نظرية النسخ في القرآن هل نجحت فى رفع التوتر ج٢ .. بقلم: محمد ياسين

حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء».

بقلم: محمد ياسين

img_3217-1-766490914-e1720704519149 نظرية النسخ في القرآن هل نجحت فى رفع التوتر ج٢ .. بقلم: محمد ياسين

د. حسن حنفي من النقل إلى العقل

قراءة للناسخ والمنسوخ من منظور مختلف:

في موسوعته “من النقل إلى العقل” للدكتور حسن حنفي – رحمه الله – ( 1935- 2021 م) يحدد الكاتب في مقدمته هدفها بأنها محاولة لإعادة بناء العلوم النقلية الخمسة بعد أن تركها القدماء والمحدثون كما وضعها الأوائل وهي: علوم القرآن، علوم الحديث، علم التفسير، علم السيرة، علم الفقه. وهو يحاول بطرحه أن ينقل هذه العلوم من كونها علومًا نقلية خالصة، ليضمها إلى علوم إنسانية من خلال إعمال العقل فيها، وذلك باعتبار أن العلوم جزء من الثقافة، والثقافة تتغيّر بتغيّر العصور والأزمان، وهي مثل الفلسفات والفنون جزءٌ من تصورات العالم التى تعبر عن تطور الوعي الإنساني.

وينطلق الدكتور حسن حنفي من “علوم القرآن” باعتبارها موضوعًا للدراسة وليست موضوعًا للتقديس، موضوعًا للبحث وليست من عقائد الإيمان، وبالتالي فهو يحلل الوحي – في الجزء الأول من موسوعته – ليس باعتباره محمولًا وإنما باعتبارها حاملًا (على حدّ تعبيره)، وهيكل الكتاب يتناول هذه الحوامل ويقسمها إلى:

  • حوامل موضوعية (التاريخ) مثل: المكان: مكي ومدني، والبيئة الاجتماعية: أسباب النزول، والزمان.
  • حوامل موضوعية ذاتية (الرواية) مثل: الخبر سندًا ومتنًا، والقراءة شفاهةً ونقلًا، والتدوين جمعًا وحفظًا .
  • حوامل ذاتية (اللغة) مثل: اللفظ والمعنى من حيث العربي منها والغريب والأشباه والنظائر، وأساليب البلاغة توكيدًا وحذفًا وإيجاز وإطناب إلى غير ذلك، والتفسير والتأويل.
  • والزمان – كما يرى حنفي – هو أحد الحوامل الموضوعية (التاريخية) للوحي، وهو الحامل الذي نتج عنه: الناسخ والمنسوخ.

والدكتور حسن حنفي ينظر إلى حيثية الناسخ والمنسوخ نظرة قبول بوجه عام، لكنها في الحقيقة مختلفة عن تلك التي أسّس لها القائلون به، فهو يلتقط الخيط من التراثيين “أصحاب النظرية” – إن صحّ التعبير – ليُدخِلها في سياقِ آخر، غير الذي عناه أصحاب النظرية الأوائل.

1000026627 نظرية النسخ في القرآن هل نجحت فى رفع التوتر ج٢ .. بقلم: محمد ياسين
د. حسن حنفي

فالدكتور حنفي – رحمه الله – يعيد صياغة العلوم النقلية، وينطلق مما كتبه الأوائل – غير معلِن رفضه له من حيث المبدأ – ليتحرك به ومن خلاله إلى هدفه التجديدي.

فتراه يقدّم قراءته للناسخ والمنسوخ ليس باعتباره أداة لرفع التوتر أو إزالة الإشكال الذي عني الأقدمون بإزالته من خلال وضع نظرية الناسخ والمنسوخ، وإنما باعتباره درسًا في التجريب والتعديل طبقًا للظروف المتغيرة فمنهج الوحي – طبقًا لحنفي – منهج تجريبي، وهو يرى أنه لا يُضِير الوحي ولا يضره أن تتغير أحكامه طبقا لتغير الظروف، فالتغيير سنة الكون، وهو العنصر الثابت في الحياة.

وينطلق حنفي فى قراءته لكل ماكتبه القدماء -فى القضية موضوع البحث – من المنطلق ذاته، فهو يرى أن عدم جواز نسخ الحكم قبل العمل به – كما نقل ذلك عن ابن الجوزي في “نواسخ القرآن” – حتى يظهر عدم التطابق بين الحكم الشرعي والواقع المتغير الجديد (والكلام للدكتور حنفي على الرغم من أن القارئ قد يتوهمه من تعبيرات ابن الجوزي).

طريق واحد، وغاية مختلفة

وابن الجوزي فى كتابه سالف الذكر يعقد بابًا بعنوان “باب فضيلة علم الناسخ والمنسوخ والأمر بتعليمه” وينقل فيه مقولات لجمهرة من العلماء عن فضيلة / ضرورة العلم بالناسخ والمنسوخ قبل التصدّي للقول في القرآن أو الاشتغال بالفتوى، فيلتقط الدكتور حنفي الخيط من ابن الجوزي ليقول: “والعلم بالناسخ والمنسوخ فضيلة لأنه علمٌ بالتغير والتطور بأولوية الواقع على النص” ويحيل في نهاية الكلام لكتاب ابن الجوزي “نواسخ القرآن”.

وإذا كان التيار الغالب هو تيار القول بالنسخ، فإن الدكتور حنفي يسير مع التيار الغالب لكن نحو هدفه هو.

فإذا كان ابن سلام (224 هـ) ينكر على الرافضين للقول بالنسخ فيقول: “وقد قال قوم ليس فى القرآن ناسخ ومنسوخ، وهؤلاء قوم عن الحق صدّوا وبأنفسهم عن الله ردّوا”. فإنه يجعلهم فى سياق من ينكر معلومًا من الدين بالضرورة.

فى حين أن الدكتور حنفي وهو يتوافق مع ابن سلام فى الإنكار على الرافضين للقول بالنسخ، لكن دوافعه مختلفة، فتراه يصفهم بأنهم “قلة لا تمثل التيار الغالب، تُسقِط الزمان من الحساب، والتطور من الوحي، إنكار النسخ إنكار للتغيير والتغيير سنة الكون، وهو دفاعٌ عن القرآن جهلًا بالواقع ظنًا أن التغيير عيب ونقص وهو من مظاهر الكمال (كلَّ يومٍ هو فى شأن) .

والدكتور حنفي يقرأ الناسخ والمنسوخ قراءة تراثية متفحصة مدققة مستوعبة للتفاصيل، ثم يعيد صياغتها تفسيرًا ليتحرك بها خطوة خطوة إلى هدفه التجديدي من النقل إلى العقل.

ويتساءل الدكتور حنفي فى هذا الإطار: هل يجوز إذا ما تغيرت الظروف العودة إلى حكم المنسوخ دون الناسخ، مثل بعض المجتمعات التي استشرى فيها شرب الخمور ويصعب اقتلاعه عن طريق التحريم، هنا يمكن العودة إلى المراحل الأولى التدريجية للتحريم مثل (فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما)؟

ويتعامل د. حنفي مع التقسيم الثلاثى الذى قسمه العلماء للناسخ والمنسوخ من حيث الحكم والتلاوة بذات الروح الدائرة في كتابه، فما نُسِخ رسمه وحكمه لم يعد صالحًا للحكم لا من حيث الصياغة النظرية، ولا من حيث التشريع والعمل.

ومانُسِخ رسمه وبقى حكمه كآية الرجم، فقد نسخت الصياغة الأدبية إلى صياغة أكثر بلاغة فى حين بقى الحكم.

وما نُسِخ حكمه وبقى رسمه، وهو معظم ماهو موجود فى القرآن وأُلِّفت له كتب “الناسخ والمنسوخ” فهو جزء من تاريخ التشريع وتطور الوحي، الوحي للتعليم والتدبر والعِظة.

وهكذا نجد أن الدكتور حسن حنفي – رحمه الله – لا يدخل فى صراع مع التراث في تفاصيل أحكامه، وإنما يستخدمه ويتحرك من خلاله.

وهو يقبل الناسخ والمنسوخ كنظرية معمول بها في فهم القرآن وتأويله، وليس باعتبارها أداة لرفع التوتر أو إزالة الإشكال، وإنما باعتبارها دليلًا على التطور والنضج فى مراحل التشريع المختلفة، وهو ما يتناوله باعتباره مسوّغًا لاعتبار النسخ جزءا من عملية مستمرة لإنتاج أحكام أكثر ملاءمةً مع العصر واتساقًا مع البيئات المختلفة. هذا ما وصلني من قراءتي المبدئية غير المتوغّلة في ما كتبه حنفي.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات