نظرية تأويل النصوص من التفسير إلى التأويلية.. بقلم : محمود عماد
نظريات جديدة لفهم القرآن
بقلم: محمود عماد

كثيراً ما كان يشغلنى سؤال هل هناك معنى واضح يستطيع كل البشر أن يفهموه من القرآن الكريم؟
باعتبار أنى أنظر للقرآن على أنه رسالة أخيرة من الله لكل الناس وإلى قيام الساعة فكنت أعتبر أن الإجابة بنعم هي الإجابة الأولى والأخيرة ولكن ما يحيرني ويثير شرارات الأفكار داخل عقلى هو هذا الكم الهائل من الاختلاف بين البشر وبعضهم البعض، اختلاف الشكل والبنية الجسدية واللون ومستوى الذكاء فضلاً عن اختلاف اللغة ذاتها.
وبعد أن قرأت فى التراث التفسيري وعرفت القليل من اختلاف التفسيرات للفرق الإسلامية أصبح التساؤل يحتاج لبحث حقيقى لمعرفة الإجابة وهذا ما أحاول معرفته معك فى هذه السطور.
اختلف المفسرون للقرآن فى الإجابة على هذا السؤال فمنهم من قال أن القرآن كله مُحكم أى أنه واضح المعنى يمكن لأى إنسان مهما كانت خلفياته أن يصل إلى معناه بمجرد معرفة بعض العلوم المسماة بعلوم الآلة؛ واستدلوا على قولهم بالآية الكريمة التي افتتحت سورة هود “الۤرۚ كِتَـٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِیمٍ خَبِیرٍ”.
وقال البعض -على غرابة وشذوذ الرأى- بل القرآن كله مُتشابه أى غامض المعنى ولا يمكن تحديد معنى واحد واضح وهو يقبل التأويل لكل معنى، واستدلوا على قولهم بقول الله تعالى: “ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِیثِ كِتَـٰابا مُّتَشَـٰبِها مَّثَانِیَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِینَ یَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ یَهۡدِی بِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ” الزمر ٢٣.
وفى هذا السياق أيضاً تُذكر مقولة الإمام على (القرآن حمّال أوجه).
بينما هناك رأي أكثر تفصيلاً يقول: أن القرآن يحتوي على الإثنين معاً؛ فهناك آيات مُحكمة واضحة المعنى وهناك آيات مُتشابهه غامضة قابلة للتأويلات المتعددة المتباينة وهذا الرأي أيضاً له دليله من القرآن وهي الآية السابعة من سورة آل عمران والتى تقول:”هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتࣱ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغࣱ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ”
ربما تُعد هذه الآية شارحه للآيتين السابقتين فهى تقرر وجود آيات مُحكمه وآخرى مُتشابهه داخل القرآن لكن تمثلت المشكلة في معنى الآية ذاته فهل ما قصدته الآية بالمحكم والمتشابه هو ما يمكن أن يكون واضح لكل البشر فعلاً أم أن هناك معنى آخر، وهل الراسخون في العلم يستطيعون معرفة معنى الغامض النصي أم هم فقط يؤمنون ويقرون بصحة الرسالة مع التباس بعض مضمونها؟
لم أجد حل لهذه التساؤلات غير الرجوع لأئمة المفسرين وفخر علماء هذه الأمة وعلى رأسهم الإمام الطبرى 310هـ ويمكن لى ولك أيها القارئ أن نفهم طريقة تأويل الطبري من خلال تفسيره لهذه الآية فهو يقوم بتفسير الآيات المحكمات بذات المعنى الواضح المُفصّل كما ذكر فى تفسيره ”وأما”المحكمات”، “فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعِبر، وما أشبه ذلك وآيات أخر، هنّ متشابهاتٌ في التلاوة، مختلفات في المعاني” .
فالقرآن كله له معنى موضوعى لدى الطبري لكن الاختلاف فى درجة الوضوح فهناك آيات واضحة جلية للكل وهناك آيات تحتاج لبعض البيان والتوضيح ويمكن الوصول لمعناها من خلال أحاديث الرسول و مرويات الصحابة والتابعين التى تملىء تفسير الطبري وأيضاً من خلال أهل النحو واللغة وأهل الكتاب ومرويات كتبهم. كل هذه العناصر كانت مبادىء يعتمد عليها الطبري فى الوقوف على معاني الآية ويقوم بتقرير معنى أو عدة معانى من بينهم باختياره الشخصي أو إدراكه العقلي.
إن هذه الاستراتيجية التي يستخدمها الطبري حكيمة ومنضبطة من وجهة نظرى لكن يمكن أن يكون سبب بساطتها هو عدم وجود فرق إسلامية متناحرة بشكل قوى كما سيحدث بعد ذلك مع صراع المعتزلة والأشعرية لذلك أريد أن أخذك معى إلى واحد من أهم فلاسفة المسلمين ومن كبار مفسريهم والذى يُحسب دائماً على المذهب الأشعرى لكن هو بالفعل – فى تقديرى – فيلسوف من طراز خاص قام بإضافة أفكار جديدة ولم يكن أثير مذهب أو فكرة واحدة.
إنه الإمام الرازي 606 هـ الذي يبنى نظريته التأويلية على 3 قواعد كما يذكر فى تفسيره كالتالى : “الآياتِ عَلى أقْسامٍ ثَلاثَةٍ: أحَدُها: ما يَتَأكَّدُ ظاهِرُها بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ، فَذاكَ هو المُحْكَمُ حَقًّا. وثانِيها: الَّذِي قامَتِ الدَّلائِلُ القاطِعَةُ عَلى امْتِناعِ ظَواهِرِها، فَذاكَ هو الَّذِي يُحْكَمُ فِيهِ بِأنَّ مُرادَ اللَّهِ تَعالى غَيْرُ ظاهِرِهِ. وثالِثُها: الَّذِي لا يُوجَدُ مِثْلُ هَذِهِ الدَّلائِلِ عَلى طَرَفَيْ ثُبُوتِهِ وانْتِفائِهِ، فَيَكُونُ مِن حَقِّهِ التَّوَقُّفُ فِيهِ، ويَكُونُ ذَلِكَ مُتَشابِهًا بِمَعْنى أنَّ الأمْرَ اشْتَبَهَ فِيهِ، ولَمْ يَتَمَيَّزْ أحَدُ الجانِبَيْنِ عَنِ الآخَرِ، إلّا أنَّ الظَّنَّ الرّاجِحَ حاصِلٌ في إجْرائِها عَلى ظَواهِرِها. فَهَذا ما عِنْدِي في هَذا البابِ واللَّهُ أعْلَمُ بِمُرادِهِ”.
وكما ترى فهو يعطى بشكل واضح الترجيح العقلى الأولوية فى فهم القرآن واختيار المعنى الظاهر أو تأويله أو حتى التوقف عن اختيار معنى من الجانبين لظاهر الآية.
ومن فيلسوف إلى فيلسوف آخر ولكن شتان بينهما، يعتبره البعض هادم الفلسفة واعتبره أنا مجدد الفكر الإسلامى فى عصره إنه أشهر من لُقِب بشيخ الإسلام هو الإمام ابن تيمية، وقد لخّص نظريته التأويلية للقرآن فى كتاب صغير معروف باسم مقدمة فى تفسير القرآن
“أن القرآن يُفسر بقول الرسول ثم أقوال الصحابة ثم ما اتفق عليه التابعين ثم بعد ذلك يمكن أن يقول المفسر رأيه (إعمال عقله) بعد أن يكون مؤهلاً علمياً، يظن البعض أن ابن تيمية يحرم التفسير العقلى مطلقاً وهذا غير صحيح مطلقاً فهو يقر بأهمية العقل وقد كتب كتاب درء تعارض العقل والنقل لكى يُثبت أهمية التفكير العقلي فى فهم النصوص لكن أهم ما ركّز عليه ابن تيمية هو محاربة فوضى التأويل التي تغض الطرف عن أقوال الرسول والصحابة وتبنى أسوار ومباني شاهقة مبنية على خيالاتهم العقلية البعيدة عن مراد النص لكن يمكن أن يكون المختلف لدى ابن تيمية أنه اعتبر جل آيات القرآن قد بينه الرسول للصحابة ولا نحتاج إلى تأويلات إلا فيه قليل مما سكت عن بيانه النص وهذه هى المساحة المتاحة للتفكير العقلي لديه.
ثانياً: دراسة الهرمنيوطيقا:
ربما كان هذا كافياً لكن الإنسان بطبعه فضولياً والله خلق لنا عقول لكى نبحث دائما ونتسائل ونعرف وكلما عرفنا طاقت نفوسنا لنعرف أكثر وأكثر لذلك بعد أن تعرفت بالصدفة على علم تفسير النصوص الجديد الذي يُسمى بالهرمنيوطيقا وبدأت أقرأ عنه وعرفت أنه علم جديد له جذور فلسفية قديمة وتم رى هذه الجذور من نهر النهضة فى عصر التنوير وكان الهدف من هذا العلم هو تطوير نظرية تأويل الكتاب المقدس ثم أصبحت نظريات عامة فى فهم وتأويل اللغة والنصوص بشكل عام.
ولأننى لست الشخص المناسب لشرح هذا الموضوع بتفصيلاته فما زلت فى بداية الطريق ولا أظن أنى قد أستطيع تلخيص الأفكار بشكل يبّين المعنى المقصود لذلك سأحاول الاختصار والتركيز على نظريتين من نظريات تفسير النصوص والتى شرحتهما الباحثة أولريكا مارتنسون أستاذ الفلسفة ودراسات الأديان فى جامعة العلوم والتكنولوجيا بالنرويج
جادامير: مقصد القارئ
يتلخص مراد جادامير فى أن القارئ يتأثر بوعيه الخاص ويقرأ النص كما يريد قراءته أي يفهم من خلال سنوات عديدة من تجربة التعلم والثقافة المكتسبة والتي تجعل تفسيره للنص منحاز بشكل غير واعي ولا يمكن الانسلاخ منه فوعى القارىء هو ما يُشكل تفسيره للنص وليس مقصد النص أو مقصد مؤلفه.
هيرش: مقصد المؤلف
يعترض هيرش على نظرية جادامير ويقول بإمكانية فهم القارىء لمقصود المؤلف من خلال نص ما، بل هذا هو الهدف من التفسير ولكى نصل إلى مقصد المؤلف يجب علينا دراسة لغة النص والسياق التاريخي الذي قيِل فيه ودراسة كافية لمؤلف النص وبذلك يمكن الوصول إلى مراد المؤلف وليس كما افترض جادامير.
هناك أيضاً نظرية موت المؤلف التى تركز الاهتمام بالنص ذاته باعتبار أنه هو الموجود والمتبقى بعد موت المؤلف وبالتالي فإن المعاني الجديدة التي تتولد بمرور الزمن هي من إنتاج النص الذي يتجدد كل فترة والمؤلف لا يملك القدرة على تعديله أو تغيره بعد نشره فقد أصبح النص له سلطان خاص وفريد ولكن هذه النظرية ليست بالفرضية القوية فى حال دراستنا للقرآن لمعرفتنا أن القرآن من عند الله وأن الله استخدم لغة يمكن لها الوصول إلى القارئ مع تطور الزمن.
هل يوجد حقاً نظرية للتأويل ؟
أعود مرة أخرى إلى السؤال الذي بدأت به وهو هل يوجد معنى واضح يمكن الوصول إليه لكل البشر منذ بعثة الرسول وإلى يوم القيامة؟
قدّم الدكتور نصر أبو زيد هو الآخر نظرية للتأويل تقوم على مبدأ الدراسة الواعية لمنهجية النص كمعرفة لغة القرآن وأسباب النزول وغيرها من ما ذكر أئمة المسلمين وأضاف إليها دراسة المنهجيات الحديثة ومعرفة آلياتها وتطبيقها على النص لاكتشاف دلالات جديدة لا لتلغى الدلالة القديمة ولكن لتوسيع دائرة المعنى لتلائم تغيرات الواقع وتغيرات الزمان والمكان واعتبر أن مراعاة مصلحة الأمة هى غاية هذه النظرية مع التشديد على انضباط التأويل المستمد من تحليل النص وليس القفز عليه أى أن د. نصر يعطى هو الآخر نظرية يمكن من خلالها الوصول إلى معنى القرآن.
فى النهاية أقول أن القرآن باعتباره كلام الله لابد أن يكون له معنى يصل للمتلقي على اختلاف درجة وعى هذا المتلقى لكن من الصعب جداً تحديد هذا المعنى فهو مختلف باختلاف كل إنسان، وشخصياً أحاول الوصول إلى قواعد كلية داخل القرآن أقوم من خلالها بفهم أجزائه المختلفة وقد استطعت بالفعل تطبيق تلك الفكرة على بعض الموضوعات ووجدت تفسير منطقى ومنضبط لهم. رغم اعترافى أن لغة القرآن لم تكن بالكامل تخاطب المنطق العقلى للإنسان بل هناك جانب آخر يخاطب وجدان الإنسان وعاطفته وهذا الجانب يعتنى بتفسيره المعنيين بالتحليل الفنى للقرآن وهو جانب واسع يستحق البحث بنَهَم شديد.
ربما هناك الكثير من الأفكار التى تدور فى ذهنك الآن وربما أيضاً أننى لا أريد أن تذهب بعيداً بعد قرائتك هذه بل أريد أن أربطك معى فى رباط واحد لعلك تعود إلى بفكرة تضيء الى جانب مستغلق داخل دهاليز عقلى الصغير أو ربما كان الهدف من كتابتي تلك الكلمات هى أن أختصر أفكار كثيرة تراودني بين الحين والآخر وأردت تدوينها بدون أن أشعر، الله أعلم.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد