نقد الحداثة وما بعدها.. من منظور سيمائي … بقلم: د. شريف عكاشة
بقلم: د. شريف عكاشة

وأيا كان الأمر فقد كان القاسم المشترك بين الحضارتين هو الجدل، أي جدل الإنسان مع الواقع سواء من خلال النص، كما في النموذج الإسلامي، أو من خلال الواقع نفسه كما في النموذج الغربي. وفي هذا الإطار أستطيع أن أفهم قوله تعالى في سورة الكهف “وكان الإنسان أكثر شيء جدلا”: فإذا توقف الجدل، سواء في صورة جدال الإنسان مع نفسه، أو تفاعله (الجدلي) مع الواقع فكرا وممارسة، توقف إنتاج الحضارة.
مقدمة: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا
لكي نفهم أنفسنا لابد أولا أن نفهم الآخر لأن الآخر هو المرآة التي نرى فيها انعكاس حضارتنا بالطريقة التي يريدنا هو أن نراها لا كما هي في الواقع. والمقارنة في هذه الحالة ليست ترفا معرفيا بل هي ضرورة مصيرية إذا أردنا أن نفهم ونؤسس على هذا الفهم فكرا يشتبك مع واقع حقيقي لا واقع متخيل ثم نحول هذا الفكر إلى فعل.
فالآخر هو الحقيقة المسيطرة المهيمنة التي تحاصر وعينا ولا وعينا المعاصرين وتشكلهما وتؤطرهما بدرجة تفوق تشكيل تراثنا التاريخي والديني لهما. والآخر ليس سوى الحضارة الغربية بحداثتها وحداثيتها وتنويرها والواقع الذي أوجدته هذه الحضارة على صعيدها المحلي والعالمي والعوحلي (أي العالمي-المحلي) والمعادل الموضوعي لهذا الواقع عندنا لا يمكن أن نكتشفه إلا باستكشاف الكيفية التي تطور بها اشتباك الفكر مع الواقع في الحضارتين.
وأرى أن علاقة الفكر بالواقع اتخذت في الحضارة الغربية اتجاه الواقع-الفكر-الواقع أما الحضارة الإسلامية فقد كانت تسير وفق متجه النص-الواقع-الفكر. ووجه الاختلاف بين النموذجين هو المفتاح للمقارنة بين الواقع التاريخي للحضارة الإسلامية والواقع المعاصر للحضارة الغربية الذي تزاحمها فيه المجتمعات الإسلامية أو العربية أو الشرقية، أيا كانت التسمية.
فقد بدأت الحضارة الإسلامية بالنص واشتبكت مع الواقع تحت مظلته وبرعايته وولد هذا الاشتباك فكرا اقترب أو ابتعد بدرجات متفاوتة عن اللباب النصي ولكنه لم يخرج من مجاله المغناطيسي تأثيرا وتأثرا وتأويلا وتأولا. ولا أحد يستطيع بجرة قلم أن يجزم بأننا خرجنا من مجاله المغناطيسي تماما بوضعنا الحالي ودخلنا المجال المغناطيسي للنموذج الغربي إلا بدراسة متأنية لعلاقتنا بالنموذجين.
أما الواقع الحضاري الغربي فقد كان واقعا تجريبيا محضا يبدأ من الواقع ويشتبك معه ويتولد عن هذا الاشتباك فكر يستخدم لإعادة تشكيل الواقع. فالحضارة الغربية منذ واقعها الإغريقي التليد هي تاريخ جدال الفكر مع الواقع. ومن ثم فإن دراسة هذا الفكر ليست ترفا يتلهى به المثقفون في مجالسهم بل إنه ضرورة حتمية بدونها لن نفهم الواقع العالمي الذي نعيش الآن على أطرافه راضين بفتاته.
الديمقراطية اليونانية مثلا لم تبدأ بنص فلسفي ولكنها كانت ضرورة اقتصادية نتجت عن حاجة اليونانيين للتحاور بشأن كيفية تصريف شؤون واقعهم الاقتصادي الجديد بعد ثورتهم على النظام الأوليجارشي (النخبوي) الذي كان يثقل كاهلهم بالضرائب فإذا ما عجزوا عن السداد تحول المواطن إلى عبد عند السيد الإقطاعي. وكان الواقع الجديد يقوم على النشاط التجاري؛ ومن هنا نشأت الديمقراطية كحوار في المجال العام (في ساحة الأجورا) بين مواطنين أحرار لتصريف شؤون دولتهم.
وهنا أستهدي برأي د. الطيب بوعزة حيث قال في إحدى محاضراته القيمة إن الديمقراطية في المجتمع اليوناني القديم هي سبب نشوء الاستدلال بهدف الإقناع والتفاوض اللذين يقتضيهما السجال في العلاقات التجارية، ومن هنا نشأت الفلسفة اليونانية؛ من مران العقل على الجدال لإقامة الدليل، فكانت نشأتها سياسية اقتصادية.
وما هكذا الحال في نشأة المدينة -الدولة في التصور الإسلامي التي بدأت بداية دينية نصية في ما يسمى بدولة الرسول في يثرب. ودار الفكر الإسلامي في دائرتين: فهم النص في إطار الواقع أو فهم الواقع في إطار النص. وفي الحالتين كان النص هو الحاكم. وفي حالات كثيرة جدا لم يكن هذا الواقع هو الواقع الحقيقي المادي بل واقع أنطولوجي (ميتافيزيقي-غيبي) متعال..
وأيا كان الأمر فقد كان القاسم المشترك بين الحضارتين هو الجدل، أي جدل الإنسان مع الواقع سواء من خلال النص، كما في النموذج الإسلامي، أو من خلال الواقع نفسه كما في النموذج الغربي. وفي هذا الإطار أستطيع أن أفهم قوله تعالى في سورة الكهف “وكان الإنسان أكثر شيء جدلا”: فإذا توقف الجدل، سواء في صورة جدال الإنسان مع نفسه، أو تفاعله (الجدلي) مع الواقع فكرا وممارسة، توقف إنتاج الحضارة.
على أنني سأتجنب الجدال الأيديولوجي حول ما إذا كان النص (إذا كان المقصود به القرآن) نتاج تفاعل الإنسان مع الواقع أم أن الواقع هو نتاج تفاعل الإنسان مع النص لأن هذا النقاش مرهق وفي رأيي غير ضروري لأنه يؤدي إلى استنزاف الطاقة الفكرية في مزايدات عقائدية وتفتيش في الضمائر والنوايا. ولحسن حظي أن موضوعي الرئيس هو جدل الإنسان مع الواقع والفكر في السياق الحضاري الغربي الذي لا حاكمية فيه لنص ديني على الواقع، إلا فيما ندر.
موضوعي الرئيس إذاً على صعيد مشروع نقد الحداثة وما بعدها هو فهم تطور الفكر الغربي والمجتمعات الغربية في ضوء هذا الجدل المستمر بين الفكر والواقع. وسأحاول هذا النقد من خلال دراسة تطور علم أعده سببا مباشرا، في إطار هذا الجدل، لتطور المجتمعات الغربية إلى مآلها المعاصر لا على الصعيد الفكري وحده بل على صعيد المؤسسات السياسية والاقتصادية والتعليمية وغيرها الفاعلة والمؤثرة على الحياة العملية للناس.
وسيتضح-هكذا أرجو- كيف أن توقف هذا الجدل بين الفكر والواقع -أيا كانت طبيعته- من خلال استدعاء النقيض قد أدى إلى توقف العرب والمسلمين جميعا عن إنتاج الحضارة.
هذا العلم هو علم السيمائيات.
ولن أعتمد في بحثي تلك الموضوعية الوصفية الباردة التي يروق للباحثين أن يصطنعوها ظنا منهم أنها قريبة المنال دانية القطوف بل سأتحلى بذاتية هي أقرب إلى الواقع منها إلى موضوعية تدعي الحياد الأيديولوجي بينما هي في الواقع تستخدم أيديولوجيات مضادة دائما منطلقة من انحيازات وتحيزات ذاتية.
والذاتية التي سأنطلق منها لا أقصد بها الإغراق في صورة الذات عن الذات أو عن الآخر ولكنها الذاتية اللغوية الحتمية: الذاتية السيمائية التي لا فكاك منها لأنني أكتب باللغة العربية ومحكوم بنظامها السيمائي الذي ليس نحوا وصرفا وكفى بل ثقافة وأيديولوجيا ورؤية للعالم.
فهي ذاتية تشبه المعادل الموضوعي عند نقاد الأدب معكوسا ويقصد بالمعادل الموضوعي objective-correlative التعبير عن الذات باستخدام الموضوع على سبيل الرمز وعند عكسه يصبح التعبير عن الموضوع باستخدام الذات على سبيل الرمز subjective-correlative، أي المعادل الذاتي. ولذا سأضع لكل حلقة من السلسلة عنوانا سيمائيا مستمدا من القرآن، كتاب العلامات الأكبر، على ما سنرى.
ونظرا لحداثة عهدي بالقراءة في هذا العلم الغامض المعقد، علم السيمائيات، فسأظل أراوح مكاني فترة حتى أمسك بجماع أغواره مكتفيا بشرح مبادئه الأساسية حسب فهمي لها ووضعها في سياق نشأتها وتطورها وعلاقتها بجدلية الواقع-الفكر في السياق الغربي مع إيراد مقارنات بالسياق العربي والإسلامي في محاولة لفهم السياقين، الغربي والعربي، في إطار بعضهما البعض.

وإنني مدين في اهتمامي بهذا العلم لثلة من الأصدقاء والزملاء الأكاديميين من خلال حواراتي معهم. وكم كنت أود تأجيل الكتابة في هذا الموضوع العويص لولا أن شجعتني على ذلك زميلة فاضلة بصالون تفكير الذي يشرف عليه المفكر والباحث الأستاذ جمال عمر، حيث راقها منشوري السردي البسيط على صفحتي عن “الإشارة بالعلامة والإشارة بالإعلام” ووقع منها ومن بعض من أطمئن إلى رأيهم من الأصدقاء موقعا حسنا.
فقررت أن أشرع في ما كنت انتويت تأجيله؛ فإن أحسنت فسأكون مدينا في هذا الإحسان للزميلة الفاضلة ومن أحسن بي ظنا من الأصدقاء. وإن لم أحسن فهذا من عجلتي والعجلة من الشيطان.
وفي كل الأحوال فإن النقد والتقويم هما المنوط بهما تجلية الأفكار وصقلها؛ فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه.
والله المستعان وعليه التكلان.
انتظروا المقال القادم….
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
2 comments