نافذة بسام حجار الأنيق وبيته المتكلِّم … بقلم: أبانوب خلاف
والنوافذ الكاذبةُ التي أوهمتني أن ما أراهُ هو الخارج ومشهده، وليس الغَبَش الذي في عيني. ربما كانت الشجرة من أكاذيب النافذة. ربما كان الطيف الذي لاح لي على الناصية من أكاذيب النافذة أيضاً، وربما كانت عيناي. ربما كنت كالعميان!
بقلم: أبانوب خلّاف

أنا هنا لا أتحدث عن بسَّام نفسه بقدر ما أتحدث عن أرواح منزل ونافذة. إنني سأروي لكم قصة “نافذة وبيت شاعر أنيق”. هل سمعتم من قبل عن بيتٍ جدرانه تتكلم، وأثاثاته تهمس بلُغةٍ خشبيةْ؟ هل سمعتم عن أرواح الخشب، وعن نافذةٍ تطلُّ نحو الأبديةْ؟ إنه بيت بسَّام حجَّار، وإنها نافذةُ الشاعر. بسام حجار شاعر يعرف الأشياء، يعرفها جيدًا كما تحكي لنا الأسطورة القديمة¹ عن الاهتمام الذي يسير مع الإنسان كظله، ويصاحب الأشياء كآنسٍ يعرف أصل لقبه الإنسانيّ، ويندم على مصاحبتها أيضًا. قد خلقَ النافذة بوهمه، كمرآة إلهية تستحيل بها الأشياء إلى قصائد، خلقها ووقع في أسرها. –هل تذكركم حكاية الخالق الذي وقع في أسر خلقه بشيء؟–، وقد خلق أيضًا لغة للمنزل وللأشياء الصامتة. هكذا يبتلع بسام النافذة مرة، وتبتلعه هي أخرى. وهكذا صاحب الأشياء وأعيته مصاحبتها. لحظة واحدة! تراني أتحدث عن بسام كما أتحدث عن النافذة والبيت! يبدو أننا لن نستطيع فصل النافذة والمنزل عنه.

لنرى الآن بيت بسام حجار:
إنَّ بيته بيت الغياب، تتحدث فيه الحوائط والأثاثات، تتحدث لشاعر وحيد خائف. كان يخاف من أرواح الغرفةِ المخيفة، فيهرب منها إلى نافذته المتعالية عن التجربة، يلقي البيت وراء ظهره وينظر إلى ما يشاء. لكن البيت عند بسّام ليس مخيفًا فقط، بل إنه بضعةُ تناقضات. تصوَّر معي أن البيت، بكل ما فيه، به حياة ومشاعر؛ فيحزن في آنٍ ويغضب في آنٍ ويخيف في آنٍ آخر، إنه كأي كائن يشعر، ومشاعره ليست مستقرة، بل تتفاعل مع شاعرها
“كأن الغرفة أشباح أمكنة
تغصُّ بالجموع الملفَّقة
والضحكات
وأشخاص الموبيليا والملابس”.
إنَّ البيت عنده هو كل شيء، إنه عالمٌ داخل العالم وإذا غادره بسّام، يغادره البيت أيضًا بطريقةٍ حزينة؛ كمن يغضب صاحبه المقيم معه في المنزل فيشرع في جمع حاجاته والمغادرة “كأن البيت هو الذي يغادرنا حين نرحل: تترجَّلُ البراويز والرفوف عن جدرانه، وتغادر، الأواني، والأثاثُ، ويغادره اللون”. عندما نغادر البيوت تغادرنا. وليس البيت كل هذه الأشياء فقط، بل إنه أكبر من كل هذا؛ لأنهم قلَّة من يستطيعون التحدث مع البيت، قلَّة من يستطيعون التحدث مع الأشياء التي تبدو لوهلةٍ صامتة. هل نرى اليوم في الشوارع والمنازل من يأنس بالأشياء؟ لا. إنها لعمري أزمة روحية أخذت الإنسان من أنسه وجعلته غريبًا في المكان، غريبًا حتى عن أصله اللغويّ، وأصبح من آنسٍ إلى مخرِّب. بسّام هو حالة شعرية نادرة تعيش إنسانيتها بطريقة مفرطة ومدمِّرة، يرى في البيت الدفأ والحنان والغياب والخوف والسعادة والحضور أيضًا. يقول: “البيوت هي ما لا يبوح به رجال قساة. البيوت هي القبلات الخفيفة على الفم أو أسفل العنق، على الكتف العاري، أو بين الثديين، هي الأمسيات التي لا تبوح بها نساء قاسيات”. لا يعرف القساة معنى البيوت لأنهم شبه أموات لا يشعرون بما حولهم ولا يعرفون للأنس معنى. كتب لوركا ذات مرة في نعي أحد أصدقائه: “لا الثور يعرفك ولا شجرة التين، ولا الخيول ولا النمل في بيتك. لا الطفل يعرفك ولا المساء، لأنك مت إلى الأبد. لا ظهر الحجر يعرفك، ولا الحرير الأسود الذي هويت فيه. لا يعرفك التذكر الصامت فيك، لأنك مت إلى الأبد”. فالموت هنا هو حالة من اللا-أنس، حالة من الاختفاء الإنسانيّ؛ عندما يختفي أنسك تموت حتى لو كنت على قيد الحياة. وهذا ما كان يعيشه بسّام. نكتب الآن له: لا البيتُ يعرفك ولا النافذة، لأنك مت إلى الأبد. لا الحوائط تعرفك، ولا الشموع على طاولتك. لكن يعرفك الغياب الذي سقطت فيه. ونحن أيضًا نعرفك.
هكذا رأينا بيت الشاعر، لننتقل الآن إلى نافذته:

لا نكاد نقرأ بسّام حتى نجد ذكرًا في أغلب قصائده عن النافذة، لمَ النافذة يا بسّام؟ لم تعطي لنا مدخلًا جاهزًا كهذا؟ عادةً يبذل القارئ مجهود كبير ليصل إلى مدخل لكلمة الشاعر وطريقته، أو على الأدق، مدخل لما وراء كلمته وطريقته، أي لأسلوبه. لكن بسّام يكاد يقول لنا: خذوا، هذه هي قصيدتي، وهذه هي نافذتي المطلة على العالم، من يفهمها يفهم قصيدتي؛ فليست قصيدتي إلا نافذة من نوع آخر. لا أقول أن بسّام شاعر واضح وضوح تام كمن يكتبون مسوّادتهم المراهقة على أنها قصائد، حاشا! إنني فقط أقول أنه كان يريد أن يقدم لنا الطريق لفهمه (ولو بطريقةٍ ملاوعة؛ فالوضوح الكامل ليس من شيم الشعراء)، وأن نشتبك معه، وأن ننظر له من نافذتنا وبطريقتنا ومن عوالمنا المختلفة، كما كان ينظر هو من النافذة إلى عوالمه المختلفة. أو من الممكن أيضًا أن تكون خدعة من الشاعر لكي يبعد أنظارنا عن ما يريد أن يقوله فعليًّا، أليس هو الذي يقول أن القصة التي لا تكذب تكذبُ كثيرًا؟ ربما!
لنسأل الآن: ما هي النافذة؟
إنَّ نافذة بسام حجار ليست مجرد نافذة خشبية في الجدار مثلًا أو شيء من هذا القبيل، فيمكننا القول بكل جرأة أن نافذة بسّام حجار بداخله أكثر منها بخارجه، أي أن وجودها الفعليّ ليس من طبيعة فيزيائية. لها وجود في الخارج بالطبع، لكنه ليس الوجود الفعلي لها؛ فتجده يسير بها في الشوارع، يزيلها ويضعها وقتما يشاء “تأتي الخادمة في الصباح تعلق النافذة على الحائط”. فتجدها أيضًا تتحرك “كأن النافذة وراءك تنظر إلى الداخل وتبتعد هي أيضًا”. هذا عن طبيعة النافذة، لكن ما هي خصائصها، وإلى أي عالم تنتمي؟ خلقَ بسَّام من خياله أداة إلهية يرى بها الأشياء، ويحلق بها أيضًا، خلقَ شيئًا حيًّا من لا شيء فعلي! خلقَ شيئًا سحريًّا، يتحول ويتجول ويشعر ويخدع، يقول:
“هل أجد في الأعوام
التي مضت
في الأعوام التي
سوف تمضي
مكاناً أرحب من هذه النافذة”.
بالطبع لا! لا يوجد مكان أرحب منها. لكن ألم تحذر يا شاعر؟! ألم تسمع أن “الذي يحدق في الهاوية كثيرًا تحدق فيه الهاوية”؟ ألم تسمع أن الذي يخلق شيئًا من اللاشيء يعود وينقلب عليه هذا الشيء؟ –هل تذكركم حكاية الخالق الذي انقلبت عليه مخلوقاته بشيء؟– ألم تسمع عن هاوية “باسكال”² التي كانت تسير معه مثل ظله؟ إن بسَّام مرضه النافذة ذات الطوابع المختلفة. فكان يتنمى، إن استقبل بعض الضيوف، أن يرحلوا سريعًا ليعود ويقف خلف النافذة. وعندما يقف خلف النافذة يقول،: “يا الله، كم نحن وحيدين خلف النافذة!”. إنه أحبها! حتى إنه عندما جعل لها وقتًا عاد وتساءل هل يكفي هذا الوقت؟ أريد المزيد! فيواصل وقفته الطويلة خلف النافذة حتى يشعر بالألم في ساقيه ومرارة في فمه.
إن نافذته ليست حديثة، فمن يكتب الشعر تكون له نافذة أو أكثر، أو شيء آخر له اسم مختلف لكنه من نفس طبيعة النافذة، وإن عمرها الحقيقي من عمر الحنين والألم. على أي عالم مفتوحة نافذته العجيبة إذًا؟ نرصد هنا عالمين: أولهما الجحيم (علَّنا نقصد بالجحيم العالم الواقعي، ربما!): “مع الضوء يتدفق سيلٌ مضطربٌ من الصراخ عبر النافذة”. صراخ المعذبين بآثامهم، تلك التي ارتكبوا بعضها، ولم يرتكبوا بعضها الآخر. مُعذَّبون في الأرض، كأنهم في الجحيم، أو معذبون في الجحيم كأنهم في الأرض!
والثاني هو العالم الواقعيّ لكن بطريقة سحرية: “نقف خلف النافذة: نرى أننا في عراء الشارع في الليل تحت المطر”. طبيعتها سحرية تنقل الأجسام. “من النافذة لا أستطيع أن أعرف هل الليل قطعة بلور تطفئ نفسها. من النافذة الأشياء ليست هي الأشياء”. تراه يقتبس من ابن الفارض ويقول: “جَلَت في تجلِّيها الوجود لناظري ففي كلِّ مرئيٍّ أراها برؤية”. إنها نافذته! كان يقف أيضًا ورائها ليطمئن أن العالم ما زال هناك، أن الشجرة القديمة مكانها، أن البشر ما زالوا في عجلة من أمرهم، وفي سرعة وفي خبلٍ. يرى الناس في عجلةٍ كأن الوقت لا يتسع، كأن الوقت ينقضي. ليتابعوا الوظيفة والمدرسة وصحيفة الصباح. ليتابعوا الركض تحت نافذته في الاتجاهين. كان ينظر من خلف النافذة لكي يتيقن أنه ما زال على قيد الحياة. هذه طبيعة نافذته. لكن كأي فكرة نقع في أسرها وتتبعنا مثل ظلنا، نأتي ونشكك فيها، أو في أنفسنا، رغم عدم تخلصنا منها. نحدثها بسخطٍ كأن بيننا وبينها عداوة قديمة، تلك التي عايشناها وخلقناها وعشنا في ظلها. لكنها لحظات اليأس المرير والشعور بخداع الذات.. هل خدعتني النافذة؟ هل كل ما أقوله ليس إلا هذيان؟ ويحي! ما الذي يحدث!

“والنوافذ الكاذبةُ التي أوهمتني أن ما أراهُ هو الخارج ومشهده، وليس الغَبَش الذي في عيني. ربما كانت الشجرة من أكاذيب النافذة. ربما كان الطيف الذي لاح لي على الناصية من أكاذيب النافذة أيضاً، وربما كانت عيناي. ربما كنت كالعميان!”. يذكرنا بسام هنا بصديقه الشاعر سركون بولص عندما قال: “القصيدة بعد أن انتهت، بعد أن أكملتها وتسمّمت حياتي بآلامها، أنكرتني!”. ثمة حالتَي نكران وخيانة هنا، منها، أوا ربما منه.
إن بسّام لا يسلم نفسه هكذا عبثًا للنافذة، بل يعود ويشكك فيها وفي كل ما آمن، في كل رؤية عبرت من خلالها كأنه يشكك في العالم كله. بل ويندم أيضًا على مصاحبة الأشياء، يقول: “أعيتني صحبة الأشياء، من حولي، أصنع لها سِيَرَاً وأعماراً، وأخاطبها بنثرِ عيائي الذي جعلتُ منه الأشياء وما شُفيتُ من العَيَاءِ فخاطبتني الأشياء بنثر مواتها الذي جعلتني منه وما شُفيتُ من المَوات”. هذه ضريبة الشِّعر، هذه ضريبة الخلق، هذه ضريبة الحنين، هذا ما يفعله فينا الغياب، هذه براثن الوحدة. لكن يا بسّام أنا أتخيلك، بعد توقف النبض فيك، تخرج علينا من نافذتك لتكتب قصيدة عن مغادرتك النافذة، عن حياتك الجديدة في نافذة أخرى، وفي عالمٍ آخر تأنس به! وترحل إلى عالمك هذا، ترحل!
“أغادرُ النافذةَ
بقلبٍ يشيخُ ولحيةٍ طويلة
خلف النافذة نوافذ مُطفأة
خلف الشوارعِ شارعٌ طويل
لم أحسب أن الأمر يستحقُّ
لكنني أحذفُ النهارَ بالكتابةِ
أصمُتُ ولوقتٍ طويل”.
هوامش:
1: تقول الأسطورة: «إن الاهتمام كان يمر عبر نهر من الأنهار فرأى بعضًا من الطمي، فأخذه وبدأ يشكله في صورة تمثال، وبينما هو يتأمل التمثال ظهر جوبتير، فتوسل إليه أن يمنح ما قد صنعه روحًا، فلبى جوبتير طلبه، لكن عندما أراد الاهتمام أن يطلق اسمه على التمثال احتج جوبتير على ذلك، وطالب بأن يطلق اسمه هو على التمثال، وبينما كان جوبتير والاهتمام يتنازعان حول الاسم ظهرت الأرض وطالبت هي الأخرى أن يكون اسمها هو الذي يطلق على التمثال؛ لأنها هي التي قدمت قطعة من جسدها (الطمي) للاهتمام. احتكمت الأطراف المتنازعة إلى ساتورن (الزمان) وجعلته حكمًا في القضية، وقد قرر ما يلي: أنت يا جوبتير، بما أنك قد وهبت الروح للتمثال، ونفخت فيه من روحك فستأخذ روحه عند الموت، وأنت يا أرض: بما أنك قدمت الجسد، فعند موته ستستقبلينه من جديد، لكن الاهتمام بما أنه هو الذي صنعه، فسيحتفظ به طول حياته، وبما أن هناك نزاعًا حول الاسم فسمّوه باسم (الإنسان) “homo”؛ لأنه من التراب humus صُنع». وهذه الأسطورة تبين كيف أن الإنسان مصدره وأصله في الاهتمام الذي سيسري في دمه طالما كان حيًّا؛ الاهتمام بالوجود والموجود. وهو الذي رأيناه عند بسام.
والمعنى اللغوي أعادنا للسؤال عن أصل لفظة «إنسان»، وقد ارتضينا تفسيرًا يليق بشاعرنا ولو كان بشكلٍ غير كامل: «الإنسان» هو الذي «يأنس» بالموجود مهما كان جنسه أو نوعه: آنَسَ؛ سَلاَّهُ وَلاَطَفَهُ وَجَعَلَهُ يَشْعُرُ بِالأُنْسِ وَالأُلْفَةِ.
2- كان يعتقد (أي باسكال) -وفقًا لبعض الروايات- أن هاويةً ما تصحبه دائمًا عن يساره، حيث كان يضع كرسيًّا لتأمين نفسه.
يكتب بودلير:
«كانت «لباسكال» هَاوِيَتُه، التي تتحرَّكُ مَعَه.
وا أسفاه! كُلُّ شيءٍ هاوية،- الفِعلُ، والرغبةُ، والحُلْم،
والكلامُ!.»
الهامش والترجمة لرفعت سلام.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد