محمد أبو زيد الدمنهوري ولغز تفسيره للقرآن … بقلم: هالة عصمت

مقدمة أبو زيد الدمنهوري

أسعدني الحظ بمراجعة مخطوطة لمفكر صديق يبحث في أحد الكتب التي تمت مصادرتها وحرق نسخها لكي أتعرف على اسم لم أكن قد سمعت به من قبل ألا وهو الشيخ محمد أبو زيد المنهوري المولود (1892/1309) وعلى ما حدث له من أحداث جعلته ينضم إلى سلسلة من الكتاب والمفكرين الذين تم التنكيل بهم لا لشيء إلا لخروجهم عن المألوف من الأفكار والتغريد خارج السرب وقد سبقه ولحق به الكثيرون على سبيل المثال طه حسين الذي حوكم على كتابه (في الشعر الجاهلي) عام 1926 وعلي عبد الرازق على كتابه (الإسلام وأصول الحكم) عام 1925 ومحمد أحمد خلف الله على كتابه (الفن القصصي في القرآن)1947م وآخرون، مثلما حوكم محمد الدمنهوري في عام 1918 بسبب ما كتبه عن عدم نبوة آدم مما دعا بالمحكمة الشرعية إلى تكفيره والحكم بتفريقه عن زوجته ثم ما لبثت المحكمة أن لغت الحكم فيما بعد، لكن الأمر لم ينتهى ببطل مقالنا اليوم عند هذا الحد وإنما كانت بانتظاره عاصفة أكبر في عام 1930 عندما قام بتأليف كتابه الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن فهجم بشراسة من العديد من العلماء والشيوخ و صودر كتابه واختفى حتى ظن الجميع أنه لم يعد له وجود حتى ظهرت بعض النسخ مؤخرًا على النت في شكل ملف مصور أتاحت لنا التعرف على الكتاب وبعضا من أفكار مؤلفه ولكن قبل مناقشة الكتاب فلنحاول أن نعرف من هو أبو زيد الدمنهوري.

هالة عصمت

طبيبة ومقدمة مشورة نفسية

screenshot-2024-05-25-at-06.58.30 محمد أبو زيد الدمنهوري ولغز تفسيره للقرآن ... بقلم: هالة عصمت

عندما نحاول البحث عن الرجل نجد أن المذكور عنه في النت بضع معلومات قليلة وربما لو لم تقم جريدة الأهرام بعمل حوار معه عام 1931 لكان من الصعوبة بمكان العثور على معلومات تدل عليه وإنما سوف نجد مقالات تنهال عليه باللعن والتكفير والزندقة من بعض رجال الدين في بعض المواقع لا لشئ إلا لما ذكرنا سابقا من مخالفته طريقتهم المعتادة. من ضمن التعريف عن شخصية أبي زيد الذي وضعته الجريدة مع الحوار، أنه كان مجاورًا في الأزهر ثم التحق بالمدرسة الدينية الخاصة بمحمد رشيد رضا (1865 – 1935)  المسماة “دار الدعوة والإرشاد” سنة 1911، ثم تعثرت المدرسة ماليا لضعف التبرعات مع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914 فتم إغلاقها ومنذ ذلك الحين استقل محمد أبوزيد الدمنهوري في بحثه وفي علمه.

ننتقل الآن للحديث عن الكتاب الذي استدعى تلك الضجة واستمطرته باللعنات آنذاك وحتى الآن. ما قام به الدمنهوري هو أنه جاء بالمصحف صحيحا وأخذ في كتابة هوامش خاصة بالتفسير بطريقة مختلفة فهو لا يقوم بتفسير ألفاظ كلمات أو معاني آيات وإنما يعقب على الآية “ارجع الى اية رقم كذا في سورة كذا” و في بعض الأحيان يذكر السورة بدون تحديد رقم الآية المطلوبة مهما بلغ طول السورة وعدد آياتها، الأكثر من هذا أنه لا يضع نص الآية أو السورة المطلوبة للتفسير مما يستدعي أن يقوم القارئ بالقراءة في كتابه والبحث في المصحف  في نفس الوقت وهي عملية شديدة الإجهاد لمن لا يحفظ القرآن عن ظهر قلب. أظن أن الدمنهوري كان يحاول أن يتعامل مع كل معنى من معاني القرآن كلغز مجزأ (puzzle) نحتاج إلى تجميع أجزائها من شتى سور المصحف كي تكتمل ويتضح المعنى ولكنه في النهاية لا يوضح ما توصل هو إليه بعد تجميع اللغز وإنما يترك ذلك للقارئ فيما عدا استثناءات تعد على الأصابع فهل كان يتبنى منطق الصوفية في ذاتية وفردية التجربة؟؟؟

ما يثير الدهشة الأكبر أن الرجل لم يوضح رأيا او يأتي مذهبًا جديدًا يستحق عليه مثل هذا الهجوم الذي وصل بأستاذه محمد رشيد رضا أن يتبرأ منه ويهاجم كتابه حتى لو أخذنا في الاعتبار تراجع رشيد رضا عن آرائه السابقة و ابتعاده عن منهج الإمام محمد عبده التنويري.

كان الهجوم على الدمنهوري وكتابه هائلا  بدأه الأزهر عندما تشكلت لجنة من بعض علمائه لتنظر في هذا الكتاب، ولتحكم عليه بما ترى، ورفعت اللجنة تقريرها لشيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري (1887 – 1944) فحكم عليه بأنه (أفاك خراص، اشتهى أن يُعرف فلم ير وسيلة أهون عليه وأوفى بغرضه من الإلحاد في الدين بتحريف كلام الله عن مواضعه، ليستفز الكثير من الناس إلى الحديث في شأنه وترديد سيرته) حتى أنه قام بالتنكيل باثنين أزهريين لشبهة صداقة لهم مع أبي زيد ومحاولتهما توزيع نسخ من كتابه تلاها موقف محمد رشيد رضا من أبي زيد، حيث كان من أوائل من كتبوا ضد التفسير بجريدة الأهرام، وأعاد نشر المقالات بمجلته “المنار” وكأنه يتبرأ من علاقته بمحمد أبي زيد، الذي كان طالبا في مدرسته، بل وكان ينشر بجريدة المنار ذاتها و ذلك بعكس موقف محمد رشيد رضا سابقا عندما كتب مقالا طويلا في المنار دفاعا عن محمد أبي زيد، في القضية السابقة ضده للتفريق بينه وبين زوجته والتي حكمت فيها المحكمة عام 1918، في قضية نبوة آدم.

و قد نستطيع فهم ما حدث بالماضي في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي إذا ما علمنا أن الأصول السلفية كانت تحوم حول مراكز السلطة آنذاك وتتصيد بقايا رجال مدرسة الامام محمد عبده والتي بدأ لهيبها يخبو بعد تراجع محمد رشيد رضا عن مبادئها وانتشار السلفية وتأسيس حركة الإخوان المسلمين سنة 1928 ووصول الشيخ محمد الأحمدي الظواهري لمشيخة الازهر (1929 – 1935) و لكن المعارضة لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا  و لم يكن سببها فقط كتاب الهداية والعرفان وإنما لأنه في السنوات العشر التالية لثورة 1919 كتب محمد أبو زيد مجموعة نصوص تسير في خط اعتبار الدين مصدرًا لمقاومة الاستبداد الخارجي، بل والاستبداد الداخلي. الذي كان يتحاشى التعرض له رشيد رضا. لكن الدمنهوري بدأ يجعل الوطنية والمدنية، منبعها الأديان أيضًا. حيث كتب، نصوص هي أقرب إلى رسائل، مثل : “هدي الرسول صلى الله عليه وسلم”. كتب رسالة، أنكر فيها “الرق و التسري” وملك اليمين. كذلك قام بتأليف كتاب عام 1927 “الطلاق والزواج المدني في القرآن”. في ظل النقاش الدائر وقتها، حول تقنين تسجيل عقود الزواج عند الدولة، وتنظيمها إداريا، وأن تصبح الحكومة طرف في العقد، و هي القوانين التي تم إقرارها في مصر في أغسطس عام 1931.

لذلك فقد حاول محمد أبو زيد أن يجعل هذا التقنين وتلك المدنية موجودة في القرآن يقرها ولا يخالفها. وفي هذا الكتاب/ الرسالة: أنكر مسألة الرقيق وملك اليمين، وأكد على حرية المرأة وتعرض لأدب السفور، وتحدث عن  الزواج بالتراضي بين الزوجين، وأن الطلاق لا يقع إلا بقصد صحيح من الطرفين، وأشار إلى أن حقوق الزوجية المدنية التي تصلح بها الأمم وينتظم بها سير الاجتماع الإنساني، وأنكر التعدد في الزواج للرجل.

و لا زالت تلك الآراء تثير غضب رجال الدين حتى أن الشيخ علي جمعة انتقده في عام 2017 في مقالة سميت بين التجديد والتبديد محمد أبو زيد الدمنهوري نموذجا قال فيها إن الدمنهوري لا يحترم التراث ولا يقدر مجهودات من سبقه من العلماء المخلصين وان من سبقوه وعاصروه اعتبرهم أقل منه مكانةً وعلمًا. وعندما أنكر الدمنهوري الطلاق الشفوي كما فعل أستاذه محمد عبده وطالب بعدم وقوعه ويجب أن يكون موثقًا شاهدًا عليه رد الشيخ علي جمعة في مقاله بأن هذه المطالبة ستسبب زيادة الطلاق وأنها استهزاء بأحكام الله ولن تحل مشكلة كثرة الطلاق رغم أن الواقع يؤكد أن الطلاق الشفوي كان سببا في تفرق الأسر وتشرد الأطفال و لذلك قامت السعودية بإلغاء الطلاق الشفوي ووجوب مثول الطرفين أمام القاضي للحصول على صك الطلاق بما يحد من الطلاق الكيدي والعبثي وهو نفس ما طالب به الدمنهوري فلماذا لم يكفر مشايخ الأزهر نظرائهم في السعودية إذا كان ذلك استهزاء بأحكام الله كما قال الشيخ علي جمعة؟؟!!!

و يبدو أن مشكلة الأزهر وعلماؤه مع الدمنهوري أنه يقترب من منطقة نفوذهم و تحكمهم بالسيطرة علي العوام البسطاء من خلال ما يسمى بثلاثة أرباع الدين (السنة) وحتي اتهامهم له بإنكار إجماع الأمة، سبقه ابن تيمية وابن القيم الجوزية وقال كلاهما أن الإجماع ليس حجة و برغم ذلك لم يهاجما مثله.

كذلك أثار المنهوري حفيظة العلماء حين كتب أن تأخر المسلمين بسبب بعدهم عن القرءان وعدم العمل به وأن الدس والحشو فى التفاسير وصل إلى حد أنك لا تجد أصلًا من أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة لهدمه وتبديله والمفسرون قد وضعوها من حيث لا يشعرون؛ حيث جعلوا الاصطلاحات الفقهية والكلامية أصولآ حكموها في القرءان وأنزلوها عليه ووضعوا فيه من الجمود والعراقيل ووسائل التفريق والشقاق حتي فقدت هدايته بالمجادلات في الألفاظ والمذاهب وضاعت معانيه ومقاصده بالروايات الناسخة والتفسيرات العقيمة، لم يكن الدمنهوري فقط هو من قال بهذا الرأي وإنما هو نفس ما قاله أحد علماء الأزهر بعد عشرين عاما من جدل الدمنهوري وهو الشيخ عبد المنعم النمر في مقاله بمجلة الأزهر عام 1951 “لم أجد من تفاسير العلماء السابقين تفسيرًا واضحًا قريب المعني لأنهم جعلوها معرض لعلومهم التي عرفوها في عصرهم وقد خاضوا فيها لدرجة تجعلك تبعد عن شاطيء القرءان وإنها خالية من البحث عن أهداف القرءان فالألفاظ والبلاغة والكلام هي أهم ما يوجد في التفاسير وكلها لا يوجد بها تفسير حقيقي للقرءان وتجد لهم أحيانا تفسيرات تافهة بعيدة كل البعد عن هدف القرءان وعظمته وبعضهم يلجأ الي نقل إسرائيليات مدسوسة وأحاديث مختلفة في القوة والضعف لتفسير القرءان” فلماذا لم يكفره علماء الأزهر كما فعلوا مع الدمنهوري وكلاهما قال نفس الشيء عن التفاسير؟؟!!!

screenshot-2024-05-25-at-07.11.40 محمد أبو زيد الدمنهوري ولغز تفسيره للقرآن ... بقلم: هالة عصمت

والآن لنلقي نظرة على بعض تفاسير الدمنهوري بدون الاستدلال بكتب التراث والسنة: في سورة الشعراء الآية 137 “إن هذا إلا خُلُقُ الأولين” تدبر كيف أنهم يكفرون تقليدا لآبائهم وتعصبًا لعاداتهم ولو بحثت فينا لوجدت أن أكثرنا يرفض تعاليم القرءان لأنها لا توافق ما ورثناه من عادات الآباء وحتى علماء الدين لا يستحيون من الانتصار للمذاهب والتقاليد التي تخالف صريح القرءان”.

في سورة الحشر الآية 7 “وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا” يفسرها الدمنهوري أنها بيان تقسيم الفيء ويضم إليه خمس الغنائم التي تأتي بالقتال، هنا تجده اختص الآية بالفيء وتوزيع الغنائم فقط ولم يقل بتعميمها في كل شيء كما يزعم علماء السلف ومشايخ التراث.

في سورة النساء الآية 3 “وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة” أنكر تعدد الزوجات بغير شروط وان المقصود هو نساء اليتامى الذين فيهم الكلام لأن الزواج منهن يمنع الحرج في أموالهم.

في سورة النساء الآية 25 “ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات” المقصود بالفتيات انهن الخادمات كما أنكر معنى ملك اليمين الذي فسروه بإنهن من الخادمات والوصيفات اللاتي يجوز التمتع بهن كالزوجات بحجة أنهن مشتراة بالمال أو أسيرات بالحرب فليس في الإسلام عرض امرأة يباح بغير عقد زواج.

في سورة الأنعام الآية 141 “وآتوا حقه يوم حصاده” أنكر إلزام الزكاة بمقدار معين وفي كل الخارج من الأرض حق لابد من إعطائه (يوم حصاده) وترك التقدير للأمة بحسب الحالة بمعنى أن الحاكم يحددها حسب حال أمته وقال في مصارف الزكاة أن معنى الرقاب هو خلاصها من الاستعباد (الديون).

و الآن لنتأمل ما قاله ذلك العالم المفترَى عليه و نتساءل أيهم أقرب إلى رسالة الدين العالمية الخالدة هل هو الخطاب الديني التقليدي الذي يستميت رجال الدين في الدفاع عنه و محاربة من يخالفه أم ما يمثله خطاب أبي زيد الدمنهوري من عقلانية وإنسانية والذي حاول فهم معنى الآية من خلال سياقها بدون قطع فيقرأ ما سبقها وما لحقها من الآيات بأسلوب يقوم علي العقل وبعيدا عن القشور وكتب التراث؟

قرأ الشيخ محمد أبو زيد القرآن الكريم بأدوات بسيطة وعبارات جزلة حذف منها كل كتب التراث واختلافات رواتها ورواياتها برؤى تتوافق مع كل ما اطلع عليه من علوم العصر ولم يرد أن يختلف مع الفقهاء فلم يتطرق إلى نقدهم أو تسفيه أدواتهم ولكن هذا لم ينجيه من هجومهم المتلاحق عليه والذي هو مصير أي مفكر أو باحث يحاول حث العامة على التفكير وإعمال العقل و البعد عن سيطرة المؤسسة الدينية ولا غرابة فالنفوذ الديني و شهوة السلطة قد تعمي بصيرة الإنسان وتفقده أبسط قواعد المنطق حتى لو ادى هذا على المدى البعيد إلى انهيار المؤسسة بالكامل.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

محمد أبو زيد الدمنهوري ولادة جديدة …صابر مولاي أحمد

مشكلات التفاسير الحديثة مع الشيخ أبو زيد الدمنهوري

تفسير القرآن الذي أخفوه ..الهداية والعرفان جمال عمر مع أحمد سعد زايد

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات