نظرات في الدرس الأدبي للقرآن … بقلم محمد ياسين
بقلم/ محمد ياسين
مهندس مدني/ باحث دكتوراه بكلية أصول الدين والدعوة – جامعة الأزهر.

بسم الله الرحمن الرحيم
”الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ“ (1-2 : سورة يوسف).
لايزال القرآن الكريم “النبأ العظيم” قادرا على شغل الناس به واجتماعهم حوله أو اختلافهم عليه “الذي هم فيه مختلفون” (3 : النبأ)، ولا تزال نصوصه قادرة على توليد المعاني المتجددة وإحياء المعاني القديمة في الوقت نفسه، ولا يزال المؤمنون به والجاحدون له يدورون حوله إثباتا ونفيا، قدحا أو مدحا.
إذ أنه بقدر ما تتطور معارفنا حول الطبيعة والنفس الإنسانية، وكلما اكتسبنا سببا جديدا يحملنا أن نرى الأشياء من زاوية مختلفة، فإن ذلك يدعونا إلى أن نضع المشكلات حين ندرسها بما يتفق وهذا الجديد من واقع العلم، والمسألة القرآنية لا ينبغي لها أن تخرج عن هذه القاعدة.
وقضية “إعجاز القرآن” بمعنى كونه معجِزا للبشر أن يأتوا بمثله قضية قرآنية من الأساس، فالقرآن ذاته تحدى العرب أن يأتوا ولو بسورة من مثله.
(وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) البقرة الآية 23.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) هود الآية 13.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) يونس الآية 38.
والإعجاز كما يعرفه مصطفى صادق الرافعي (1880 – 1937 م) “ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة على شدة الإنسان واتصال عنايته، ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدمه، فكان العالم كله في العجز إنسان واحد”.
وقد ظهرت آراء في مطلع القرن الثالث للهجرة تتكلم عن قضية “إعجاز القرآن” تتحدث عن كون القرآن ليس معجزا في ذاته بل الإعجاز هو صرف العرب عن معارضته مع قدرتهم عليه، فهذا إبراهيم النظّام (160 – 221 هـ) شيخ المعتزلة في زمانه وأستاذ الجاحظ، زعم أن الله قد صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليه، فكانت هذه الصرفة هي المعجزة، فلا إعجاز بياني للقرآن – عنده – بل إعجاز القرآن في إخباره بكل غيب مضى وكل غيب سيأتي ،، وقد انتصب لمعارضته صاحبه وابن مذهبه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (159 – 255 هـ) فألّف كتابه “نظم القرآن” للرد عليه، وإثبات أن القرآن في ذاته غاية في البلاغة التي أعجزت العرب عن الإتيان بمثله، ومن مقولاته: “فلو أن مشركي العرب استطاعوا المعارضة بالحروف لما اختاروا المقارعة بالسيوف”.
ثم جاء أبو بكر الباقلاني (338 – 403 هـ) وألف في “إعجاز القرآن” لـ “الرد على الملحدين في أصول الدين وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين، حتى جعل بعضهم يعدل بالقرآن بعض الأشعار ويوازن بينه وبين غيره الكلام بل ويفضله عليه” كما ذكر هو في مقدمة كتابه.
وظاهر من كلامه أن كتابه جاء رد فعل على قوم فضلوا أشعار العرب على القرآن، مما جعل الإمام الباقلاني مشغولا بالرد عليهم من خلال إظهار النقص والعيب في أشعار العرب أولا -واختار لذلك قصيدة لامرئ القيس- ثم افتتح فصلا يبين فيه بديع النظم القرآني وخلوه من كل عيب وتفوقه على كلام العرب.
وقد انتقد الأستاذ محمود محمد شاكر في تقدمته لكتاب “الظاهرة القرآنية” هذا المسلك من الإمام الباقلاني – مع اعترافه بعظيم فضله وسبقه في هذا المضمار – فقد اعتبر “شاكر” أنه لم تكن بالباقلاني حاجة إلى سلوك هذا الطريق الذي سلكه إلا محاولة الرد على الخصوم، و “شاكر” هنا ينطلق من منطلق أن الشعر الجاهلي صورة للغة العرب قبل الإسلام، وكلما جاءت هذه الصورة متقنة كلما كان التحدي لها أبلغ – كما سيأتي بيانه –
ثم جاء إمام البلاغة عبد القاهر الجرجاني (400 – 471 هـ) بكتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة).
وعبد القاهر هو أول من شرح وأسس لـ “نظرية النظم” وإن لم يكن أول من قال بها:
ويرى عبد القاهر أن اللفظة المفردة تكتسب مزيتها من انتظامها مع مفردات أخرى في جمل أو عبارات، وهنا يتلاءم معناها مع غيرها من الألفاظ المرتبطة معها في سلك واحد بحيث تنسجم مع ما قبلها وما بعدها لتأدية المعنى، وقد بنى نظريته تلك على أركان أربعة وهي بالتّرتيب: التقديم والتأخير، والحذف، والفروق، والفصل والوصل، وتمثل هذه الأركان مراحل إنشاء الكلام لإيصال المعنى إلى المتلقي، فالكلام يبدأ في الذهن فيقدّم المتكلم أو يؤخر في الجملة الواحدة ليكون المعنى أكثر وضوحا، ثم يقوم بتعديل بنية الجملة من خلال الحذف ليكون الكلام أبلغ وأجمل، وهو في ذلك يختار إما جملة إنشائية أو خبرية “الفروق” فيختار الخبر الأنسب والأوفق للمعنى المراد ثم تأتى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة الفصل والوصل، لا بين الجمل وبعضها فقط بل بين الكلمات داخل الجملة الواحدة.
يقول: “واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك، أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يعلّق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك، هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس وإذا كان كذلك، فبنا أن ننظر إلى التّعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها، ما معناه وما محصوله؟ وإذا نظرنا في ذلك، علمنا أن لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا، أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول، أو تأكيدا له، أو بدلا منه، أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون صفة أو حالا أو تمييزا، أو تتوخّى في كلام هو لإثبات معنى، أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنّيا، فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك ، أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطا في الآخر، فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بعد اسم من الأسماء التي ضمّنت معنى ذلك الحرف ، وعلى هذا القياس.”
وكتاب دلائل الإعجاز إنما هو شرح وتفصيل وضرب أمثلة على هذه السطور السابقة ، فقد قام عبد القاهر باستقراء كل ما كان معروفا -قبله- من وجوه او دلائل تصلح أن تكون موضع “الإعجاز” وناقشه وعقّب عليه، فبدأ بالكلمة المفردة في القرآن: هل يكمن فيها سر الإعجاز؟؟ ثم انتقل إلى تركيب الحركات والسكنات في الجمل القرآنية ونفى أن يكون لذلك أثر كبير في هذا الإعجاز، ثم تناول المقاطع والفواصل في الآيات وهكذا، حتى بلغ مرحلة القول بـ “النظم” وكاد يحصر سر الإعجاز فيه، قال: “وكما يُفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبنى عليها….وجدت المعوّل على أن هاهنا نظما وترتيبا، وتأليفا وتركيب، وصياغة وتصورا، ونسجا وتحبيرا …. “.
ونظرية النظم من أهم النظريات التي فسر بها المتقدمون عجز البشر عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وهي نظرية تلتقي عندها علوم اللغة بسائر فروعها، وعلم الكلام كذلك بحيث صار للأشاعرة -مثلا- تصور خاص لـ “نظرية النظم” يقابله تصور آخر للمعتزلة ،،، وهكذا.
القرآن هدى للعالمين
الإمام محمد عبده (1849 – 1905 م)
منهج عبده في التفسير مبني على نظرته إلى القرآن ذاته باعتباره “كتاب هداية” أو “كتاب دين” في الجوهر والأساس، وقد كانت رؤيته للقرآن الكريم وللنهج الذي نهجه عند تفسيره، أحد المعالم البارزة في الإصلاح الديني عنده.

يرى الأستاذ الإمام أن الإعجاز الحقيقي للقرآن ليس لغويا -في الأساس- كما أنه غير مستمد من كونه كتاب فن أو أدب أو تاريخ أو علوم وإنما من كونه كتاب دين يهدى الناس إلى المجتمع الفاضل والطريق السوي والخلق العظيم على مر الأزمنة رغم اختلاف المكان وتعدد الأجناس فـ “القرآن ليس كتابا فنيا فيكون لكل مقصد من مقاصده باب خاص به، وإنما هو كتاب هداية ووعظ ينتقل بالإنسان من شأن من شئونه إلى آخر ،، ولذلك فإن التفسير الذي نطلبه هو: فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم، في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، فإن هذا هو المقصود الأعلى منه، وما وراء ذلك من المباحث تابع له، أو وسيلة لتحصيله …. “.
وتطبيقا لهذا المنهج الذي نهجه الإمام في التفسير وجدناه ينكر ويستنكر موقف الذين يبحثون عن حقائق العلوم الطبيعية في القرآن الكريم، أما ما عرض له القرآن من إشارات كونية فإن مقصده هو العبرة والعظة لا تقرير الحقائق وإيراد النظريات فمثلا: “حقيقة البرق والرعد والصاعقة وأسباب حدوثها ليست من مباحث القرآن لأنها من علم الطبيعة وحوادث الجو التي في استطاعة الناس معرفتها باجتهادهم، وإنما تُذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار والاستدلال على قدرة الله وحكمته وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين”، فـ “ليس من وظائف الرسل عمل المدرسين ومعلمي الصناعات، فليس مما جاءوا له تعليم التاريخ، ولا تفصيل لما يحتويه عالم الكواكب، ولا بيان ما اختلف من حركاتها، ولا ما استكن من طبقات الأرض، ولا مقادير الطول فيها والعرض، ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها، والحيوانات في أنواعها، أما ما ورد من كلام الأنبياء من الإشارة إليها فإنما يقصد منه النظر إلي ما فيه الدلالة علي حكمة مبدعة أو توجيه الفكر إلى القول لإدراك أسراره وبدائعه.”.
وامتدادا لهذا المنهج وتطبيقا له على ما ورد في القرآن الكريم من قصص الأولين وذكر لتاريخ الأمم التي سبقت أمة الإسلام فالقرآن -عنده- ليس كتاب تاريخ، رغم هذا القصص التاريخي الذى جاء فيه، وليس لمفسر ولا قارئ أن يلتمس فيه حقائق التاريخ ووقائعه لأن ما فيه من قصص إنما جاء لبيان العظمة وتبيان مواطن الاعتبار فـ: “ليس في القرآن شيء من التاريخ، من حيث هو قصص وأخبار الأمم والبلاد لمعرفة أحوالها، وإنما هي الآيات والعبر تجلت في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم لبيان سنن الله فيهم، ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها، وإنما يذكر موضع العبرة فيها، فليس القرآن تاريخا ولا قصصا، وإنما هداية وموعظة”.
وفي مقدمة تفسير المنار الذي جمعه السيد رشيد رضا تلميذ الأستاذ الإمام نقد لأسلوب المفسرين الذين يشغلون القارئ بأهداف أخرى غير الهدف الأسمى (الهداية):
“إنَّما يَفهم القرآن ويَتفقَّه فيه من كان نُصْب عينِه ووجهة قلبه في تلاوته ما بيَّنهُ اللَّه تعالى فيه من موضوعِ تنزيلِه، وفائدةِ ترتيلِه، وحِكْمَةِ تَدَبُّرِهِ من علمٍ ونورٍ، وهدىً ورحمةٍ، وموعظةٍ، وعبرةٍ وخشوعٍ وخشيةٍ، وسُنَنٍ في العالَم مُطَّردة؛ فتلك غايةُ إنذارِه وتبشيره، ويلْزَمُهَا -عقلًا وفطرةً- : تقوى اللَّه بترْك ما نهى عنه، وفعْل ما أمر به بقدر الاستطاعة؛ فإنَّه كما قال: (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ). ولقد كان من سُوء حظِّ المسلمين، أنَّ أكثر ما كُتب في التَّفسير يشْغَلُ قارئه عن هذه المقاصد العالية، والهداية السَّامية: – فمِنْها ما يشْغَلُه عن القرآن بمباحث الإعْراب وقواعد النَّحْو، ونُكَتِ المعاني ومُصطلحات البيان. – ومنها ما يصْرفه عنه بجدل المتكلِّمين وتخْريجات الأصوليين، واسْتنباطات الفُقهاء المقلِّدين، وتأويلات المتصوِّفين، وتعصُّب الفرق والمذاهب”.

إعجاز القرآن والشعر الجاهلي
أثارت القضية التي أثارها د. طه حسين -رحمه الله- (1889-1973 م) في كتابه: “في الشعر الجاهلي” ضجة كبيرة حيث تناول فيها قضية “حقيقة الشعر الجاهلي” باعتباره منتحلا بعد ظهور الإسلام ومنسوبا إلى عصر ما قبل الإسلام، وهي القضية التي أثارها من قبل المستشرق “مرجليوث”.
“للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخى، فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة” (في الشعر الجاهلي: طه حسين).
في كتابه “الظاهرة القرآنية” يقلل الأستاذ مالك بن نبي من تأثير مقولة “طه حسين” على إعجاز القرآن إذا نحن تناولنا إعجاز القرآن بمنظار مختلف عن ما فعله أسلافنا.
“لقد قام إعجاز القرآن حتى الآن على البرهان الظاهر على سمو كلام الله فوق البشر، وكان لجوء التفسير إلى الدراسة الأسلوبية لكي يضع لإعجاز القرآن أساسا عقليا، فلو أننا طبقنا نتائج فرض “مرجليوث” لانهار ذلك من الأساس، ومن هنا توضع مشكلة التفسير على أساس هام بالنسبة إلى عقيدة المسلم، أعنى: برهان إعجاز القرآن في نظره”.
وانتقاد مالك بن نبي لحصر الإعجاز القرآني في البلاغة البيانية واعتمادها على الموازنة بينها وبين الشعر الجاهلي مبنى -كذلك- على أساس أننا لم نعد نملك في أذواقنا عبقرية اللغة العربية بحيث يمكننا أن نوازن بين نصوص القرآن ونصوص الشعر الجاهلي لنستنبط موازنة أدبية تقودنا إلى نتيجة عادلة حكيمة.
وقد انتقد الأديب محمود محمد شاكر -رحمه الله- تناول كتاب الظاهرة القرآنية باعتباره دراسة في “الإعجاز القرآني” من الأساس، وحاول شاكر وضع كتاب “الظاهرة القرآنية” في إطار البحث في قضية “إثبات النبوة وصدق الوحي” بمعنى البحث في المصدر الإلهي للقرآن الكريم وليس “إعجاز القرآن”.
“إعجاز القرآن” عند محمود شاكر
قدّم الأستاذ محمود محمد شاكر (1909 -1997)م في مقدمة طويلة تناول فيها مفهوم: “الإعجاز” و “الشعر الجاهلي” وما اُثير حوله وعلاقته بـ “إعجاز القرآن” وخلاصته:
1- أن الروع الذي أصاب الرسول الكريم في بداية الوحي “اقرأ” كان راجعا إلى مباينة هذا الذي سمعه الذي كان يسمع من كلام قومه والذي يعرفه من كلام نفسه.
2- أن النبي حين دعا قومه إلى الإيمان بهذا الوحي الذى يتلوه، لم يكن لديه من حجة أو دليل سوى هذا الذى يتلوه عليهم إذ أنه ذاته أصدق دليل على أنه ليس من كلامه ولا من كلام سواه من البشر.
3- أن وجه إعجاز القرآن كان من حيث “البيان والنظم” لا من حيث الإخبار عن الأمم السابقة وأنباء الغيب ودقائق التشريع أو إتيانه بالعجائب التي لا يعرفها البشر من أسرار الكون – فكل هذا لم يكن مما وُوجه به العربي الأول في بدايات الوحي الكريم، فإذا هم آمنوا به – لتيقنهم أنه كلام رب العالمين – كانوا مطالبين بكل بالإيمان بكل ما مضى من أخبار الأمم السابقة ودقائق التشريع وعجائب الدلالات وغيرها، أي أن إقرارهم من وجه النظم والبيان أن هذا القرآن كلام الله دليل يطالبهم بالإقرار بصحة ما جاء فيه، وان صحة ما جاء فيه ليست هي الدليل الذي يطالبهم بالإقرار بأن نظم القرآن وبيانه مباينٌ لنظم البشر وبيانهم.

وتحيّر العرب في شأن هذا القرآن وعجزهم عن مجاراته -للوهلة الأولى- وتسليمهم بجلاله (كما في قول الوليد بن المغيرة) كان لما يسمعونه من نظمه وبيانه لا لشيء آخر تناوله القرآن في محتواه.
1- أن تحدي القرآن للعرب ثم للبشرية جميعا ثم للإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بشيء من مثل هذا القرآن كان تحدّيا باعتبار نظمه المفارق لكلام البشر وليس باعتبار ما فيه من مكنون الغيب ودقائق التشريع وعجائب آيات الله في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذه التحدي المفضي إلى الإعجاز.
2- ثم أشار إلى أنه لا يكون للتحدي معنى إلا أن تجتمع لهؤلاء الذين نزل فيهم القرآن وللغتهم صفات بعينها، منها: أن تكون اللغة نزل بها القرآن محتمِلةً هذا القدر الهائل من التفاوت بين كلام الله وكلام البشر، وأن يكون أهلها قادرين على إدراك هذا الحاجز الفاصل بين الكلامين، وهذا يقودنا إلى دراسة ما بقى من كلام هؤلاء باعتباره شاهدا على بلوغ لغتهم غاية التمام والكلام والاستواء، فهل بقي من كلامهم شيء يستحق أن يكون شاهدا ودليلا على هذا ؟؟ نعم، بقى (الشعر الجاهلي) !!
وهنا يتبن ما أراد “شاكر” أن يوضحه من تأثير مقولة “مرجليوث” في الشعر الجاهلي ومن بعده “طه حسين”، حيث أن الشعر الجاهلي مرتبط بقضية “إعجاز القرآن” وليس بقضية “تفسير القرآن” كما أراد مالك بن نبي أن يصوره.
ذلك أنه وعلى الرغم من قلة ما وصلنا من “الأدب الجاهلي” فقد بقى مادة للغة العرب ومنبعا لتاريخ العرب في الجاهلية إلا أن أعظم ما بقى له هذا الشعر: أن يكون مادة لدراسة البيان المفطور في طبائع البشر لنقارنه بهذا البيان القرآني الذي فاق طاقة بلغاء الجاهلية، وكانت له خصائص ظاهرة تجعل كل متذوق للبلاغة والبيان لا يملك إلا الإقرار له بأنه من غير جنس ما يعهده سمعه وذوقه، وأن مبلّغه إلى الناس نبيُّ مرسل، وأنه لا يستطيع إن يفتريه من عنده لأنه بشر “وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ *فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ” (44 – 47 : الحاقة).
ويبدو أن انشغال الأستاذ الكبير محمود شاكر بالخصومة مع الدكتور طه حسين جعله يبالغ في دور الشعر الجاهلي في تبيان حقيقة الإعجاز القرآني -حتى على مستوى اللغة-.
وقد وجدتُ أن الأستاذ المرحوم محمد عبد الله دراز (1894- 1959)م في بحثه المقدم مع رسالة الدكتوراه عن القرآن الكريم كان أكثر اعتدالا في حكمه وأقرب إلى جو القرآن حين عرض خصائص التركيب القرآني ولغته التي تفارق طراوة لغة أهل الحضر وخشونة لغة أهل البادية وتجمع – في تناسق عجيب بين رقة الأولى وجزالة الثانية، قال: “وكل هذا في موضوعات غير مطروقة في الأدب الجاهلي، ونادرا ما تعرض لها الشعراء والخطباء إلا من بعيد وبصورة مبهمة وموجزة، بحيث يحق لنا أن نؤكد بدون تردد أنه من الناحية اللغوية البحتة، كان ظهور القرآن خلقا للغة جديدة ولأسلوب جديد”.

الظاهرة القرآنية
في كتابه “الظاهرة القرآنية” يحاول المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905- 1973) م أن يُدخِل إصلاحا أو طرحا جديدا للمنهج القديم في تفسير القرآن الكريم، ذلك المنهج القائم على الموازنة الأسلوبية، والمبني على الإعجاز اللغوي، وهو يرى أنه حتى تفسير المنار المنسوب للشيخ محمد عبده يفتقد إلى منهج جديد، وكل ما فعله أنه خلع على المنهج القديم صبغة عقل جديد.
يرى ابن نبي أن منهج التفسير القائم على القول بالإعجاز الأدبي أصبح من اختصاص طائفة قليلة من المسلمين، تلك التي تستطيع تذوق الإعجاز البياني -اكتسابا- كما كانت العرب تتذوقه -فطرة- وبهذا يفقد الإعجاز تأثيره على عموم المسلمين المخاطبين بهذا الكتاب.
وعليه، يجب أن يكون إعجاز القرآن صفة ملازمة له عبر العصور والأجيال، وهي صفة يدركها العربي بذوقه الفطري -في الجاهلية- كالوليد بن المغيرة، ويدركها بالتذوق العلمي كما فعل الجاحظ في منهجه الذي رسمه لمن جاء بعده، وعلى الرغم من أن المسلم المعاصر ليست لديه فطرة العربي الجاهلي، ولا ملكات عالم اللغة في العصر العباسي، فإن القرآن لم يفقد بذلك جانب “الإعجاز” لأنه ليس من توابعه بل من جوهره، لذا، وجب أن نتناوله في صورة أخرى وبوسائل أخرى.
ومالك بن نبي هنا يقصد أن تأثير القرآن على النفوس -والذي لا يزال قائما على الرغم من فقدان ملكة اللغة والبيان- ينبغي أن يُدرَس من جوانب أخرى غير لغوية، وهذا الجانب -من وجهة نظره- هو: تطبيق التحليل النفسي لدراسة القرآن بوصفه ظاهرة، فهو يتناول الآية من جهة تركيبها النفسي الموضوعي أكثر مما يتناولها من ناحية العبارة.
يقول: “إن الجانب الأدبي للرسالة، ذلك الذى كان في نظر المفسرين التقليديين موضوع الدراسة الأول، يفقد بعض أهميته شيئا فشيئا في عصرنا الذى يهتم بالعلم أكثر من اهتمامه بالأدب”.
فيمكننا القول أن مالك بن نبي أخذ في الدرس القرآني من جانب الأفكار القرآنية من زاويتها النفسية والتاريخية، ومن جهة أهميتها الاجتماعية، وهو في طريقه لذلك يدرس ظاهرة النبوة وعلاقتها بالبيئة التي ظهرت فيها ثم يقارن القرآن بالكتب السماوية قبله (وعقد مقارنة مستفيضة في 50 صفحة لقصة يوسف عليه السلام في القرآن والكتاب المقدس).
الشيخ أمين الخولي (1895- 1966م)
القرآن باعتباره كتاب العربية الأكبر
تناول الأستاذ الشيخ أمين الخولي -رحمه الله- مناهج المفسرين أو اتجاهات التفسير منذ نشأته إلى اليوم، وأورد نقد الأستاذ الإمام محمد عبده للكثير من هذه الاتجاهات القديمة للمفسرين والتي أخرجتهم عن المقصد الأسمى للقرآن وهو الهداية.
إلا أن الشيخ أمين الخولي وإن كان يتفق مع أستاذه في كون الهداية مقصد قرآني -بلا ريب- فإنه لا يجعله الغرض الأول من التفسير بل يرى الخولي أنّ: “الغرض الأسمى من دراسة القرآن والنّظر فيه ليس الاهتداء فحسب، بل إنّ هناك مقصدا أسبق وغرضا أبعد تتشعّب عنه الأغراض المختلفة، وتقوم عليه المقاصد المتعدّدة، ولا بدّ من الوفاء به قبل تحقيق أي مقصدٍ آخر سواء أكان ذلك المقصد الآخر علميًا أم عمليًا، دينيًا أم دنيويّا، وذلك المقصد الأسبق والغرض الأبعد هو: ”النظرُ في القرآن من حيث هو كتابُ العربية الأكبر وأثرُها الأدبي الأعظم”.
بالإضافة إلى ذلك يرى الشيخ الخولي أنّ كلّ الأغراض التي تطلَب من القرآن الكريم تأتي بعد النظر إليه على أنّه كتاب العربية الأكبر، فالغرض الاجتماعي أو الإصلاحي أو غرض “الهداية” أو أيّ غرض من الأغراض لا بدّ وأنْ تسبقه النظرةُ إلى هذا الكتاب على أنه أساسُ العربية، وفهم هذا المبدأ سبيلٌ موصّلة إلى فهمه كلّ الأغراض، يقول: “ثمّ لكلّ ذي غرض أو صاحب مقصدٍ بعد الوفاء بهذا الدرس الأدبي أنْ يعمدَ إلى ذلك الكتاب فيأخذ منه ما يشاء ويقتبس منه ما يريد، ويرجع إليه فيما أحبّ مِن تشريع أو اعتقاد أو أخلاق أو إصلاح اجتماعي أو غير ذلك، وليس شيءٌ من هذه الأغراض يتحقّق على وجهته إلا حين يعتمد على تلك الدراسة الأدبية لكتابِ العربية الأوحد دراسة صحيحة كاملة، مفهمة له، وهذه الدراسة هي ما نسمّيه اليوم تفسيرا لأنه لا يمكن بيانُ غرض القرآن ولا فهْم معناه إلا بها.. فالتفسير اليوم هو الدراسة الأدبية الصحيحة المنهج، الكاملة المناحي، المنسّقة التوزيع”.

ملامح المنهج الأدبي في التفسير عند الشيخ أمين الخولي
يرى الأستاذ الخولي -بناء على ما ذكره في مادة التفسير بدائرة المعارف الاسلامية- أنّ المنهج الأدبي في التفسير صنفان: “وذلك باعتبار القرآن نصّا أدبيا”.
أ- صنفٌ يتناول دراسةَ ما حول القرآن وهي نوعان: قريبة خاصّة وبعيدة عامة، فالدراسةُ الخاصّة هي ما لا بدّ من معرفته ممّا حول القرآن الكريم من نزوله وجمعه وترتيبه وناسخه ومنسوخه، (وهو ما نسميه : علوم القرآن)، وأمّا الدراسة العامّة فهي ما يتّصل بالبيئة المادية والمعنوية التي ظهر فيها القرآن وعاش، وفيها جمع وفيها قرئ وحفظ، وخاطب أهلها أوّل مَن خاطب، وإليهم ألقى رسالته لينهضوا بأدائها وإبلاغها .. فكلّ ما يتّصل بتلك الحياة المادية العربية أو ما يتصل بتلك البيئة المعنوية لهذا المجتمع من تاريخ وعقائد ونظام قبلي وغير ذلك من أنماط الحياة إنما هي وسائلُ ضرورية لفهم هذا القرآن المبين. وعلى حد تعبيره -رحمه الله- ”ما إن نذكر الحجر والأحقاف والأيكة ومدين ومواطن ثمود ومنازل عاد، ونحن لا نعرف عن هذه الأماكن إلا تلك الإشارات الشاردة، فما ينبغي أن نقول إننا فهمنا وصف القرآن لها ولأهلها، أو أننا أدركنا مراد القرآن من الحديث عنها وعنهم“.
ب- صنف يتناول دراسة في القرآن الكريم: وهو ما يمثل الجزء الكبير في ملامح المنهج الأدبي في التفسير وهو دراسة القرآن نفسه، ويمكن تمييزها في أربعة مراحل ذكرها الخولي في ورقته المشار إليها:
1- النظر في المفردات وتتبع المراحل الزمنية والتطورات الدلالية التي مر بها اللفظ، فقد : “تداولت هذه اللّغة العربية أفواه أممٍ مختلفة الألوان والدماء والماضي والحاضر فتهيّأت مِن كلّ ذلك خطواتٌ تدريجية فسيحة متباعدة في حياة ألفاظ اللغة العربية حتى أصبح مِن الخطأ المبين أن يعمَدَ متأدّب إلى فهم ألفاظ النّص القرآني الأدبي الجليل فهمًا لا يقوم على التقدير التّام لهذا التدرّج والتغير الذي مسّ حياة الألفاظ ودلالاتها” ويعترف الخولي بصعوبة هذه المهمة في زماننا، نظرا لأن ما لدينا من معاجم لا يسعفنا في تحقيق تدرج الألفاظ وتطور مدلولاتها.
2- أن يحدّد الاستعمال القرآني للّفظة بعد أن حدّد أطوارها الزمنية وتطوراتها الدّلالية، فتتبع ورودها في القرآن الكريم هل أتمّ استعمالها بمعنى واحد، أمْ بمعان متعدّدة أو متغايرة؟ فإذا فرغ من ذلك استطاع أن يفسر بها مطمئنا إلى معناها الحقيقي الذي وصل إليه من خلال دورانها في القرآن الكريم.
3- النظرُ في المركبات أي النظر في تركيب الجُملة كاملة، وهنا يؤكد الخولي ضرورة المفسر الأدبي للجوء إلى العلوم الأدبية من نحو وبلاغة، إلخ، لكن لا على أن الصنعة النحوية عمل مقصود لذاته، ولا لون يلوّن التفسير كما كان الحال قديما، بل على أنها أداة من أدوات بيان المعنى وتحديده، فتكون النظرة البلاغية هي النظرة الأدبية الفنية التي تتمثل الجمال القولي في الأسلوب القرآني، وتستبين معارف هذا الجمال، وتستجلي قسماته، لمعرفة فنون القول القرآني وموضوعاته فنا فنا، وموضوعا موضوعا.
4- التفسير النفسي المبني على الإدراك البلاغي: لأن ما استقر من تقدير صلة البلاغة بعلم النفس قد مهّد السبيل بالقول بالإعجاز النفسي للقرآن الكريم -على حد تعبير الخولي- فالتفسير النفسي يقوم على أساس وطيد من صلة الفن القولي بالنفس الإنسانية لأن الفنون على اختلافها -ومن بينها الأدب- ليست إلا ترجمة لما تجده النفس، ويرى الخولي أن التفسير النفسي -بالمعنى الذي ذكره- ربما يكون أحسم لخلاف بعيد الغور كثير الشعب بين المفسرين، فالملاحظة النفسية حين تعلل نسج الآية وصياغتها ترفع المعنى الذي يفهم منها إلى أفق باهر السناء، وبدون هذه الملاحظة يرتد المعنى ضئيلا ساذجا لا تكاد تطمئن النفس إليه، وفى هذا السياق يذكّر الخولي بما عرض له الأستاذ الإمام محمد عبده من صلة بين التفسير وعلم الاجتماع، فقد ذكر “أن علم أحوال البشر مما لا يتم التفسير إلا به، وأنه لا بد للناظر في الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم واختلاف أحوالهم قوة وضعف، وعلم وجهل، وعز وذل، وإيمان وكفر”.
التفسير الموضوعي
يرى الشيخ الخولي أن الفهم الكامل للقرآن الكريم لا يتم إلا من خلال “التفسير الموضوعي”، ويعنى به أن يتتبع المفسر القضية -موضوع الدراسة- في القرآن طولا وعرضا، ويتتبع المناسبات والملابسات والأساليب والأجواء التي أحاطت بهذه النصوص، فيقول: “فجُملة القول أن ترتيب القرآن الكريم في المصحف قد ترك وحدة الموضوع، وقد ترك الترتيب الزمني لظهور الآيات، وقد فرّق الحديث عن الشيء الواحد والموضوع الواحد في سياقات متعدّدة ومقامات مختلفة ظهرت في ظروفٍ مختلفة، وذلك كلّه يقضي في وضوح يفسر القرآن موضوعا موضوعا، لا أن يفسر على ترتيبه في المصحف الكريم سورا أو مقطعا”.
وإذا كان الشيخ الخولي لم يترك لنا تفسيرا يطبق من خلاله نظريته هذه، فقد فعلها تلميذه الدكتور شكري عياد (1921 – 1999 م) في كتابه “من وصف القرآن – يوم الدين والحساب”، فقد طبّق من خلاله نظرية التفسير الأدبي من حيث كونها تفسيرا موضوعيا يتناول قضية بعينها وهى قضية (يوم الدين والحساب) ويستعرض ورودها في القرآن متبعا منهج أستاذه الذي رسمه في ملامح التفسير الأدبي، فهو يبدأ بدراسة “المفردات” أو الألفاظ ومدلولاتها ثم عن التراكيب أو الأساليب ثم التأثير النفسي، وهكذا.
نقد التفسير الموضوعي للقرآن الكريم
يقدم الأستاذ جمال عمر في كتابه “مقدمة عن توتر القرآن” عرضا للجهود التي بُذلت في تحديث الدرس القرآني ومنها تلك النظرة الأدبية للقرآن الكريم التي بذر بذورها الشيخ أمين الخولي، وكان من أهم تجلياتها التعامل مع آيات القرآن عبر تجميعها كموضوعات ودراستها حسب تاريخ نزولها.


ويرصد جمال عمر نقطتي ضعف -مع تقديره لإنجاز الشيخ الخولي وجهوده- في منهجية التفسير الموضوعي وهما:
1- أن القرآن الذي أثّر في أوضاع وتاريخ المسلمين كان قرآن ترتيب المصحف الحالي، ترتيب التلاوة وليس قرآن “ترتيب النزول” – رغم أهميته- وبالتالي فمن الأهمية بمكان لأي منهج يتعامل مع القرآن -دراسة وفهما لتأثيره- أن يتعامل معه في بنيتيه هاتين (ترتيب التلاوة وترتيب النزول) ولا يلغي أحدهما لحساب الأخرى.
2- أن الخلفية الفقهية للشيخ الخولي جعلت اهتمامه بدراسة آيات كل موضوع دراسة متكاملة وكذلك طبيعة الدرس اللغوي والبلاغي والفني في النصف الأول من القرن العشرين، هذا حصر ثمار الجهد أن تتعدى الدرس الموضوعي إلى أنساق أوسع تتعامل مع مستويات وعي ولاوعي الجماعة المُتلقّية للخطاب القرآني.
نقد التفسير الأدبي للقرآن الكريم
لاشك أن القرآن الكريم هو كتاب العربية الأكبر ودستوره الأقدس، لكنه يبقى قبل هذا ومعه وبعده كتاب هداية ودين بالمقام الأول، هذا هو هدفه الأول الذي أعلن القرآن ذاته عنه في مواضع كثيرة على طول القرآن وعرضه، بل هو أول ما يفجؤك عند تلاوته لينبهك إلى هدفه (الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (1-3 : سورة البقرة)، صحيح أن مدرسة التفسير الأدبي تؤكد على هداية القرآن، لكنها تجعله غرضا فرعيا بينما البيان أو القيمة الأدبية هي: الهدف الأسمى !!
تظل اللغة مهما بلغت الأوج في قمتها هو الوعاء الذي يحمل المعنى، فإن الله -تعالى- لم يُنزل الكتاب ويرسل الرسول ليعلم الناس اللغة ويوقفهم على أسرار البيان.
وغاية ما يفعله هذا الاتجاه من التعامل مع القرآن أن يُخرِج لنا دراسات رصينة حول لغة القرآن وبيانه ودقة تصويره وموسيقى ألفاظه كما فعل سيد قطب باقتدار في كتابيه “التصوير الفني في القرآن” و “مشاهد يوم القيامة في القرآن” وهذا أمر عظيم، لكنه ليس المدخل الرئيسي لفهم القرآن وتفسيره.
إن إشكالية هذا الاتجاه -من وجهة نظري- هو: أنها حولت “المدخل الأدبي” لفهم القرآن من كونه أحد أهم المداخل لفهم القرآن وتفسيره إلى كونه “المدخل الوحيد” للفهم والتأويل، ولعل هذا هو ما حدا بالأستاذ مالك بن نبي لمحاولة الخروج من أسر “الإعجاز اللغوي” للقرآن إلى آفاق أكثر رحابة للإعجاز.
إن المنهج الأدبي للتفسير الذى أرسى معالمه الشيخ أمين الخولي يجعل من لغة العرب -تلك التي لم يصلنا منها إلا القليل- حاكما على فهمنا للغة القرآن.

يرى الدكتور طه جابر العلواني (1935 – 2016 م) أن هناك فارقا كبيرا بين اللغة حين يستعملها الإنسان للتعبير عن مكنوناته، واللغة حين يستعملها خالق الإنسان ليضمّنها نوره وهداياته لخلقه: “إن الجمل والعبارات في هذه الحالة لا تكون مجرد جمل وعبارات بل تصبح آيات كالشمس والقمر وسائر الآيات الإلهية الأخرى، وتطوى هذه الآيات في جوانحها ما تطويه من الهداية والنور والمعاني والإجابات التي تتكشّف عبر العصور بتكشّف وظهور حاجات الأمم، وأسئلة ومسائل الحياة وأزماتها”.
فكأن المعاني تتنزل مع بروز الأزمات والمشاكل، وتبقى اللغة والألفاظ وعاء قيمته الحقيقية تكمن في قدرته على استيعاب هذه المعاني المتولّدة دائما والمتجدّدة أبدا، يقول العلواني: “فإن أيّ عصر تالٍ أو أية بيئة أخرى يمكن أن تجعل من أسئلتها “أو حاجات عصرها” أسباب نزول للمعاني الجديدة التي تنطوي الآيات عليها”.
إني أقرأ القرآن مرة تلو الأخرى فأجده يغيّر من تصوراتي عن الكون والحياة -أنا الناشئ في حضن الإسلام أبا وجدا-، فأدرك أن من أهدافه بناء تصورات عن الكون والحياة، عن الإنسان ومصيره ومآله، يعيد ترتيب منظومة القيم في عصر تختلط فيها القيم ويُعاد ترتيبها وفقا لأوضاع السوق.

في كتابه “مدخل إلى القرآن الكريم” يشير الدكتور محمد عبد الله دراز -ابن الأزهر والسوربون وهي جزء من رسالته للدكتوراه- إلى مظاهر ثلاثة للقرآن: الديني والخلقي والأدبي: “فإذا كان القرآن – بعيد عن أي عامل خارجي قد أثر بصفة دائمة على عقول جِدّ مختلفة فلابد أن يكون ذلك راجعا إلى ما له من جاذبية خاصة بتوافقه الكامل مع أسلوب الناس الفطري في التفكير والشعور، وباستجابته لما تتطلع إليه نفوسهم في شؤون العقيدة والسلوك، وبوضعه الحلول الناجحة للمشكلات الكبرى التي تُقلِق بالهم، وبمعنى آخر لابد أنه ينطوي على ما يشبع حاجتهم إلى الحق والخير والجمال بما يجمع من صفات العمل الديني والأخلاقي والأدبي معا في آنٍ واحد”.
لستُ أشك أن المنهج الأدبي في تفسير القرآن محاولة جادة لتحليل الخطاب القرآني تحليلا بيانيا قبل كل شيء، لكن إشكاليته أنه قد يفرّغ النص القرآني من كونه “رسالة” بالمقام الأول، رسالة صُبّت في قالب بياني معجِز، وحينئذ يصبح المنهج الأدبي “أداة” لفهم وتحليل الخطاب وليس غاية في حد ذاته.
أذكر أنني سمعت من د. يحيى الرخاوي -الطبيب النفسي والناقد الأدبي- حوارا دار بينه وبين الأستاذ نجيب محفوظ حول روايته “الشحاذ”، سأله الرخاوي عن الحل الصوفي: هل يكون مخرجا لأزمة الإنسان المعاصر، قال له محفوظ: إن ما لا يصلح أن يكون حلا للجميع لا يصلح أن يكون حلا.
إن مقولة “المنهج الأدبي” تجعل فهم القرآن حِكرا على من يملك ناصية البيان وأسبابه، والقرآن كتاب الله للناس، كل الناس.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد