من البداية إلى النهاية.. قراءة في كتاب الأخرويات المسيحية والإسلامية..ج (1) .. بقلم: د. كرم عباس

بقلم/ د. كرم عباس

screenshot-2024-07-29-at-16.52.23 من البداية إلى النهاية.. قراءة في كتاب الأخرويات المسيحية والإسلامية..ج (1) .. بقلم: د. كرم عباس

في بلادنا العربية يعرف أطفالنا ما هو الموت، فهم يتعلمون عنه في سن مبكرة في المدارس والمساجد والكنائس وغيرها. ويتعلم بعضهم الموت من مصادره المباشرة، كالأطفال الذين تحاصرهم الرصاصات في فلسطين، أو تسقط عليهم القنابل في سوريا والعراق، أو تحاصرهم المجاعات في الصومال، أو تفتك بهم الحروب الأهلية في السودان وفي اليمن. 

يعرف أطفالنا أن الموت هو مفارقة الروح للجسد .. ويتعلمون ذلك دون أن يعرفوا ما هي الروح، وقبل حتى أن يعرفوا ما هو الجسد!  

نعم .. يعرف أطفالنا ما هو الموت .. ولكن هل يعرفون معنى الحياة؟

عندما يتم تغييب الوعي عن انفجار تحقق مفهوم الحياة، فلابد أن يلتف الوعظ حول مفاهيم الموت، كالغسل، والجنازة، وعذاب القبر، ونهاية الزمان، والمسيح الدجال، وشروق الشمس من المغرب، ويأجوج ومأجوج، وغيرها. 

الموت، وما يحيط به، هو مكون رئيس من مكونات ثقافتنا، والغريب أنه لدينا، ليس مذمومًا بقدر الحياة. 

وليس أدل على ذلك من مخيلة ابن عربي في الفتوحات المكية، فهو يمتدح الموت ليس في الحياة الدنيا فحسب، بل في الحياة الآخرة. فالموت في أخرويات ابن عربي يأتي في صورة كبش أملح، يضجع بين الجنة والنار، فيراه أهل الجنة، وأهل النار، وهم يعرفونه. فيسعد أهل الجنة برؤيته لأنه كان السبب في سعادتهم التي لا تزول. ويسعد أهل النار برؤيته أيضًا، لأنهم يرجون أن يخلصهم مما هم فيه، ثم يأتي يحيَّ، ويذبح الموت، بمرأى من الفريقين. وهكذا فإن ذبح الموت في أخرويات ابن عربي هو نهاية للزمن كما نعرفه، نهاية للفناء، وخلود أبدي للبشر، الصالح منهم والطالح. وذبح الموت في هذه المخيلة الصوفية هي إعلان لفناء الفناء، فهي ليست خلاصًا من الموت، بقدر ما هي خلاصًا للإنسان بمعناه التقليدي، خلاص من جهل المصير، وارتكاز في أبدية لا تعرف الخوف أو الرجاء.  

والموت هو النظير الفردي للأخرويات بمعناها الديني، موت الأنا مقابل موت الكل. فالأخرويات هي الاسخاتولوجيا Eschatology، وهي في أصلها اليوناني تتكون من مقطعين Έσχατος ويعني الأخير، و λόγος ويعني العلم والدراسة، فالأخرويات هي دراسة النهاية، نهاية وجود البشر على الأرض، علامات الساعة، والدينونة، والقيامة، وما يصاحب ذلك من عقائد متشعبة. ويمكننا الزعم بأنه لا توجد ثقافة عرفها البشر لم تؤسس لمفهوم الأخرويات؛ فكلما زاد العجز والإحباط، كلما انصرف البشر للبحث عن علامات النهاية، المسيا المخلص، عودة المسيح، والمهدي المنتظر.  

وفي المقابل يأخذ العلم موقفًا أخر، فهو لا يعترف بالأخرويات الدينية، بل يضعها في مأزق. فنهاية العالم بالنسبة للدين هي نهاية الإنسان بمعناه العام.. نهاية التاريخ البشري على الأرض، أما بالنسبة للعلم فنهاية الإنسان لا تعني نهاية العالم، لأن العالم من منظور العلم أوسع بكثير من مفهوم الإنسان، فهناك المخلوقات والكواكب والمجرات والأكوان.

 وبين هذا وذاك، هناك الإنسان الشخصي، الذي لا تهمه نهاية العالم بمعناه العلمي، ولا بمعناه الديني، بل تعنيه نهاية حياته، قيامته الشخصية، التي هي أكثر عقلانية وقبولاً للتصديق، سواء من المنظور العلمي أو من المنظور الإيماني. فموتي أنا الشخصي، هو نهاية العالم، وقيامتي ما هي إلا لحظة موتي فحسب.

452029769_10234279132498383_1817075948615417716_n-4 من البداية إلى النهاية.. قراءة في كتاب الأخرويات المسيحية والإسلامية..ج (1) .. بقلم: د. كرم عباس

 وفي قراءتنا لكتاب “الأخرويات المسيحية والإسلامية”، دعنا نؤكد بداية أنه لا جدوى من قراءة الكتب الوديعة، التي لا تزلزل الأفكار، ولا تثير الاختلاف، ولا تتركنا في حيرة مربكة ونحن نطوي صفحاتها الأخيرة؛ فليس هناك من معنى في أن نمضي ساعات طويلة نطالع صفحات، تنتهي إلى الاتفاق مع ما نعتقد فيه من الأساس!

والكتاب لا يميل في معظمه إلى الاتفاق مع ما هو شائع؛ لذلك فهو مستحق بجدارة لفعل القراءة، بكل ما ينطوي عليه هذا الفعل من تأمل وتفكير واشتباك عقلي ومعرفي. فهو كتاب وراءه جهد ضخم في جمع وصياغة مادة تراثية علمية هائلة، وتحكمه منهجية تاريخية دقيقة في تتبع مسار العقائد الأخروية في اليهودية والمسيحية والإسلام، فضلاً عن تميزه بجرأة شديدة وعدم مواربة في إبداء الرأي، ويطرح تفسيرات جديدة تمامًا فيما يتعلق بالأخرويات الدينية، الإسلامية منها بخاصة. ويمكننا الزعم بأننا ربما لا نطالع في الكتب والدراسات الإسلامية التي تناولت الموضوع ذاته، مثل هذه الجرأة التي نراها في هذا الكتاب بتطبيق المنهج النقدي بشقيه العلمي والتاريخي على العقائد الأخروية.   

يبدأ الكتاب من الفكرة الأخروية المحورية في اليهودية، فكرة المسيا المخلص. وهي ليست بعقيدة ثابتة لها شكل واحد على الدوام، بل هي عقيدة تشكلت تاريخيًا وفقًا لكل مرحلة من المراحل التي مر بها الشعب اليهودي. الأمل في انتظار العدالة والرحمة والخلاص. وهي فكرة أبدية تتطور وفقًا لظروف الواقع الاجتماعي والسياسي داخل كل جماعة بشرية. وكلما عانت الجماعة من القهر والظلم (الشتات كما في الحالة اليهودية)، كلما تطورت الفكرة، وأخذت أشكالاً أكثر عمقًا وأصالة. فالمسّيا المنتظر هو من تُصاغ حوله الأحلام، وتُنسج حوله الآمال، وتهفو إليه الأفئدة، ينتظره اليائسون والمتعبون ليخلصهم من هذا العالم التعيس، ويقودهم نحو عالم أفضل.  

وكان من الطبيعي أن يجد المسيحيون الأوائل في هذه الفكرة اليهودية مجالاً خصبًا لتأكيد صحة عقيدتهم؛ فرغم معاداة المسيح من جانب اليهود، وتسببهم في صلبه، إلا أن حضور فكرة المخلص في التراث اليهودي كان تجسدًا للمسيح كمعنى، قبل أن يتجسد بشخصه. وأصبح العهد القديم بالنسبة للشراح المسيحيين الأوائل مجالاً خصبًا للتنبؤ بالماضي المستقبلي، وعُمد إلى تأكيد العقائد المسيحية، ليس بالقطيعة مع القديم، بل بالتواصل معه، وإثبات صحة العقيدة من خلاله، فانتظار المسيح، وميلاده، ودعوته، وموته، وقيامته، وتجسده، وألوهيته، كلها باتت موضوعًا للاستكشاف داخل النبوءات القديمة، وهو ما كان قد حدث بالفعل. 

بمعنى أن الصلة بين العهدين هي صلة من ناحية الجديد، الذي رأى في القديم تبشيرًا بما جاء به الجديد. وفكرة ما جاء به من الأساس هي فكرة مفتوحة دومًا للتأويل، ما دامت النصوص الدينية بطبيعتها مطاطة وتحتمل الرؤى جميعها. والمسيح نفسه يؤكد لليهود ذلك، “هي التي تشهد لي”، فنصوص العهد القديم هي التي تشهد للمسيح، و” لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني‘‘. فقد جاء المسيح ليؤكد أنه هو التحقق والاكتمال للأفكار الواردة في نصوص العهد القديم، وبالتالي يبدأ العهد الجديد نفسه من داخل النبوءات القديمة بظهور المسيّا المنتظر. 

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات