“محمد” حياته من منظور الدراسات الاستشراقية والإسلامية.. بقلم: ماسيمو كامبانيني .. ترجمة: عماد السعيد

ماسيمو كامبانيني
Massimo Campanini

d985d8a7d8b3d98ad985d988-d983d8a7d985d8a8d8a7d986d98ad986d98a-1 "محمد" حياته من منظور الدراسات الاستشراقية والإسلامية.. بقلم: ماسيمو كامبانيني .. ترجمة: عماد السعيد

المحتوى:                                                                             
1- حياته من منظور الدراسات الاستشراقية.
 2- حياته من منظور الدراسات الإسلامية.                                                                  

إن الدراسة العلمية لسيرة شخص كان قد عاش منذ ما يزيد عن 1400 سنة في بيئة كان التدوين فيها شيء نادر الحدوث لا يؤدي ذلك إلا إلى مواجهة إشكاليتين 1 _ إذا كانت الأخبار التي تصلنا عن الشخص المعني دقيقة، و 2 _ بالتبعية، فما مدى مصداقية المعلومات المتوفرة عنه. وفي حالة أن الشخص المذكور هو مؤسس لديانة، مثلما الحال مع النبي محمد، وهو شخص أصبح رمزا للقداسة والكمال، فمن البدهي أننا بحاجة إلى التمييز بين الشخصية الواقعية والشخصية المثالية، وهي ضرورة لم تكن لتظهر لو كنا نتحدث عن كاتب مثلا. فهذه مجالات ثلاث كانت محورية في الدراسات التاريخية للقرن العشرين حول نبي الإسلام.                                                                                     

لا يشكك أحد تقريبا في وجود حقيقة تاريخية عن رجل دُعي محمدا  قد عاش في فترة انتقالية بين القرن السادس والسابع الميلادي بشبه الجزيرة العربية، فقد سعى الدارسون لتحليل شخصيته وبعثته من زوايا متعددة. فالمستشرق السويدي تور أندريه Tor Andrae، وهو أسقف لوثري، كان قد كتب كتابين، أحدهما عن النبي الأَمثل (أندريه 1917)، والأخر عن النبي التاريخي (أندريه 1932). وقد قدم في هذا المجلد الأخير قراءة دينية خالصة عن شخص النبي محمدا ورسالته، دون التطرق بشكل كبير إلى جوانب حياته الإجتماعية، والسياسية والعسكرية الى أخره. إن المؤلف ليعترف ويقر بصدق وأصالة تجربة النبي العربي الدينية، ولكن بتقييد مهم على اعتبار أن القرآن ليس وحيا إلهيا أصيلا، لكنه بطريقة ما أُلف وخُط من قبل محمد نفسه.  يعتقد أندريه خلافا لذلك أن الرسالة الإسلامية تحتوى على تأثيرات من العظة المسيحية، خاصة النسطورية، مما ساهم بشكل كبير في التكوين الاسلوبي والمفاهيمي للوحي الإسلامي، وفي كل الأحوال فـ {العقيدة المحمدية} مرتكزة على مفاهيم دينية كانت مشاعة في الشرق، بخاصة المانوية والغنوصية، مع الإشارة إلى أن فكرة إله متعالي من إسم الله كانت موجودة ومنتشرة في البيئة العربية قبل الوحي السماوي. وذلك لا يقلل من قدرة محمد عند أندريه، من إضفاء الطابع الديني الموحد والحيوي في هذه المفاهيم التي كان يتصف بها هذا الإله، بالإعتماد على الصفة البارزة له بالسيادة المطلقة. ورغم أن هذه الفكرة إسلامية نمطية، فالكاتب يقدم تفسيرا لما اصطلح عليه {العقيدة المحمدية} متأثرا بشدة بعقليته اللوثرية (والأغسطينية). فتبدوا فكرة الجبرية عند أندريه هي التعبير الأكثر وضوحا عن دعوة دينية عميقة. فالإله الإسلامي سيكون في المقام الأول { مالك يوم الدين} ولا يمكن أن يقع شيئا {لا يريده الله}. ولذلك ففكرة الجبرية هي حافز للعمل والإلتزام الديني. وهذا ما سيحدث لمحمد كما حدث من بعده للوثر أو إلى كالفن.                                                                                        

 وفي منتصف القرن المنتهي  كانت قد طبعت تلك التي لا تزال، الأكثر إكتمالا وموثوقية على الأرجح عن سيرة محمد والتي كتبها من منظور {استشراقي} وليام مونتجمري وات ( 1953، 1956، وأخيرا ، ملخص ممتاز للكتابين السابقين1961). لم يكن الأمر مجرد تحديد للمصادر، وإعادة بناء لحياة النبي، بل دراسة نقدية ومنطقية قدمت تفسيرات أصيلة. ورغم أن مونتجمري وات يشير بصورة أساسية، إلى أن محمدا كان يعتبر تجاربه الشخصية والنفسية بمثابة (وحي)، فمع ذلك يقر بأن الإلهام الديني للنبي كان صحيحا. خصوصا في الصفحة الأخيرة من عمله محمد، النبي ورجل الدولة {1961}، فكتب: (هل كان محمد نبيا؟ لقد كان رجلا ذا قريحه خلاقة جادت وقدمت أفكارا ملائمة عن الأسئلة الجوهرية للوجود البشري، مما جعل دينه يحظى بقبول واسع، ليس في عصره فقط، بل حتى في القرون اللاحقة. ليست كل الأفكار التي أعلنها صحيحة ومتماسكة، لكن بفضل  من الله، قدم لملايين من البشر دينا أفضل مما كان لديهم من ذي قبل). إن مونتجمري وات في الكتابات المتأخرة كان يبين موقفه أكثر: بتوضيح ما يجب أن تكون عليه التنازلات المسيحية للإسلام لفتح حوار مثمر بين الأديان، وأشار إلى أنه ( يجب على المسيحيين أن يرفضوا تشويه صورة الإسلام في العصور الوسطى وأن يطورو تقديرا إيجابيا لقيمه. مما يعني ذلك قبول النبي محمد  كزعيم ديني أرسله الله، وهو ما يؤدي نوعا ما إلى الإعتراف بأنه كان نبيا ) { وات 1991،143}.                                                                            

لقد شدد وات على الطبيعة ” العربية ” لمحمد ورسالته، وبالتالي إعادة تقييم أصالة الإسلام مقارنة بأولئك الذين يختزلون أصالته إلى مجرد تطوير وتحويل لمصادر ومعتقدات يهودية ومسيحية. وفي هذا السياق، أكد أيضا على الأهمية التاريخية الكبيرة لمرحلة المدينة، حيث يتفق المستشرقون على أن أخبار طفولة محمد غير موثوقة وخضعت لمراجعة لاحقا وتحمل طابعا تبجيليا. وفي تحديد أسباب نجاح دعوة محمد، أكد وات على وجه الخصوص أن رسالته في إدانة الظلم الإجتماعي بدت وكأنها إدانة ضمنية لبيئة الخلاعة والدنيوية لمكة، والتي كانت في حالة نشاط اقتصادي بسبب تجارتها المزدهرة. ولم تكن معارضة قريش للتوحيد ناجمة عن التوحيد ذاته،  بل من خطر رؤية نظامهم الإجتماعي ينقلب ويتغير، و قبل كل شيء الخوف من فقدان السلطة والزعامة أمام زعيم وسلطة حاكمة جديدة.                                         

لقد قامت بارتيشة كرونه بمعارضة هذا الجزء الأخير من إعادة بناء مونتجمري وات، فعلى سبيل المثال، في عملها  تجارة مكة ونشوء الإسلام {1987}، قد نفت بشكل أساسي أن تكون مكة مركزا تجاريا ذا أهمية كبيرة، وبالتالي قللت، إذا صح التعبير من هذا الجانب البنيوي، لرسالة محمد ونجاح دعوته ونشوء الإسلام. ولقد قام روبرت سيمون 1989 بتعديل هذا الإقتراح في كتابه، بل تم الإعتراض عليه ونقضه من قبل   محمد إبراهيم الذي أكد في كتابه “رأس المال التجاري والإسلام  Merchant Capital and Islam  1990″، إذ بين كيف أن الصراع الطبقي الذي حددته ثروة  طبقة التجار وفقر سواد الناس ساهم في تطور الإسلام. ( وفيما يتعلق بالمسائل التاريخية المعقدة المتعلقة بأصول الإسلام في بيئة شبه الجزيرة العربية بالقرن السابع يرجى الرجوع إلى المقال المخصص).  

من المفيد في هذا الصدد ذكر سيرة أخرى كان لها صدى كبير، تلك التي كتبها الفرنسي مكسيم رودينسون” 1967″. إن أطروحة رودينسون كانت ماركسية، مادية، لقد بدأ بتصور مصير محمد مرتبطا بالتحولات والإحتياجات السياسية والإجتماعية بشبه الجزيرة العربية: ( في فجوات العالم البدوي كانت تتطور إقتصاديات تجارية. {…} وبالتالي بدأت عملية تفتت المجتمع القبلي. {…} دولة عربية، محكومة بأديولوجية عربية، تتكيف مع الظروف الجديدة ومازالت قريبة من البيئة البدوية…. هذه هي الحاجة الكبرى للعصر)، وهي حاجة كان على محمد أن يلبيها، { tr.ital. Torino1973,37,39}. وطبيعيا، في كتاب مثل هذا أن لا يتحدث عن الله كثيرا. إن رودينسون يعترف لمحمد بأنه كان ” عبقريا دينيا”، ولكنه قد وصف ثقافته بأنها مشبعة بالخرافات والقصص الأسطورية، وتجربته الصوفية كثمرة خيالية ونفسية لعقل متوهج. ومع الإعتراف بكونه منحازا إلى الإلحاد، فإن رودينسون ( مثله في ذلك مثل أندريه وفي جزء منه مثل وات، اللذان كانا أيضا رجال كنيسة)، قد جعل من القرآن عمل محمد، بل ثمرة أدبية من لاوعيته. إن القرآن عند رودينسون يحتوي على مفاهيم “مبهمة”، تم تطويرها على أساس معرفة غير دقيقة بالهيودية والمسيحية، واللتين بدورهما كانتا مشروطتين بفلسفة أفلوطينية محدثة (كما ناقش وات بشكل تحليلي أكثر من مرة عدم دقة الأخبار المتعلقة بالديانتين التوحيديتين السابقتين الواردة في القرآن أو المنطوق بها من قبل محمد). وعلى كل، فإن محمد و”كتابه” طبقا لرودينسون، كان عليهما أن يوفرا للعرب دينا خاصا بهم، دينا عربيا، والذي في النهاية  لم يكن أكثر من أيديولوجية مفيدة لتعزيز مجتمع خاص في طي التكوين.

إن كل هذه التحقيقات على كل حال قد افترضت أن شخصية محمد كما روتها لنا المصادر، هي إلى حد كبير موثقة، على الرغم من الترسبات الأسطورية و الإعتذارية.  فمثلا عن القرآن {cfr.voce corano}، قد تطور تيارا من المراجعة الشكية الذي، من خلال الشك في موثوقية المصادر، حاول استنتاج بأن ما نعرفه عن حياة محمد_ حتى لو تجاهلنا حقيقة وجوده التاريخي_ هو إلى حد كبير مخترع. وكان رائد هذا التيار في المراجعة بالعصر الحديث هو المحقق ” اليسوعي” هنري لامنس، والذي على الرغم من عدم كتابته عن سيرة لمحمد في ذاتها، فقد درس البيئة التي عاش فيها النبي وعمل {cfr. Lammens 1914,1924} وخلص إلى أن التحليل التاريخي يدفعنا إلى الشك الشديد في الروايات المتعلقة بحياة محمد وبيئته. وفي عصر أكثر حداثة، قام الإنجليزي جون وانسبرو ( وخاصة 1978) بتنظيم وتدعيم عملية المراجعة النقدية للمصادر. وادعى وانسبرو بأن الإسلام لديه القليل من الأصالة، حيث يدين بمبادئه ومذاهبه لتأثيرات الأديان التوحيدية السابقة: فالإسلام قد نشيء من تطور أو انحراف هرطقة داخلية في ” بيئة طائفية” متأثر بشدة باليهودية ( وأيضا بالمسيحية). لكن قبل كل شيء، شكك في احتمالية صحة البيانات التي نقلتها لنا التقاليد الإسلامية حول حياة محمد، خاصة أنه لا توجد حقا شهادات ” داخلية” معاصرة للأحداث، بينما الشهادات التي تأتينا من اتجاهات أخرى تحكى قصة مختلفة إلى حد كبير. فقد تم ” اختراع ” قصة محمد، أو على الأقل لقد تم إعادة صياغتها وبناؤها على الطاولة باستخدام بعض البيانات التاريخية الضئيلة، وبشكل أساسي على عناصر أسطورية أو حتى تم انشاؤها بشكل متعمد لجعلها أكثر تشابها مع الحقيقة،  وذلك بهدف العثور على سلف بهيئة تبدو ” إلهية” للحضارة التي ستنشأ لاحقا. إن مثال وانسبرو قد دشن لمدرسة (ومصير مماثل قد حدث لنقده  للقرآن). فأوري روبن Uri Rubin 1985 على سبيل المثال، قد وضع نفسه بشكل أساسي في إطار شيعة وانسبرو، حتى لو كان ذلك مع شيء من الإعتدال. وعلى العكس من ذلك فدانيال براون  Daniel Brwon 2004  فمتشكك تماما: ففي إعادة بناء براون، فالأخبار التي نقلها لنا المؤلفون العرب والمسلمون عن مكة زمن محمد معلومات خيالية، وحياة محمد كما رواها لنا المؤرخون اللاحقون مشكوك فيها من الناحية التاريخية، والأحاديث مزيفة إلى حد كبير. إن هذا التشدد الراديكالي،  مثله في ذلك مثل كل إفراط، لا يفلت من شراك التحيز. حتى وإن كان خطر الزخرفة والتقديس كبيرا، فمن غير المرجح أن المؤرخين المسلمين الأوائل ( حتى وإن كانوا متأخرين نسبيا) قد اخترعوا كل شيء من تلقاء أنفسهم (وأيضا لأنهم سيثبتون أن لديهم خيالا يستحق أفضل من كتاب ملاحم العصور الوسطى!) علاوة على ذلك فيعرف كل مؤرخ أن أي شهادة عن الماضي، حتى وإن كانت موضوعة، تعكس المناخ الفكري والروحي، بل أيضا الإجتماعي أو الإقتصادي للعصر التي صيغت فيه.

أصر بعض الدارسين بشكل خاص على محاولة فهم شخصية محمد على ضوء علاقته بالوحي الموجود في القرآن، فكتاب رودي باريه  Rudi Paret  محمد والقرآن  Mohammed und der koran1957،  هو مثال على هذا النوع من المقاربة، فالقرآن يحتوي بلا شك على أدلة تساعد على إعادة بناء أو تخمين بعض وقائع حياة النبي، لكن من الطبيعي إمكانية التشكيك في مصداقيته من قبل أولئك الذين يشككون في موثوقية الكتاب المقدس. علاوة على ذلك ، بما أن الوحي كان له تاريخ يمكن تتبعه بسهولة في القرآن، فإن تاريخ الوحي يمتد بالتوازي مع تاريخ وجود محمد { cfr. Voce Corano }.  ويُصر ف. بيتر  F.Peter 1994 أيضا على إمكانية البدء من القرآن لفهم  محمد  والتعرف على سيرته بشكل أفضل.

يبدوا أن هذا الإتجاه التاريخي هو الأكثر ملائمة بشكل خاص، نظرا إلى أن محمدا كان مؤسسا لديانة، وينتج عن ذلك اشكالية تجاهل أو التقليل من بعده الروحي. وكان فرانشيسكو جابريلي مخطئا بشكل أساسي، حيث لم يكن قط  متقنا لموضوع دراسته، عندما أعلن صراحة بمعارضة الغرب ” المتمدن”  للـ “البربرية” الإسلامية {  Gabrieli 1967-1972 }. ويؤكد كلاوديو لو ياكونو على الرغم من تعاطفه وإجرائه بحثا متوازنا للغاية، بشكل منهجي على بناء سيرة نبوية “محددها ” بالتحقيق في البعد الإنساني لمن يُعرف من قبل أتباعه بأنه ” خاتم الأنبياء “، وذلك لأنه ” ليست لديه القدرة على اختراق خبايا روح المؤمن المسلم  غير القابلة للتعبير {Lo Jacono  1995 }.          

من الواضح أن البعد الروحي وصدق شخصية محمد ورسالته هما في مركز إهتمام المسلمين الذين تولوا رواية حياة النبي. بالطبع، كانت هناك طبعات لا حصر لها بهذا الشأن في البلاد الإسلامية، حتى وإن كان القليل منها ما له قيمة تاريخية حقيقية، لأنه كما هو مفهوم، فالرغبة الدفاعية، غالبا ما تفوقت على الدقة المنهجية والعلمية. بالإضافة إلى أنه، من المفهوم جيدا (حتى وإن لم يكن  ذلك واضحا) أن معظم الدارسين المسلمين قبلوا بلا شك كبير مصداقية المصادر: وبشكل أساسي القرآن والحديث، الذي يشكل السنة، والسيرة أو “حياة  النبي”.  ومن بين تلك السير  تعتبر سيرة ابن اسحاق هي الأكثر موثوقية وشهرة، والتي راجعها ابن هشام ( وترجمها إلى الإنجليزية الفريد جويلوم  Alfred Guillaume 1955،  وسيرة الواقدي.

 على الرغم من إن بعض السير التي كتبها المسلمون لها قيمة أيديولوجية أكثر من كونها علمية تاريخية، إلا أنها تستحق النظر. والأفضل على الأرجح هي تلك التي كتبها مارتين لينج  Martin Lings، وهو باحث من أصل أنجلو ساكسوني كان قد اعتنق الإسلام  {Lings 1983}. فشخصية محمد بكل تأكيد مثالية، ولكنه سرد سيرته بإعادة بناؤها من خلال تكوين فسيفساء معقدة من المصادر، من القرآن، إلى الحديث إلى الشهادات الأقدم من كتاب السير والإخباريين. فينتج عن ذلك عمل يحتوي على جميع سمات التحقيق التاريخي الصارم حيث تتحقق المصادر من بعضها بعضا، بحيث تشكل نوعا من النظام ” البنيوي” إن صح التعبير. إن حياة محمد  موضوعة ضمن حتمية تاريخ الوحي. بالطبع، فمن منظور إستشراقي، لا تزال مطروحة قضية أصالة ومصداقية المصادر التاريخية التي يستخدمها لينج بشكل واسع، وخاصة مدونة الحديث  التي تعرضت لانتقادت لاذعة ( وإن كانت بحدة أقل  الآن) في الخمسينيات والستينيات.

إن المنهجية التي اتبعها لينج، على الرغم من كونه متعاطفا بشكل واضح، إلا أنه بخلاف ذلك  غير مبتذلة  أوسطحية أو متحيزة ببساطة. فالسيرة التي كتبها تحقق تماما ذاك التمازج بين التاريخ والروحانية التي أُشير إليها أعلاه.

إن سيرة (حياة محمد) للمصري المعاصر محمد حسنين هيكل 1935، تعتبر على الأرجح هي السيرة الأكثر ” علمية”  من بين كل السير التي خطها مسلم وفقا لمعايير علم الإستشراق. لقد تأثر بشدة بأفكار أولئك الذين، يعتبرون الإسلام دينا عقلانيا، مثل العقلاني والحداثي محمد عبده، إن هيكل يناقش في كتابه المصادر العربية لحياة محمد، بدءا من الأحاديث إلى السير الكلاسيكية المختلفة، دون قبول بشكل غير نقدي كل ما نقلته التقاليد ، بالإشارة إلى ضعف سلاسل إسناد معينة. حتى نقد الإستشراق الأوروبي (لقد قرأ هيكل ايرفن، ومرجوليوث ولامينس) فوضعه تحت عدسة مكبرة كما أدان المؤلف التحيز والأحكام المسبقة لهذا الإستشراق في بداية القرن. على سبيل المثال، ففيما يتعلق بالرغبة الجنسية المزعومة للنبي، يشير هيكل إلى أن النبي ظل مخلصا لزوجته حتى سن الخمسين: لذلك كان أساسا أحادي الزواج، حتى ولو وافق لاحقا على زيجات متعددة، فذلك لأسباب سياسية. ومن الطبيعي، أن بعض المحاولات الدفاعية ليست غائبة عنده، ولكن هيكل يبدوا دقيقا منهجيا وقادر على تقديم حياة النبي دون وضعها في تصورات سطحية. 

إن محمود عباس العقاد 1889-1964 كان مسلما حداثيا، قد وسع نشاطه تدريجيا  بتقديم شخصيات الإسلام الكبرى الكلاسكية بشكل مبسط.  لذلك كتب كتابا عن النبي “عبقرية محمد” 1943، وهو ليس من النوع التاريخي بل السردي، حيث قام بفحص السمات الفريدة لشخصيته: محمد كنبي، كقائد دولة، كقائد عسكري، ولكن أيضا كرجل، كزوج، كصديق، كسيد للعبيد، حتى ومن الواضح أن هذه الصورة مثالية ومتناسقة، وقادرة على تمثيل نموذج للسلوك، فعلى سبيل المثال، فيما يتعلق بمواقفه تجاه الحرب، فالعقاد يشدد على أن النبي لم يكن محبا للقتال (مثل الإسلام الذي هو أساسا دين للسلام )، ومع ذلك فقد عرف كيف يختار، عندما تفرض حاجة المجتمع الذي أنشأه إلى ذلك.

إن خالد محمد خالد 1920-1996 كان قد اتبع مسارا في التحول من النزعة الإشتراكية العلمانية إلى إسلامية حداثية، ففي هذه المرحلة الثانية من تفكيره، كتب “إنسانية محمد” (1973)، حيث حاول التأكيد على الجوانب، على الخصوص، الإنسانية والأنثربولوجية لشخصية النبي. وبالتالي، يؤكد  ” كأسلوب ” على أفعال محمد، ف الرحمة : كمبدأ له، العدالة، ليس بمعناها السياسي، ولكن كتوازن للسلوك، كطبيعته البناءة، والحب، كميزة له، وعلو روحه، وشاعريته، واهتمامه بالصعوبات والمشاكل التي يواجهها الناس. إن إعادة بناء خالد تقع كلها في المستوى الأخلاقي، فخلاف القرآن، يشير بشكل خاص إلى الحديث. ومن المثير بالإهتمام أن المؤلف الذي في ثلاث أعمال أخرى له دافع فيهم عن فكرة الطابع السياسي للدين الإسلامي، لا يعطي دورا سياسيا للنبي.

كما قام عبدالرحمن الشرقاوي بالإقتراب من شخصية محمد بطريقة مماثلة لمنهجية خالد محمد خالد في كتابه “محمد رسول الحرية” ، الذي نشر في الستينيات في حقبة انتشار واسع للإشتراكية الإسلامية ( الشرقاوي ، 1973) فيعترف بعدم جدوى كتابة سيرة أخرى عن النبي، الذي لن تضيف الكثير عما هو معروف عنه بالفعل، لذلك أفصح عن مقصده: (أردت أن أحكى عن قصة رجل فتح قلبه للآلام، للإشكاليات وأحلام البشر، وتعاليمه شكلت حضارة مزدهرة وغنية قد سمت بروح العالم لعدة قرون، قصة رجل ، رغم الظروف الصعبة قاتل باسم الإخوة والإنسانية والعدالة والحرية ضد  قوى التدمير الطاغية ).  لم يكن للسياسة مكان كبير في كتاب الشرقاوي مثلما الحال في كتاب خالد محمد خالد، ومع ذلك فصورة محمد كرسول للحرية تقف وراء تلك القراءات لرسالته التي جعلته مؤسسا لمجتمع اشتراكي. وهذه الفكرة موجودة لدى نظريات الإشتراكية الإسلامية، مثل مصطفى السباعي، وهو أحد أفراد الإخوان المسلمين السوريين، الذي نشر في الستينيات “الإشتراكية  في الإسلام”  عن الرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي لجأ أيضا إلى الرموز الدينية لتبرير سياسته.

انتهى.

ترجمة: عماد السعيد

d8b9d985d8a7d8af-d8a7d984d8b3d8b9d98ad8af "محمد" حياته من منظور الدراسات الاستشراقية والإسلامية.. بقلم: ماسيمو كامبانيني .. ترجمة: عماد السعيد

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات