نظرية النسخ في القرآن هل نجحت فى رفع التوتر ج١ .. بقلم: محمد ياسين
يتناول محمد ياسين في هذا المقال قضية النسخ في القرآن من عدة زوايا.. وهذا هو الجزء الأول منه.
بقلم: محمد ياسين

في إطار رغبتي في الوصول إلى درجة من العلم تؤهلني لفهم الدين، قرأت كثيرًا عن شروط طالب العلم التي تؤهله للاجتهاد أو فهم الأحكام أو الفتوى أو تفسير القرآن أو ما شابه، ومن أهم هذه الشروط أو الضمانات أن يكون طالب العلم عالمًا بالناسخ والمنسوخ.
وقد قيل لأحدهم: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟
قال: لا
قيل له: هلكت وأهلكت
ومن ثمّ فقد كانت معرفة الناسخ والمنسوخ مطلبًا مهمًا للوصول لدرجة تؤهلني لفهم القرآن وآياته وأحكامه، لكنني كنت دومًا أتساءل –بيني وبين نفسي بالطبع – ناسخ!! ومنسوخ!! في القرآن الكريم، لماذا؟ ومن الذي حدّد هذا النسخ في كتاب الله؟ وما هي آلياته؟ وكيف يتأتى لفقيه الجرأة على القول بإلغاء آية من القرآن تلاوةً أو حكمًا من تلقاء نفسه أو باجتهاد شخصي؟

لكنني – وباعتبار أزهريتي المتوطنة في كياني – تجاهلت هذه الأسئلة في نفسي، وكتمتها كتمان المحب لألم محبوبه، جحدتها، وكتمت السهم في كبدي، “جرح الأحبة عندي غير ذي ألم”، لكن، فى كتابه “مقدمة عن توتر القرآن” نكأ “جمال عمر” هذا الجرح، و”نكش عشه” وأثار بداخلي التساؤل من جديد.
هل هي نظرية؟

يرى الدكتور طه جابر العلواني (1935 – 2016 م) أن قضية الناسخ والمنسوخ تحولت بفعل الترسيخ والقدم إلى نظرية، والحقيقة أن قضية الناسخ والمنسوخ في علوم القرآن وتجلياتها في علم الأصول والفقه والتفسير أصبحت من الثبات والرسوخ عند الأصوليين والمفسرين والفقهاء لدرجة أن تعريفات اللغويين لمعنى كلمة “النسخ” يسيطر عليها مفهوم النسخ الاصطلاحي عند الفقهاء، وبالتالي فهي “نظرية” لها ضوابطها وأدلتها، ويستطيع القائل بها تفسير وتأويل العديد من الظواهر القرآنية على ضوئها.
لماذا “النسخ “؟!
على الرغم من أن القول بالنسخ ليس له أصل “صحيح وصريح” في القول به، إلا أن الفقيه المسلم استساغ لنفسه القول بوجود نسخ في القرآن الكريم.
درءًا لما هو أخطر على القرآن –من وجهة نظره– وهو: وجود تعارض قائم بين نصوص القرآن، بحيث لا يمكن رفع هذا التعارض –في ذهن المجتهد– من دون إبطال حكم أحد النصين أو إزالته (التخلص منه –إن صح التعبير- أو هو على حد تعبير ابن الجوزي (تـ 597 هـ) في “نواسخ القرآن”: “وقوع تناقض بين حكمين شرعيين ولايمكن الجمع بينهما فى سلوك واحد فيكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا”).
وقد توسّع القدماء في القول بالنسخ، فلم يقفوا به عند حدود النص القرآني بل تعدوا به إلى السنة النبوية، ووضعوا لذلك ضوابط، بحيث يقع النسخ بين نصين متكافئين أو أحدهما أقوى من الآخر، فالسنة تُنسَخ بالقرآن وليس العكس، والسنة قد تنسخ السنة، وهكذا، وفى الأمر خلاف أيضًا.
وينقسم النسخ –كذلك– باعتبار “الحكم والتلاوة” إلى ثلاثة أقسام (والتقسيم للسيوطي (تـ 911 هـ) وعليه سار العلماء): مانُسخ حكمه وتلاوته مثل حديث عائشة عن نسخ “عشر رضعات معلومات” بـ “خمس معلومات”، ومانُسخ حكمه دون تلاوته مثل نسخ آيات الزكاة المفروضة لآيات الإنفاق بوجه عام ونسخ “قل إن تبدوا مافي أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله (البقرة 284) بالآية التي تليها “لايكلف الله نفسا إلا وسعها ( 286)”، وغيرها من الأمثلة الكثير مما ذكره السيوطي وغيره، وهو في الحقيقة موضع بحثنا هذا (الآيات المقروءة في القرآن الذي بين أيدينا وتبدو للقارئ أنها متعارضة). القسم الثالث هو ما نُسخت تلاوته دون حكمه، وقد نقلوا مثالًا لهذا أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة وغيرها من المرويات في مثل هذا الصدد.
معيار “النسخ”
يُعتبر “الزمن” هو المعيار الذي يتم اختيار الناسخ على أساسه –بعد حصول التعارض أو التضاد-، بحيث يصبح السبيل لتحديد ما هو ناسخ وما هو منسوخ هو “الزمن”، بحيث يتم إلغاء الحكم السابق والعمل بما هو لاحق – زمنيًا – بل لقد اعتبر ابن الجوزي في كتابه “نواسخ القرآن” أن من شروط النسخ ثبوت حكم المنسوخ قبل ثبوت حكم الناسخ حتى يحدث الرفع أو الإزالة، بمعنى أن الحكم لابد أن يكون قد ترسّخ قبل أن يُنسَخ.
وهنا يأتي السؤال حول: كيف يتأتى لنا معرفة السابق واللاحق من الآيات؟ مع ملاحظة أن القرآن بترتيبه الذي بين أيدينا قد عارضه (راجعه) الرسول مع جبريل – توقيفًا – مرتين – كما ورد –، فنحن نقرأ الفاتحة في أول القرآن ونحن نعلم أن أول ما نزل هو الآيات الأولى من “اقرأ”.
وهنا يأتى دور “أسباب النزول” لتحل هذا الإشكال، ومن هنا كان العلم بـ “أسباب النزول” ضروري لمعرفة “الناسخ والمنسوخ” لكن “أسباب النزول” في الحقيقة قد تزيد اللبس ولا تزيله، لأن عدد الآيات التي نعرف لنزولها سببًا محدودٌ جدًا بالنسبة لمجمل آيات القرآن، فليس في القرآن ثنائية (آية / سبب نزول).
الأمر الثاني أن الأصوليين أنفسهم وضعوا قاعدة تحكم العلاقة بين أسباب النزول والعبرة المترتبة عليها (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) فـ “أسباب النزول أدوات مساعدة على الفهم وليست حاكمة على الخطاب” كما يقول د. طه العلواني.
مساحة “النسخ” في القرآن عند القائلين به
نقَل السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) تقسيم بعضهم للقرآن تبعًا لوقوع النسخ في سوره البالغ عددها 114 سورة إلى أقسام:
قسم لا ناسخ فيه ولا منسوخ = 43 سورة
قسم اجتمع فيه الناسخ والمنسوخ = 25 سورة
قسم فيه الناسخ فقط = 6 سور
قسم فيه المنسوخ فقط = 40 سورة
والمُلاحَظ في هذا التقسيم أنه جعل القسم الأقل هو الذي لم يقع فيه نسخ من الأساس (لا ناسخ فيه ولا منسوخ)، بحيث يكون النسخ قد وقع في ثلثي سور القرآن تقريبًا، وقد تعقب السيوطي هذا التقسيم بالرفض.
والحق أن مساحة النسخ في القرآن قد تتسع عند بعضهم لتجعل آية واحدة وهي آية السيف1 تنسخ ما يقرب من 114 آية من القرآن، وقد تنكمش عند آخرين حتى جعلوا المتفق عليه في النسخ بضع آيات فحسب، وقد نقل الشنقيطي أن الاتفاق لم يقع إلا في آيتين: آية المزمل (قم الليل إلا قليلا) وآية المجادلة (فقدموا بين نجواكم صدقة).
———————————————————————
- ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
[ سورة التوبة: 5] ↩︎
انتظروا الجزء الثاني من مقال “نظرية النسخ في القرآن هل نجحت في رفع التوتر” بقلم: محمد ياسين…….
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد