من نهاية التاريخ إلى تاريخ النهاية.. قراءة في كتاب الأخرويات المسيحية والإسلامية.. ج(2) .. بقلم: د. كرم عباس

في الجزء الأول من مقدمة الكتاب تطرق دكتور كرم لعرض الكتاب للأفكار الموروثة عن ماهية الموت والفكرة الأخروية المخلصة في التراث  اليهودي والمسيحي والصلة بينهما.

بقلم: د. كرم عباس

screenshot-2024-07-29-at-16.52.23 من نهاية التاريخ إلى تاريخ النهاية.. قراءة في كتاب الأخرويات المسيحية والإسلامية.. ج(2) .. بقلم: د. كرم عباس

يقدم الكتاب نظرة كلية شمولية لتاريخ المسيحية المبكر المرتكز حول شخصية يسوع الناصري. فيبدأ ببشارة زكريا وإليصابات بميلاد يوحنا، وبشارة مريم بالمسيح، وزيارة مريم لإليصابات، ثم ميلاد يوحنا، وختانه. ثم ميلاد يسوع والاكتتاب، وتمجيد الرعاة والتسبيح لميلاد يسوع، ثم ختان يسوع، ورؤى يوسف، وقدوم المجوس، وسجودهم ليسوع، ثم الهرب إلى مصر بسبب أعمال القتل ضد أطفال بيت لحم من جانب هيرودوس.

ثم العودة من مصر إلى الناصرة، ومجادلة يسوع الصبي مع الأحبار في الهيكل، ثم دعوة يوحنا وتمهيده الطريق للمسيح، وتعميد يوحنا ليسوع، ثم التلاميذ، والنسب، والتجربة، والعودة إلى الجليل، والماء المتحول خمرًا، وفي الناصرة ليس نبيًا مقبولاً في وطنه، والتعليم في كفر ناحوم، وذيوع صيت المسيح بالمعجزات، والإبراء من الروح النجسة والشريرة، والصيد العجائبي، وإتباع سمعان للمسيح.

والإبراء من البرص، وشفاء المُقعد، وشفاء غلام قائد المائة، والجدال في الصوم، وشفاء اليد اليابسة، والجموع تتبع المسيح بسبب المعجزات، ثم طرد الباعة من الهيكل، ولقاء السامرية، والعودة إلى الجبل، وتسكين العاصفة، وخروج الشياطين إلى قطيع الخنازير، وشفاء المرأة النازفة، وإحياء ابنة رئيس المجمع، والوصايا للتلاميذ، واضطهادهم، والاعتراف علنًا بيسوع، وإحياء ابن الأرملة، وتوبة الخاطئة، وهلع هيرودوس من المسيح بعد أن قطع رأس يوحنا، وشفاء المقعد الذي حمل سريره ومشى، والخمسة أرغفة والسمكتان، والمشي على الماء، وشفاء الذين لمسوا يسوع، وشفاء ابنة الكنعانية، وشفاء الأصم، والسبعة أرغفة والقليل من صغار السمك، وشفاء الأعمى، ودفع الجزية لقيصر، وخبز الحياة، والاثنى عشر، وبينهم يهوذا، وظهورات موسى وإيليا، وشفاء الصبي المصاب بالصرع، والنبوءة بالموت والقيامة، ثم المرور بالسامرة، وإرسال التلاميذ للكرازة وشفاء المرضى، وتوعد الفريسيين والكتبة، وشفاء المرأة المنحنية الظهر.

هذه الرؤية المفصلة لتاريخ يسوع إنما تعتمد محض عرض النصوص فحسب. وبذلك يدشن المؤلف الخطوة الأولى في منهجية دقيقة محكمة، تبدأ بالعرض الموضوعي للنصوص، ثم تأتي بنصوص أخرى تناقض النصوص الأولى في السرد والرواية والتفاصيل، ثم تأتي مرحلة النقد والتحليل معتمدًا على النقد التاريخي من جانب، والنقد العقلاني والعلمي من جانب آخر.

ورغم تأكيدنا على دقة ونسقية هذه المنهجية المستخدمة، إلا أنه لو سلمنا بجواز النقد العلمي والعقلاني للنص الديني، لأصبح المعقول وحده هو القابل للتصديق، وكل ما هو معقول هو محكوم بالزمان والمكان والخبرة الإنسانية، رغم أن الدين – أي دين – إنما يؤسس لنفسه فيما وراء هذه الخبرة. فضلاً عن أن النقد التاريخي للنصوص الدينية لابد أن يضعنا أمام مأزق منهجي لا مفر منه. فهو مأزق مزدوج، متعلق بطبيعة النص الديني من ناحية، وبطبيعة النقد التاريخي من ناحية أخرى. فمن ناحية، فإن النص الديني نفسه لا يدعي أنه نصًا تاريخيًا يقدم حقائق تتعلق بوقائع يمكن الحكم عليها بالصدق أو بالكذب.

فالنصوص الدينية هي نصوص للإيمان وليست نصوص للتحقق، تستخدم عبارات ميتافيزيقية لا يمكن الحكم عليها بالطريقة الساذجة للوضعية المنطقية بأنها عبارات خالية من المعنى؛ فهي على الأقل تحمل معنًا للمصدقين لها، وتحمل معنًا كذلك للمكذبين؛ وذلك لأن آليات التحقق هنا ليست آليات الرجوع إلى الواقع، بل هي آليات الشعور والوجدان، والتي لها تأثير على مستويات السلوك الديني والإيماني. ومن ناحية أخرى، هناك أيضًا العديد من التساؤلات والشكوك المشروعة حول آليات النقد التاريخي ذاته، فما الذي يجعلنا نصدق أو لا نصدق؟ هل الاختلاف بين الروايات على سبيل المثال كاف بذاته للتشكيك في الأحداث؟ 

الأناجيل تزخر بالنبوءات والمعجزات والأمثال، مثال الفعلة والبطالين، والمدعوون إلى العرس، ومثال الغني ولعازر، وإبراء عشرة من البرص، ومثال الشاب الغني، ومن يبذل نفسه فداء المسيح، وتنبؤ المسيح بموته وقيامته، وطلب يعقوب ويوحنا ابنا زبدي، والمرأة الزانية، والجدال في أصل يسوع، وشفاء الأعمى منذ مولده، وإعلان يسوع عن بنوته للإله، ولعن شجرة التين، وإحياء لعازر، والتخطيط للتخلص من يسوع، وشفاء أعمى أريحا، ومحاولة الإمساك به قبل عيد الفصح، ودخوله أورشليم، ودفع الجزية لقيصر، والنبوءات بخراب الهيكل، والأهوال على أورشليم، ونبوءات المسحاء الدجالون والأنبياء الكذبة، وتآمر اليهود، وخيانة يهوذا، والعشاء الأخير، والإمساك بيسوع، وإنكار بطرس، والمحاكمة في دار الولاية، والمحاكمة أمام بيلاطس، وإطلاق براباس، والحكم على المسيح بالموت، والصلب، والطعن برأس الحربة، والموت، ثم القيامة، والظهور للتلاميذ.

452029769_10234279132498383_1817075948615417716_n-4 من نهاية التاريخ إلى تاريخ النهاية.. قراءة في كتاب الأخرويات المسيحية والإسلامية.. ج(2) .. بقلم: د. كرم عباس

وتضعنا هذه النصوص في معضلة ابستمولوجية، وهي معضلة التصديق من عدمه. فكيف للعقل أن يصدق المعجزات والرؤى والنبوءات؟ فمن بين كل ما سبق، فإن أصدق ما اشتملت عليه روايات الإنجيل، هو مشاهد محاكمة يسوع؛ وذلك لأنها تخلو من المعجزات تمامًا. فهي أحداث واقعية محتملة قابلة للتصديق. خيانة المسيح من جانب يهوذا، وتسليمه لليهود، ومحاكمته أمام بيلاطس واحتماله الآلام والصلب في رباطة جأش. جميعها أحداث مقبولة للعقل، ولا تشتمل على خوارق أو معجزات. 

يطرح الكتاب تساؤلات نقدية حول المعجزات، فكيف صمد يونان النبي في بطن الحوت؟ وهل هناك ما يبرر اعتبار هذه حقيقة حدثت بالفعل؟ أم أن لهذه المعجزة بعد رمزي وروحي؟ وهل هذه الحكاية هي انتحال لما رواه هوميروس من أن وحشًا بحريًا قد هاجم هرقل، وأن الأخير قد أمضى ثلاثة أيام في جوف الوحش يتغذى على كبده قبل أن يشق طريقه إلى الخارج.

 وعندما رأى تلاميذ المسيح أنه ظهر بصحبة موسى وإيليا، فكيف عرفوا أنهم موسى وإيليا رغم أنه لا توجد لهما صورًا، وليس لهما وصف دقيق في العهد القديم؟ ويتبنى المؤلف المنظور النفسي لتفسير مثل هذه الظواهر العجيبة. فالرؤى والتجارب الروحية العميقة والظهورات وغيرها، جميعها يمكن ردها إلى ظواهر نفسية متمثلة في الهلاوس والتهيؤات التي تنشأ نتيجة عوامل متعددة كالإجهاد البدني والإيحاءات والتغيرات البدنية العنيفة والمشكلات العاطفية وأشياء أخرى كثيرة لا زال العلم يجهلها إلى الآن. 

وليس للبعد النفسي أن يفسر المعجزات فحسب، بل حتى يمكنه أن يفسر رؤى الرسل وتجاربهم الروحية، حتى يسوع نفسه – وفقًا للكتاب – قد وقع أسيرًا لثقافة عصره وتصديق الناس لما بدا لهم أنه صاحب المعجزات. وبولس الرسول الذي اتخذت معه المسيحية بعدًا عالميًا- لكونه يهوديًا من جانب، ولغته يونانية من جانب آخر، وصاحب امتياز كمواطن روماني من جانب ثالث- هو نفسه كان صاحب مرض أو علة اختلف الباحثون في تفسيرها. وقصة تحوله للمسيحية بعد أن كان معذبًا للمؤمنين بها، هي بلا شك تجربة روحية عنيفة وعميقة، ويرى المؤلف أن هذه التجربة قد حدثت بالفعل، لكنها حدثت داخل عقل بولس. 

ربما يوافق العقل على أن الأحداث التي توصف بالمعجزات قد حدثت بالفعل من الناحية التاريخية، لكنها بالنسبة له ليست أحداثًا إعجازية، فهناك تفسير علمي وعقلاني واجب لكل من هذه الأحداث. على سبيل المثال، حتى وقتنا الراهن، وبعد كل هذا التطور العلمي والتكنولوجي، ما زال كثير من الناس لا يعترفون بالأمراض النفسية، ويميلون إلى تصديق المس الجني والشيطاني، ويصدق المريض تمام التصديق أنه مصاب بمثل هذه اللعنات، وبالتالي هو ميال للتصديق بإيحاء العلاج، فتصديق المريض لصلاح الشخص الذي يعالجه، وتجرده من المصالح قد يفيده في التعافي بالفعل. وهذا أولى بالحدوث في الزمن القديم. فكما يشير الكتاب قد شاع عن يسوع صلاحه وقيامه بالمعجزات، وهذا يعزز بطبيعة الحال من فرص شفاء المرضى، الذين هم في الأساس مرضى لحالات نفسية وعصبية معينة.

يتوسع الكتاب في تفصيل الصور المرسومة للمسيح داخل الأناجيل. فالثراء الذي قُدمت به شخصية المسيح قد سمح بأن يتم تناوله بأكثر من منظور. فهو الإله المتجسد في صورة إنسان، وهو النبي الذي أتى بدين جديد، وهو المصلح الاجتماعي والأخلاقي ضد الشر والفساد والاضطهاد، وهو الواعظ، والفيلسوف. وكل صورة من هذه الصورة تجد لها متسعًا رحبًا من التفسيرات والتأويلات داخل النصوص. ويتوسع الكتاب في تقديم كل صورة من هذه الصورة، محاولاً في النهاية توضيح الصورة الأقرب إلى تصديق العقل البشري.

 وتنال صورة المسيح كـ “إله متجسد” الجانب الأكبر من النقد العقلاني، ويؤكد الكتاب أن فكرة التجسد نفسها ليست فكرة جديدة، بل هي موجودة في الأساطير القديمة، وفي الأديان الأخرى. ولكن التجسد في المسيحية يرتبط بقضية أخرى لا تقل إشكالية، وهي قضية الكفارة. فقد نزل المسيح إلى الأرض ككفارة أو فداء عن الخطيئة الأولى التي ارتكبها آدم. وهي الفكرة التي تعرضت لكثير من النقد العقلاني والفلسفي. فمن ناحية، فإن العقل الفلسفي، يرفض فكرة توارث الخطيئة. ومن ناحية أخرى، يصعب الدفاع عن فكرة أن يكون الفداء نفسه هو (ابن الله)، فضلًا عن فكرة أن إتباع إنسان ذو طبيعة إنسانية كاملة، أكثر واقعية وأخلاقية من إتباع الإله المتجسد في طبيعة إنسانية كما رأي بعض الفلاسفة.

rembrandt-sacrifice-of-isaac من نهاية التاريخ إلى تاريخ النهاية.. قراءة في كتاب الأخرويات المسيحية والإسلامية.. ج(2) .. بقلم: د. كرم عباس

وهناك أيضًا صورة يسوع النبي، وهي صورة مقدمة في الأناجيل أيضًا، ويذكر الكتاب آيات الأناجيل التي أتى فيها وصف يسوع بالنبي، وبأفضل من نبي. ورغم أن صورة المسيح كإله متجسد، لا تتناقض مع صورته كنبي وفقًا للتعليم المسيحي- فهو الإله الحق، والإنسان الحق وفقًا لهذا الفهم- فإن الكتاب يبرز التناقض بين الصورتين من منظور آخر، وهو منظور العمومية والخصوصية. فيسوع بوصفه نبيًا عبرانيًا له بعض مواقف تعكس النظرة العبرانية الشعوبية المتعصبة ضد الأمم الأخرى، ومن ناحية أخرى هو الإله المتجسد الذي جاء لفداء البشرية بأسرها. ويبرز الكتاب التناقض بين الصورتين بتأكيده أنه إذا تقبلنا أن المسيح قد جاء لفداء البشرية، فكيف يُعَرّف تعاليمه بأنها خبز البنين الذي لا يستحق أن يؤخذ منهم ويلقى للكلاب.

وبعد أن يعدد المؤلف الصور المرسومة للمسيح، ويمارس عليها النقد المنطقي والعقلاني، يطرح التصور الأقرب للعقلانية في تصوره، وهو أميل لاعتبار المسيح معلم ومرشد عبراني صالح وقع أسيرًا لثقافته بكل ما فيها. ويتسق هذا التصور لدى المؤلف مع التصور الشمولي لديه بخصوص العقائد. فهو يؤمن بالتطورية، ويرفض قصص الخلق بوصفها قصصًا أسطورية تتجاوز حتى دلالتها الرمزية، وإذا كانت قصة الخلق قصة أسطورية شأنها في ذلك شأن أساطير الخلق الأخرى، فإن هذا يعني على سبيل المثال بطلان عقيدة الخطيئة الأولى، وبالتالي انهيار نسق العقائد المسيحية الرسمية الذي يتمحور حول فكرة الخطيئة، وهنا يكون تصوره المطروح عن المسيح بوصفه نبيًا عبرانيًا أو معلمًا أقرب للقبول المنطقي والعقلاني، وربما يمثل هذا اتساقًا في رؤية الكاتب حتى لو كنا نختلف معه في استخدامه للعلم والمنطق في نقد الإيمان. فيسوع التاريخي كما يقدمه الكتاب هو وليد الثقافة اليهودية في عصره، متشبع بها، وهنا يشير الكتاب إلى نبوءة المسيح عن نهاية الزمان، وأنها كانت نبوءة رائجة في عصره، وأن هذه النبوءات عن النهاية القريبة للعالم قد أخفقت بالفعل. فيسوع الذي كان يتنبأ بالنهاية السريعة للعالم، وأن جيله هو الجيل الأخير، هو وليد التاريخ ووليد الثقافة السائدة التي كانت لديها نبوءاتها ورؤاها الدينية الخاصة بالعالم، وهي نبوءات فشلت في التحقق. 

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات