من مصر المحروسة إلى مصر المحسودة .. عودتي إلى الوطن الذي لم يعد حلقة 9 .. بقلم: محمود عماد

هذه سلسلة مقالات تنشر أسبوعياً عن تجربة ذاتية لمغترب بعد العودة إلى مصر ورصد التغيرات التي حدثت وتحدث على مدار السنوات، وقد تتشابه تلك التجربة مع تجارب ملايين المصريين المغتربين في شتى بقاع الأرض!

محمود عماد

d985d8add985d988d8af-d8b9d985d8a7d8af من مصر المحروسة إلى مصر المحسودة .. عودتي إلى الوطن الذي لم يعد حلقة 9 .. بقلم: محمود عماد

أخيرًا وجدت الحل لتسديد ديون مصر، والحل يكمن في خطوتين، أولًا: سنقوم برُقية مصر حتى تزول العين الحاقدة الحاسدة التي تمنعنا من التقدم والازدهار. ثانيًا: سنقوم بضرب عين قوية للبنك الدولي، ونحسده فيسقط في شر أعماله ويعلن إفلاسه.

هذه الخطة الجهنمية خطرت لي وأنا أمُر على منزل جدتي القديم، وأتذكر كيف كانت هذه الأيام هادئة وسعيدة، واسمح لي أو اسمحي لي أن أعرّفكم عليها، عسى أن أقنعكم بجدوى هذا الحل.

سِتي الله يرحمها (جدتي لأمي) اسمها محروسة، وهي ست طيبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ممن نُطلِق عليهم هذه الأيام: أناس غير قابلين للتعويض، فهي امرأة ضعيفة الجسد وقليلة الحيلة، رغم ذلك فقد استطاعت مواجهة الدنيا بسجيتها المعهودة وطيبتها الزائدة عن الحد، إلى أن ضمرت بتقدم السنوات، وأخذ الشيب منها وفتك بها المرض، مُفارقة الحياة التي لم تحيا منها إلا القليل على سنواتها الكثيرة التي عاشتها.

كانت ستي تحرص على تجميعنا يوم الجمعة من كل أسبوع في منزلها القديم. كان لديها عادة تعلمتها من والدتها وتداوم عليها، حين تطلب من أطفال العائلة التجمع حولها فنجلس على الأرض وتجلس هي على أريكتها، ويؤتى لها بالملح ثم تأخذ قبضة صغيرة في يدها، وتطلب أن يصعد واحد منا بجانبها، لتبدأ في التمتمة بكلمات حفظناها جميعاً عن ظهر قلب.

ثم تقرأ المعوذتين وتضع الملح في يدي وتطلب مني أن أضعه تحت صنبور المياه وأردد “ابردي يا عين” ثلاث مرات.

وكانت تصنفنا بعد انتهاء الرقية إلى محسود وغير محسود. كانت العلامة على الحسد هي التثاؤب؛ فقد كانت تمر بحالة غريبة من التثاؤب المستمر يمنعها من التحدث واستكمال الرقية على وجه طبيعي إذا كان الشخص محسودًا، وكلما زادت درجة الحسد زاد التثاؤب، حتى إنها قد تكرر التثاؤب عدة مرات بعد كل جملة. وإذا كان الشخص غير محسود تنطلق في الكلام وتقول الرقية كاملة بسلاسة واتزان.

1000029587 من مصر المحروسة إلى مصر المحسودة .. عودتي إلى الوطن الذي لم يعد حلقة 9 .. بقلم: محمود عماد

كان هذا الأمر محيرًا لي في طفولتي ومازال يحيرني إلى الآن، لأنني أثق تمام الثقة أنها لا تتعمد خداعنا وإيهامنا بشيء غير حقيقي، لأنها كانت تؤمن بذلك بكل حواسها، ويظهر عليها علامات الألم والتعب بعد رُقيْة شخص محسود.

أخبرتني ستي أن أبوها سماها وأختها محروسة ومنصورة على اسم باخرتين تتبع الجيش المصري، وأنها تعتز بهذا الاسم كثيرًا لأن والدها كان يقول لها دائمًا: أنتِ محروسة من العين، ولا يستطيع أن يضركِ أحد. فهما كمصر “محروسة” من الأعداء و”منصورة” عليهم.

أخبرتني أيضًا عن جمالها الظاهر منذ نعومة أظافرها، وكيف أنها لاحظت ذلك في عيون من حولها، وشعورها بالاطمئنان من المستقبل حيث كان ما يؤرق الفتيات في هذا الوقت هو الحصول على عريس مناسب، أما هي فلم تكن تحمل هذا الهم وتستشعر أن العريس قادم في الطريق بلا شك.

لم تكمل ستي دراستها أو لم تبدأ من الأصل، فقد أرسلها أبوها إلى المدرسة، لكنها بعد عدة أيام شعرت بالكسل وطلبت منه البقاء في المنزل بجانب أمها، تتعلم الطبيخ والغسيل وأعمال المنزل التي تؤهل المرأة من أداء وظيفتها الطبيعية. لم يعترض أو يجبرها أبوها على شيء لا تريده.

ومرت الأيام وجاء العريس المنتظر، شاب طويل ووسيم له ملامح رشدي أباظة وعيون شكري سرحان، وعلاوة على ذلك فهو موظف حكومي له مرتب ثابت ومستقبل مضمون. واختصارًا فإن صفاته تتمناها أي فتاة لفارس الأحلام وربما تحسدها كل فتاة في الحي على هذا الزوج.

وعاشا حياة جميلة مليئة بالسعادة وأنجبا خمسة من الأبناء: أربعة بنات وولد. ولم يعكر صفو الحياة إلا السكتة القلبية التي أودت بحياة هذا الشاب، واستمرت ستي في مهمتها بالعمل وتربية أبنائها بعد أن تركها زوجها وفارق الحياة شابًا في مقتبل الثلاثينات من عمره، لتكمل هي الطريق وحدها برضا كبير وإيمان عميق وصلابة حديدية.

رغم هذا كله فقد كانت تخشى من الحسد، ربما لما حدث لزوجها، وربما لعادات الحسد والعين التي ترسخت في وجدانها منذ الصغر، وجعلها تتقن الرُقيْة التي تكتشف بها العلامات لتعرف كونها محسودة أو غير محسودة. ونسيت وعد أبيها لها ونسيت أنها محروسة!

أخبرتني ستي أنها لم تندم على قرار في حياتها سوى تركها للمدرسة، وأنها تتمنى أن يرجع بها الزمن كي تعود لتتعلم القراءة والكتابة؛ حتى تقرأ القرآن من المصحف وقتما شاءت. كلما أتذكر كلامها هذا ينتابني شعور أنها لو تعلمت، ما كانت لتلتفت للعلامات، ولن يقلقها أبدًا إذا أخبروها أنها محسودة.

فهل يا ترى تنجح خطة تبخير مصر، والتخميس في وجوه أعدائها، والدعاء على كل من أراد بها سوءًا في تحسين وضعها الاقتصادي!

بالطبع!

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات