مفهوم العلامة.. وعلم آدم الأسماء … د. شريف عكاشة
بقلم: د.شريف عكاشة

نقد الحداثة وما بعدها… من منظور سيمائي (3)
وعلم آدم الأسماء
مفهوم العلامة هو مفهوم تأسيسي ومحوري في فهم سيمالوجيا سوسير وما تفرع عنها بعد ذلك من تأسيس لعلوم لغوية ومدارس فكرية ونقدية، أهمها علم دلالة الألفاظ والبنيوية والتفكيكية وما بعدهما. لذا فمن الأجدر بنا ألا نفترض أن كل مفهوم مفهوم بذاته، ثم نشرع في استقراء ما يبنى عليه من مفاهيم ومعطيات دون الاستيثاق من استيعابنا للمصطلحات/المفاهيم التأسيسية.
فكثيرا ما يحدث خلط بين المعنى الدارج الاشتقاقي للعلامة ومعناها الاصطلاحي في السيمالوجيا والسيمائيات معا. والمعنى الدارج للعلامة يشير إلى أي أثر مادي متحقق أو مجرد متصور يدل على شيء آخر. وأبسط مثال لها هو قول ذلك الأعرابي الشهير “الأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير …”. وكلام الأعرابي هذا أصاب عنصرين هامين من عناصر العلامة كما هي معروفة في تأسيسية سوسير: الدال والمرجعية (أي ما تشير إليه العلامة في عالم الواقع) ولكنه أسقط عنصرا هاما ألا وهو المدلول ويقصد به المفهوم الذي استقر في الذهن.

فالعلامة بالمفهوم الاصطلاحي ليست كيانا متحققا، ولكنها مفهوم إجرائي افتراضي مثل مفهوم الذرة عند الإغريق الغرض منه التنظيم المنهجي. أي هي في الواقع شيء لا وجود له. فإذا قلنا إن العلامة بالمعنى الاصطلاحي في سيمالوجيا سوسير تتكون من الدال والمدلول، فالدال هنا هو العلامة بالمفهوم الدارج، أي هو الكلمة أو الصوت مثلا لأن سيمالوجيا سوسير تركز على اللغة بالأساس، والمدلول هو المفهوم الذي يحيل إليه الدال في العقل ومن خلاله يتم التعرف على مرجعيته في الواقع.
ولذا فإنني أفضل استخدام سيما على علامة لسبب اشتقاقي شكلاني يحدث نوعا من الاتساق مع جذر المصطلح في اللغات الأوروبية، كما أوضحت في المقال السابق، وسبب آخر اصطلاحي يروم فض اللبس القائم بين المعنى الدارج للعلامة ومعناها الاصطلاحي. وأفضل مصطلحي الواسمة والموسوم على الدال والمدلول لما يحققانه من اتساق صرفي من جهة ومن فصل للسيمائيات عن علم دلالة الألفاظ من جهة ثانية، وخاصة حينما نخرج من دائرة السيمالوجيا اللغوية الضيقة عند سوسير إلى فضاء السيمائيات الأرحب، حيث إننا واجدون أن الدال والمدلول أقرب إلى اللغة منهما إلى العالم السيمائي الأكثر تنوعا وثراءً. وعلى أي حال سأستخدم المصطلحات المتداولة مؤقتا حتى لا يقع القارئ في حيرة من أمره.
ومن الجدير بالذكر أن نموذج سوسير هو نموذج ثنائي تتكون فيه العلامة أو السيما من دال ومدلول، حيث المرجع (أي ما تشير إليه العلامة في عالم الواقع) ليس داخلا في الحسبة السيمائية.
والآن نضرب بعض الأمثلة التوضيحية للعلامات بالمفهوم الدارج (أي الدالات في الاصطلاح السيمائي): (1) كلمة “نجمة”، (2) نجمة حقيقية، (3) صورة نجمة، (4) النجومية.
(1) كلمة نجمة: دال (الكلمة أو الصوت)، والمدلول: مفهوم النجمة في العقل الذي تحقق من كثرة المعاينات سواء للكلمة أو لمرجعيتها (النجمة الحقيقية).
(2) نجمة حقيقية: الدال هو النجمة كما نشاهدها في السماء، والمدلول هو تصورنا الذهني عن النجمة (المفهوم)، بينما المرجع هو النجمة الحقيقية بحجمها الطبيعي.
(3) صورة نجمة: الدال هو الصورة، والمدلول هو المفهوم، والمرجع هو النجمة في السماء (أو نجمة داود أو نجمة من نجوم هوليود بحسب السياق) وهنا يتغير المدلول، أي المفهوم، بتغير السياق.
(4) النجومية: الدال: كلمة نجومية. المدلول: مفهوم النجومية في عقولنا. المرجع: هو المفهوم نفسه في عالم الوعي الداخلي.
وهنا نلاحظ أمرين: في حالة (2) هناك اتحاد بين العلامة ومرجعيتها، وفي الحالة (4) التي تمثل المجردات مثل العلم والحب والدين والرأسمالية، يتحد المدلول مع المرجع، أي ما تحيل إليه الواسمة في عالم الوعي الداخلي لا الواقع الخارجي، لأن المجردات لا مرجعية لها في عالم الحس.
ومن الجدير بالذكر أن سيمالوجيا سوسير جل تركيزها على العلامات العرفية أي اللغوية (1 و4) وقد أشرت إلى علامات غير لغوية على سبيل التوضيح والتمهيد لمفهوم السيمائيات الأعم الذي أرساه بيرس وشمل العلامات اللغوية وغير اللغوية.
فاللغة عند سوسير هي بنية من العلامات التي لا توجد فيها علاقة متلازمة وحتمية بين دال ومدلول، وهو ما يعرف باعتباطية العلامة. وقد خالفه في ذلك بنفينست الذي قال بحتمية العلاقة بين الدال والمدلول على ما سنرى في قادم المقالات. ويرى سوسير أن اللغة هي ملكة نفسية ومواضعة اجتماعية في آن، ولذا فهو يفرق بين اللغة langue والكلام parole وهي نفس التفرقة بين الكفاية والأداء عند تشومسكي.
وأجد هذه التفرقة أيضا ماثلة بوضوح في ذلك الحوار القرآني بين الله والملائكة حينما تساءلوا عن القادم الجديد خلفا لذلك الإنسان القديم الذي بدا من الحوار أن للملائكة تجربة مريرة معه، إذ يبدو أنه لم يكن يعرف سوى لغة القتل وسفك الدماء، فأراد الله أن يثبت لهم أن الخليفة، أي النموذج المطور للإنسان، مزود بلغة أخرى تجعله قادرا على التمييز بين الأشياء ومن ثم بين الحق والباطل والخير والشر، فجاءهم بهذا النموذج الجديد بعد أن غرس فيه تلك الملكة بأن علمه “الأسماء كلها”.
ومما يستقيم مع العقل والمنطق أنه لم يعلمه كل الأسماء بكل اللغات، بل علمه ملكة ذهنية كلية يستطيع من خلالها تعلم الأسماء وتخزينها في الذاكرة. وبما أن آدم بطبيعة الحال لم يعاين كل الموجودات التي خلقت والتي لم تخلق بعد، ومن ثم لا يمكن أن يحيط بكل أسمائها (الدالة) أو المفاهيم المرتبطة بها (المدلولات)، يكون المقصود هو ملكة تكوين الأسماء وفهمها، أي اللغة التي بها يميز الإنسان بين الخير والشر ثم له بعد ذلك أن يختار أي طريق يسلك، بعكس الملائكة المسيرة دائما.

فاللغة ليست مجرد أداة تواصل بل هي أداة تمييز تنبني عليه حرية الإرادة. ولما اكتسب هذه الملكة طلب منه الله أن يتكلم محصيا ما عرفه من الأسماء، وهنا يكون الحديث عن الأداء parole بأن أنبأهم بأسماء الأشياء التي استطاع أن يسميها. فأدرك الملائكة حينها أن تكوينهم مختلف عن هذا الكائن الفريد، وأنه لا علم لهم إلا ما علمهم الإله أي ما يلقنهم إياه حسب اقتضاء كل مهمة على حدة، لكنهم لا يملكون أداة ذاتية تعمل من تلقاء نفسها لاكتساب المعرفة والتعبير عنها. وهي الأداة التي سماها تشومسكي أداة اكتساب اللغة.
والجدير بالذكر أن علماء اللغة العرب أفاضوا إفاضات واسعة وجلية في الحديث عن علاقة الدال بالمدلول قبل سوسير بقرون، ومنهم من قال إن الاسم من السمة أي العلامة. ولا أريد أن أخرج عن موضوعي الرئيس المتصل بعلاقة السيمائيات بتطور الفكر الغربي في سياق الحداثة وما بعدها، ولذا أحيل القارئ الذي يريد الاستزادة حول إسهام العرب في السيمالوجيا والسيمائيات إلى بحث الدكتورة أسماء المصفار المنشور على موقع كناية تحت عنوان “السيمياء والأهواء”، وإليه ينسب الفضل في تعريفي بمفهوم السيمائيات عند العرب حيث لم أصب من علاقتهم بها شيئا إلا عن طريق معرفتي بالجاحظ وابن وهب.
ومما جاء في البحث: “هناك من النّحاة من يربط السيمياء بالاسم، فيجعل الاسم سمة دالّة على مسمّى لكون الاسم أثرا ظاهرا، فهو من هذه الناحية كالسّمة يدلّ على شيء لا يظهر، يقول ابن يعيش أثناء حديثه عن الاسم: ”ذهب الكوفيّون أنّه مشتقّ من السّمة: وهي العلامة، والقول على المذهبين أنّه لما كان علامة على المسمّى يعلوه ويدلّ على ما تحته من المعنى كالطّابع عند الدّرهم والدينار والرسم على الأموال”.
ولعل هذا سبب اختصاص الآية للأسماء دون غيرها من أجزاء الكلم لتمثيل اللغة بوصفها ملكة ذهنية؛ فالأسماء هي كبسولات المفاهيم كما يقول المتخصصون في علم النفس المعرفي. كما أن أجزاء الكلم الأخرى يشار إليها بلغة وصفية تستخدم الأسماء أيضا. فنحن نستخدم كلمتي “فعل” و”حرف”، على سبيل المثال، للإشارة إلى الأفعال والحروف، وكلتاهما اسم نصف به الفعل والحرف المتحققين.
ولقد تجاوز علماء اللغة العرب سيمالوجيا سوسير اللغوية إلى سيمائيات بيرس الطبيعية فلم يقصروا العلامات على العلامات اللغوية ففرقوا بين العلامات القصدية، أي اللغوية، وغير القصدية كصوت البهائم الدال على حالها دون قصد.
ومثلما قال سوسير باعتباطية العلامة وخالفه في ذلك آخرون قالوا بحتميتها، كما أسلفنا، نجد أن مثل هذا الجدل دار بين اللغويين العرب في القرون الوسطى وهو ما سنتصدى له بجلاء عند الحديث عن مفهوم “الاختلاف” عند سوسير الذي هو أساس دلالة الألفاظ وعلاقاتها داخل النظام اللغوي وما ينبني عليه من نظم، لتنتقل هذه “البنيوية” بعد ذلك من عالم اللغة إلى عالمي الثقافة والاجتماع.
لقراءة المقالات السابقة في سلسلة نقد الحداثة وما بعدها… من منظور سيمائي، اضغط على الروابط التالية:
1- نقد الحداثة وما بعدها… من منظور سيمائي …. بقلم د. شريف عكاشة.
2- علم السيمائيات وإشكاليات الفهم والتعريب …. د. شريف عكاشة.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
تعليق واحد