مُعاوِية.. الفن كوسيط بين الدين والسياسة .. بقلم: عمرو عبد الرحمن

بقلم: عمرو عبد الرحمن

280709377_5758375077522788_4038074696299373968_n2 مُعاوِية.. الفن كوسيط بين الدين والسياسة .. بقلم: عمرو عبد الرحمن

مع بداية عرضه، صاحَب مسلسل “معاوية” الكثير من الشد والجذب، ربما لا يتعلق به كعمل فني بقدر ما يرتبط به كعمل تاريخي، يحكي قصة شخصية أقل ما يُقال عنها أنها شخصية جدلية لكنها محورية؛ لما أحدثته من أثر في فترة حرجة من تاريخ المسلمين.

معاوية بن أبي سفيان، الصحابي، مؤسس المُلك العَضُوض في دولة المسلمين، كاتب الوحي، قائد الفئة الباغية التي قتلت عمار بن ياسر.

هل نتعامل معه كرجل دين أم كرجل دولة؟ وهل يتعامل معه المسلسل كشخصية تاريخية من الماضي أم يحاول إسقاطه على الحاضر لإيصال رسائل سياسية؟

التنصيص السياسي في عصر الحداثة

يتحدث المستشار عبدالجواد ياسين في كتابه السلطة السياسية في الإسلام عن ظاهرة التنصيص السياسي. فيذكر قول ابن حنبل: “اعلم أن عليًا كان كثير الأعداء ففتش أعداؤه له عيبًا فلم يجدوا فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كيدًا منهم لعلي.”

ويُعقب ابن حجر فيقول ” فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما.”

فرغم الحديث عن عدم صحة هذه الأحاديث من ناحية السند إلا أنها أحدثت الأثر المطلوب وقتها من اسباغ الشرعية النصية على دعائم الحكم الأموي، خاصةً في مواجهة آل بيت النبوة، وبعد إنهائه عهد الخلافة.

333096 مُعاوِية.. الفن كوسيط بين الدين والسياسة .. بقلم: عمرو عبد الرحمن

والآن، وقد انتهت القدرة على التنصيص، هل يمكن أن يقوم الفن بدورٍ مماثل؟

ليست هذه المرة الأولى ـ ولن تكون الأخيرة – التي يتم استخدام الفن لأهداف سياسية. فنحن نجد المصريين القدماء يوحدون الله في مسلسل “لا إله إلا الله”، ونجد صلاح الدين نصير للقومية العربية في فيلم “الناصر صلاح الدين”، وما مسلسل “الحشاشون” عنا ببعيد.

دائمًا ما يتم التأكيد على أن الأعمال الفنية ليست وثائق تاريخية، فلا يؤخذ منها تاريخ، إنما يصوغ صانع العمل وجهة نظر خاصة في الإطار التاريخي ليُكسبها قيمةً أكبر ومصداقيةً أعلى. ودائمًا ما تنجح في إحداث الأثر المرجو منها تمامًا كما حدث في الماضي مع التنصيص السياسي.

فنجد أغلب المناقشات للأعمال الفنية ذات العمل التاريخي أكثر ارتباطًا بمدى الدقة التاريخية في تناول الأحداث والشخصيات، ومقدار الاتفاق أو الاختلاف مع الرسالة السياسية التي يريد صانع العمل إيصالها للمشاهدين، بينما يكون الاهتمام أقل بعناصر العمل الفني كأداء الممثلين والملابس والإنتاج والحبكة وبناء الشخصيات، وكل ما يرتبط بالصوت والصورة.

لا يستطيع الفن القيام بتنصيص التاريخ، فلا يمكنك بالاحتجاج بمسلسل أو فيلم لإثبات وجهة نظر تاريخية، لكن للفن قدرة فائقة على تنصيص الخيال، فعندما تسمع اسم مُعاوِية، سيرسم خيالك صورة الفنان السوري لجين اسماعيل وهو يؤدي دور مُعاوِية تلقائيًا.

1000026798 مُعاوِية.. الفن كوسيط بين الدين والسياسة .. بقلم: عمرو عبد الرحمن

تاريخ أم دين؟

يُضاف بُعد آخر للمناقشة في حالتنا هذه، وهو البُعد الديني. فنجد الاهتمام برأي الأزهر وتحريمه أو تحليله للمشاهدة، ونجد مؤسسات ذات مرجعية شيعية تبدي رأيها أيضًا في العمل. ذلك كله يرجع إلى أن العلاقة بين التاريخ والدين في هذه الفترة من تاريخ المسلمين هي علاقة ملتبسة، احتجنا فيها إلى صفحات من إبراز مناقب أبطالها، والرد على الشبهات التي يتم توجيهها إليهم، لأن الحفاظ على “عدالتهم” مطلوبة، فهم السند الذي نقل الدين، والدعامة التي تأسست عليها الدولة. الرواية التاريخية لحدثٍ ما، يكفي لنقضها وجود شخصٍ له مرجعية مختلفة ـ شيعي لدى السُنة وسُني لدى الشيعة ـ فأصبحت القواعد التي وضعناها لضمان صحة الرواية التاريخية، تضمن أن تكون روايتنا للتاريخ هي الصحيحة، وما عداها أباطيل.

فكان طلب الأحاديث لذكر فضائل الصحابة، وكان إطلاق المسميات اللاتاريخية على الأحداث التاريخية، كتحول الحرب الأهلية والصراع على الحكم إلى فتنة، وثورة الأمصار على عثمان إلى ثورة الغوغاء. ما يسمح للأحداث التاريخية بارتداء الرداء الذي نريده لها تبعًا للموقف الديني من الأشخاص لا الأحداث نفسها سياسيًا واجتماعيًا.

آثار جانبية

أوصلت الحلقات الأولى من المسلسل جزء من رسالته، فبعيدًا عن الاختصار في الحديث عن معاوية وأسرته قبل الإسلام، وبعيدًا عن إسلام معاوية سرًاـ وهو السر الذي لم يعلمه سواه ـ فها هو عمر بن الخطاب بعد غزوة حنيّن يقول: “والله لا أخشى على هذه الأمة إلا أن تكون قد عصت رسولها، فيقسمنا الله شيعًا ويذيق بعضنا بأس بعض، بدلًا من أن يكون بأسنا على أعدائنا.”

وها هم عمرو بن العاص ومعاوية ويزيد بن أبي سفيان، يؤكدون في أجنادين أن سبب هزيمة الفرس هو الصراعات الداخلية بينهم، فقد كان كيدهم بينهم لا على عدوهم.

الاتحاد والاصطفاف هو عيْن الطلب، لذلك مثلًا تجاهٓل المسلسل أحداث سقيفة بني ساعدة، التي كان فيها الاختلاف الأول بين المسلمين بعد وفاة النبي. يُقدم المسلسل مفهوم الاتحاد كمُسبِب للاستقرار والقوة، الاتحاد بمعناه الذي يرفض أي خلاف في الرأي ويهدف للقضاء عليه، حتى ولو بالقوة. قوة السلطة. السلطة التي يمثلها الرجل القوي، الذي يجب على الناس طاعته وعدم منازعته.

في اعتقادي، إن القيمة الأبرز في حياة معاوية هي قيمة العائلة. أبوه أبو سفيان أحد سادات قريش، والذي قضي الإسلام على سيادته لصالح نظام يهدف لهدم القبلية والمساواة بين الناس. أخوه يزيد الوالي في الشام كان طريق معاوية لحكم الشام بعد ذلك عن طريق عثمان بن عفان الأموي الذي أعلى من قيمة العائلة، إلى حد كان فيه انقلاب على الأساس الذي وضعه الإسلام بنبذ القبليّة. كما أفادته صلة القرابة بعثمان بجعله وليًا للدم، ما كان الخطوة الأهم في سبيل الوصول للحكم. وبالوصول للحكم قرر معاوية ترسيخ مبدأ العائلة بإجبار المسلمين على القبول بابنه يزيد حاكمًا من بعده.

والسؤال الآن، هل من جدوى مرجوة من مشاهدة المسلسل، رغم بدايته التي لا تبشر بخير؟

أعتقد أن مشاهدة والاشتباك مع الأعمال الفنية ذات الإطار التاريخي مهمة، لنزع القداسة عن البشر وتفكيك العلاقة بين الدين والتاريخ، والتصدي لعملية التنصيص في ثوبها الحداثي بواسطة الفن، بالتأكيد على أن العمل الفني ليس وثيقة تاريخية. ولا مجال ـ بكل تأكيد ـ للحديث عن منع الأعمال الفنية من العرض، لأن حرية الفن علامة على حرية البشر، شريطة أن تكون تلك الحرية حقًا للجميع.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات