه من الجمود والعراقيل، ووسائل التفريق والشقاق. فهدايته فُقِدَت بالمجادلات في الألفاظ والمذاهب، ومعانيه ومقاصده ضاعت بالروايات الناسخة والتفسيرات المتحجرة العقيمة.”
يُوجِّه الشيخ محمد أبو زيد الدمنهوري نقدًا لاذعًا للتفاسير التقليدية، معتبرًا أنها ابتعدت عن جوْهر القرآن بفعل الدسّ والحشو، مما أدى إلى طمس معانيه الأصلية خلف تراكم من الروايات الموضوعة والتفسيرات المتحيزة.
من منظور تحليل الخطاب، نلاحظ أن الدمنهوري يستخدم الأسلوب التقريري الحاسم، حيث يصيغ ادعاءاته بصيغة يقينية، مثل قوله: “لم يخل تفسير من هذا”. هذا النمط من الخطاب يعكس توجهًا إصلاحيًا جذريًا يهدف إلى زعزعة المسلمات الراسخة حول منهجية التفسير التقليدي. كما أن استخدامه لكلمات مثل “الجمود”، “العراقيل”، “التفريق والشقاق” يعكس خطابًا احتجاجيًا يربط بين الجمود الفقهي والتشرذم داخل الأمة الإسلامية، مما يجعل نقده للتفسير التقليدي جزءًا من نقد أوسع للحالة الفكرية والاجتماعية للمسلمين.
كما يُبرز الدمنهوري جانبًا آخر من الإشكال، وهو تأثير الاصطلاحات الفقهية والمذهبية على تفسير القرآن، حيث يرى أن المفسرين تعاملوا مع القرآن من خلال مناهجهم الفقهية والكلامية، لا من خلال مقاصده الأصلية.
هنا يعتمد الدمنهوري على تحليل تاريخي لغوي، مشيرًا إلى أن التحريف لم يكن في النص ذاته، بل في طريقة فهمه، بسبب التقليد والتأثر بكتب اللغة التي قيدت معاني الألفاظ. هذه الرؤية تنسجم مع مدارس التفسير الحديثة التي تدعو إلى إعادة قراءة القرآن من داخله، دون إسقاط المذاهب عليه.

خطاب الدمنهوري هنا يعكس نزعة تفكيكية، إذ يسعى إلى تفكيك البناء التفسيري التقليدي للكشف عن تأثيرات غير قرآنية أدت إلى تقييد دلالات النص، مما يجعله صوتًا مبكرًا في تيار التجديد التفسيري القائم على إعادة الاعتبار للنص القرآني بمعزل عن التأويلات المتوارثة.
تفسيري وطريقتي فيه
ويقول عن تفسيره: “فهذا كله دعاني إلى تفسيري، وأن تكون طريقتي فيه كشف معنى الآية وألفاظها، بما ورد في موضوعها من الآيات والسور، فيكون من ذلك العلم بكل مواضيع القرآن، ويكون القرآن هو الذي يُفسّر نفسه كما أخبر الله، ولا يحتاج إلى شيء من الخارج غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع. وقد اخترت أن يكون على عدد الآيات في المصحف لتبقى الهداية بالترتيب الذي اختاره الله، وليمكِّن الباحث عن معنى الآية أن يلاحظ سياقها، فيقرأ ما سبقها وما لحقها من الآيات، ليكون على عِلمٍ تام وهداية واعظة. بهذه الطريقة في التفسير لا تجد شيئًا يشغلك عن القرآن، وإنما تنتقل منه إليه لتجمع مواضيعه، وتوفق بين آياته، فيكون كل تفكيرك وتدبرك محصورًا فيه، فتعظم بمعلوماته، وتهتدي بهداه..وإن آراء المفسرين تابعة للبيئة والظروف المحيطة بهم، وهذه تتغير وتتجدد، فالجمود على آراء فاتها الزمان مؤخرة للأمّة، وجعل القرآن مقيدًا بهذه الآراء ضارٌ به، لأن ذلك يجعله غير صالح لكل وقت فيضيق سعته.”
يؤسِس الشيخ محمد أبو زيد الدمنهوري في هذا الجزء منهجه التفسيري، الذي يقوم على تفسير القرآن بالقرآن، رافضًا أي اعتماد على مصادر خارجية إلا بقدر ما يوضحه الواقع وسنن الله في الكون. هذا الطرح يعكس نزعة نصّية صارمة، حيث يُعيد الاعتبار للنص القرآني باعتباره المرجع الأساسي لتفسير نفسه، دون الحاجة إلى الروايات أو الاجتهادات الفقهية التقليدية. من منظور تحليل الخطاب، نلاحظ أن الدمنهوري يوظف استراتيجية التأكيد والتقرير، حيث يقدّم منهجه كحقيقة موضوعية، مستخدمًا تعبيرات مثل “ليكون القرآن هو الذي يُفسّر نفسه كما أخبر الله”، مما يعزز الطابع الحتمي لرؤيته. كما يعتمد على التأطير المفاهيمي، حيث يضع تفسيره في إطار شمولي يجمع بين النص والواقع، وهو ما يمنح مشروعه بُعدًا تجديديًا يجمع بين التفسير اللغوي والاجتماعي.
يُبرز الدمنهوري أيضًا أهمية ترتيب الآيات في المصحف، معتبرًا أن التفسير يجب أن يحافظ على هذا النسق لضمان الهداية التامة. هذه الرؤية تتناقض مع بعض المناهج التفسيرية التي تعتمد على الترتيب الموضوعي أو النزول الزمني، مما يكشف عن توجهه نحو الترابط السياقي للنص القرآني. هنا، يستخدم الأسلوب التوجيهي، حيث يخاطب القارئ مباشرة ويوجهه نحو اتباع هذا المنهج، كما في قوله: “لكي يكون الباحث على علم تام وهداية واعظة”. تحليل خطابه يكشف عن نزعة تربوية تهدف إلى تعليم القارئ كيفية التعامل مع النص، دون أن يتشتت في التفاسير المتعددة.
كما يطرح الدمنهوري نقدًا جوهريًا للمفسرين التقليديين، معتبرًا أن تفاسيرهم تأثرت بالبيئة والظروف المحيطة بهم، مما يجعل الجمود على آرائهم عقبة أمام تطور الفكر الإسلامي. هذا النقد يعكس نزعة تاريخية تحليلية، حيث لا يُسقط قدسية على التفاسير السابقة، بل يراها نِتاجًا بشريًا ظرفيًا قابلًا للتجاوز. هنا، نرى استراتيجية تفكيكية، حيث يفكك العلاقة بين القرآن والتفسيرات التراثية، ليعيد للنص استقلاليته. كما أنه يوظف ثنائية الجمود والتجديد، معتبرًا أن التشبث بالآراء القديمة يجعل القرآن يبدو غير صالح لكل زمان، مما يعزز حاجته إلى منهج تفسير متجدد يتلاءم مع تطورات العصر.
أخيرًا، خطاب الدمنهوري في هذا الجزء يحمل طابعًا إصلاحيًا جذريًا، حيث يسعى إلى إعادة تشكيل منهجية فهم القرآن، بعيدًا عن الإرث التفسيري التقليدي الذي يراه عائقًا أمام إدراك المعاني الحقيقية للنص. رؤيته تُشابه إلى حد كبير بعض الاتجاهات الإصلاحية في الفكر الإسلامي الحديث، مثل دعوات محمد عبده والطاهر بن عاشور، التي سعت إلى تحرير التفسير من قيود التقليد.
من منظور تحليل الخطاب، يمكن القول إن الدمنهوري يستخدم خطابًا تجديديًا قائمًا على الاستدلال العقلي والنصي معًا، مما يجعله نموذجًا مبكرًا لمحاولات إعادة قراءة القرآن بمنهج أكثر استقلالية وانفتاحًا على الواقع.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد