نقد لرواية غواية الفناء … بقلم الكاتب محمود الورداني
نقد الكاتب والروائي محمود الورداني لرواية غواية الفناء.
الرواية تأليف هالة صلاح الصياد.
صدرت عن دار صفصافة للنشر عام ٢٠٢٣.
“استطاعت هالة الصياد بالحرية الهائلة التي انتزعتها لنفسها، واستخدامها للضمائر المختلفة ولأساليب السرد المتعددة، أن تشيّد عملا فاتنا”
بقلم/ محمود الورداني

أحاول قدر الإمكان متابعة الإنتاج الأدبي الجديد للشباب، وربما لاحظ بعض من يهتمون بقراءة ما أكتبه هذه المتابعة بين الحين والآخر، وأود أن أنبّه هنا على الفور أنني أستفيد بشدة وأسعد كما تلهمني هذه الأعمال، وأحاول أن أكتب عنها ما تيسر، محبة وإعزازا لها في كل الأحوال.
ولعلي أضيف أيضا أنني لست ناقدا ولم أشتغل بالنقد يوما، وكل ما في الأمر أنني أقدم قراءتي الشخصية الخاضعة طبعا لذوقي الشخصي، وتكون الأولوية للأعمال التي أحببتها – كقارئ – وأفضّل عدم الكتابة عن الأعمال التي لم أحبها.

السطور السابقة هي مقدمة ربما لا تكون ضرورية لآخر عمل انتهيتُ منه أخيرا وهو رواية “غواية الفناء” لهالة صلاح الصياد والصادرة عن دار صفصافة للنشر عام 2023. الكاتبة أقرأ لها للمرة الأولى للأسف على الرغم من أنها أصدرت من قبل مجموعتين قصصيتين ورواية، هذا إلى جانب اشتغالها بالإخراج السينمائي وحصولها على عدة جوائز ومنح من هيئات ومؤسسات مشهود لها.
أظن أن” غواية الفناء” واحدة من أكثر الروايات التي استغرقت جهدا وطاقة وعكوفا من الكاتبة، وقد تجاوز عدد صفحاتها الأربعمائة، استوعبت ثلاثة أجيال على الأقل، ولم تمر عليها الكاتبة مرورا عابرا، بل شغل شخصياتها مكانا وتحركوا وقاموا بأدوارهم. كما استوعبت الرواية زمنا يمتد من خمسينيات القرن الماضي وحتى أيامنا وتحديدا حتى أبريل 2018، وتشغل ثورة 25 يناير وهزيمتها الجانب الأكبر من الأحداث. ومن أجل تشييد عمل كهذا لجأت الكاتبة للعديد والعديد من التقنيات والحيل الفنية المتنوعة والمختلفة والجريئة أيضا.
هي ليست رواية شخصيات تبقى في الذاكرة فقط، بل هي أيضا رواية الطبقة المتوسطة السكندرية وتحولاتها الصاخبة على مدى نصف قرن. وطموح الكاتبة بلا حدود، وما تقدمه من حلول تقنية للإحاطة بعالمها وأجيالها المختلفة هو أيضا بلا حدود. والأجيال الثلاثة: داود وكرم وآلاء لا يمرون مرورا عابرا، بل ينسربون عبر فصول الرواية ويتمازجون ويتقاطعون. المونتاج السينمائي هو السيد في الرواية، والصياد تستند إلى خبرتها السينمائية التي أضافت للمتن الكتابي وأغنته.
لايستطيع الواحد أن يخفي افتتانه وإعجابه بقوة الكاتبة. نعم بقوتها واعتدادها بهذه القوة، وإدارة هذا المسرح الضخم، معتمدة على لغتها الطلقة، لغة الحياة اليومية المتقشفة والمطروقة والشائعة، والأهم اعتمادها شبه المطلق على تقنية المونتاج السينمائي التي أتاحت لها كل هذه الحيوية والثراء والانتقال اليسير بين العوالم والشخصيات والأزمنة دون كلل.
وفي الوقت نفسه خصصت لآلاء كرم داود مكانا مركزيا في عملها، في طفولتها ومراهقتها وشبابها وعلاقتها بالدين والحرام والحلال وزواجها وطلاقها وأقاربها المباشرين وانتمائها لمثقفي وفناني زمانها. جيل آلاء، أو بالتحديد جانب من جيل الثورة والهزائم التي لحقت به أفسحت له الكاتبة مكانا لائقا. لا مكان في “غواية الفناء” للعاطفية والنهنهة والبكاء على الأطلال على الرغم من خيبات أبناء جيل آلاء.
أشرت من قبل إلى تقنية المونتاج السينمائي التي شيّدت بموجبها الكاتبة البناء المحكم الذي أنقذها من الترهل إلى حد كبير. وعلى مدى ساعات قليلة من إحدى ليالي أبريل 2018 وحتى منتصف اليوم التالي تدور كل أحداث العمل وفق تقنية المونتاج، الذي تنتقل من خلاله إلى سردية سري علي مصطفى الجد الأكبر، وهي بدورها تضم عدة سرديات صغيرة لأجيال مختلفة.
إلى جانب مدخل الرواية حيث نرى الطفلة آلاء وبصحبتها شقيقها الأصغر مالك، يهربان من كمائن الكبار بمنتهى الذكاء والخفة (ربما هناك التباس ما سيطاردني فيما بعد: هل مالك هو يوسف وحدث خطأ ما لم أستطع تفسيره؟) إلى جانب هذا المدخل السينمائي الذكي، تبدأ الكاتبة كل فصل من فصول روايتها الأربعة بمقطع يتكرر عنوانه وبُنطه الأسود المختلف: “جانب من أوراق سري علي مصطفى محمد سليمان الجن”، ويتضمن جانبا من تاريخ العائلة، وهو لا يربط فقط بين الفصول، بل يشكّل أيضا دعامة أو مدماكا ينهض عليه البناء، وأظن أن من بين عوامل نجاح المدماك أنه لا يلتزم بالتتابع الزمني، بل له وظيفة فنية ارتأتها الصياد.
تتوالى مقاطع كل فصل بعد هذا متشظية وغير ملتزمة إلا بالضرورة الفنية التي تراها، وتقدّم مشاهد سينمائية للعائلة، أغلبها بالأبيض والأسود، تقودها في الفصلين الأول والثاني آلاء كرم تحت عنوان جانبي: أبريل 2018: آلاء على طريق القاهرة الصحراوي، ويحمل تاريخ أقدمها يوليو 1955، وتتناثر وتتشظى المقاطع المختلفة هنا وهناك لترسم لوحة فسيفسائية للعائلة، ولماض لم تعشه آلاء، لذلك فإن الكاتبة تمتلك حرية مطلقة وجرأة أيضا في استخدام ما تشاء من الضمائر وأساليب السرد.
هناك جرأة وشجاعة أحببتها في اصطحاب كاميرا وحملها بيدين لا تهتزان، وتنتقل بسهولة ويسر لتقدم جوانب مختلفة وأزمنة متشظية. الرواية تنهض بنفسها كاملة في كل فصل، ويتكرر التشظي في كل فصل أيضا. فمثلا نحن لا نعرف آلاء عبر نموها البيولوجي، من طفولتها وحتى التاريخ الذي تتوقف عنده الأحداث في الساعات الأولى من 19 أبريل 2018، بل تتشكل ملامحها عبر الكثير والكثير من المشاهد المكتوبة بمهارة فنية لافتة ولغة طلقة تتسم بالتقشف وتكاد تخلو من المجاز: آلاء الطفلة وأمها وشقيقها ووالدها المنتحر، وميولها الدينية التي تصل إلى اختيارها الزواج من ياسين الذي كان يخطب في أحد جوامع الإسكندرية، وعملها في المكتبة (مكتبة الإسكندرية)، وثأرها لكرامتها واستقالتها رغم احتياجها الشديد، زواجها وطلاقها، وما يشبه الوقوع في غرام واحد أو اثنين من زملائها، عملها كمصممة بوسترات، وعدة جولات مع أبناء وبنات جيلها من المشتغلين بالفن في الإسكندرية والقاهرة أيضا..
هناك أيضا مشاهد خاطفة لثورة 25 يناير وفض اعتصام رابعة وملامح تحولات جيلها وتناقضاتها هي الشخصية، كما أنها ليست شخصية سهلة أو بسيطة، تم رسمها وتجسيدها على نحو فريد، ليست شخصية واقعية بل فنية كتبتها الصياد وفق ما فرضته الشخصية لا وفق ما أرادته الكاتبة، أي أنها امتلكت استقلالها النسبي، وفي الوقت نفسه هي علامة لجيلها، جيل غير المنتميات اللاتي لم تخل حياتهن من طعنات يبرأن منها سريعا، ومن ممارسة متقلقلة للإيمان الديني، ومن شبق مقموع حتى لو تحقق جنسيا، جيل من الذين واللاتي يبحثون عن مرفأ أو فرصة للتعبير والاحتجاج، ليس مهما أن يكونوا أبرياء أو أشرارا، ولديهم في كل الأحوال ملامح “فنية”، استطاعت هالة الصياد بالحرية الهائلة التي انتزعتها لنفسها، واستخدامها للضمائر المختلفة ولأساليب السرد المتعددة، أن تشيّد عملا فاتنا.
ذكرت من قبل أن السارد الأساسي خلال الفصلين الأول والثاني من الرواية هو آلاء كرم، التي تستقل سيارة مع عمها مصطفى، في طريقهما من القاهرة للإسكندرية في إحدى ليالي شهر أبريل 2018، وفي الفصل الثالث يتقدم مصطفى ليصبح السارد الأساسي، بينما في الفصل الرابع والأخير يتبادل مصطفى وآلاء هذا الدور.
بالطبع منح هذا الرواية تنوعا خفّف من ثقلها، فيما لو كان السارد الأساسي واحدا لا يتغير، كما منح الكاتبة الفرصة لأن تتحرر من صوت واحد يهيمن على عمل على هذا القدر من الاتساع، وتعدد الأجيال، والوقائع والأحداث.
أريد أن أؤكد مجددا على قدرة الصياد على إدارة عالمها المترامي، واقتحامها لأساليب وأصوات مختلفة ومتعددة والأهم مبتكرة. الكاتبة لا تهاب ولا تخاف وتغترف من مخزون لا ينفد. وهناك عدة روايات تتشكّل ملامحها على مهل وعلى نحو متشظ. العائلة ممتدة، ويتتبعها القارئ على مدى الفصول الأربعة. لا يتتبع حكاية تتوالى فصولها، بل يتتبع مشاهد متناثرة، تشكّل في مجموعها حكاية العائلة.
فمثلا حكاية الشراكة مع اليوناني خريستو في امتلاك فندق متروبول، أو مثلية مصطفى التي تجبره على مغادرة مصر إلى الأبد ولا يعود إلا في آخر أيام الرواية، أي بعد طلاق آلاء بفترة لا بأس بها، أو حكايات أعمام آلاء وأمها ووالدها الذي ينتحر في ظروف غامضة تاركا مذكرات يعثر عليها، بعد سنوات من انتحار الأخير، شاب يلقى حتفه قبل أن يحوّلها لفيلم سينمائي أو يدفع بها للنشر.. شظايا متناثرة كانت تحتاج لكاتب صعب المراس يملك قوة – أكاد أقول بدنية – على الإحاطة بها والنهوض بتفاصيل ووقائع كل منها.
على أي حال، حالف الصياد التوفيق في اعتمادها على تقنية المونتاج السينمائي التي تتيح تقديم مشاهد متناثرة قصيرة، وعين الكاميرا التي تستخدمها ذكية وحساسة. كما حالفها التوفيق في استخدام لغة الحياة اليومية ولا تلزم نفسها بصوت ولغة مختلفة مع كل شخصية، بل هناك لغة محايدة وسلسة لا يهمها المجاز والتوشية، يهمها التقشف والسهولة.
أنتهي إلى أمرين اعتبرهما أسهما بشدة في نجاح الكاتبة في تشييد عمل على هذا القدر من الاتساع. الأول أنها تبني الشخصية الروائية عبر سلوكها ومواقفها وحياتها ولا تهتم بملامحها الخارجية إلا فيما ندر، لهذا فإن أغلب الشخصيات تظل حاضرة بقوة مثل مصطفى عم آلاء، ونجوى سليمان وحكايتها الممتدة مع الزوج المنتحر، وزهير فؤاد الروائي وصانع الأفلام.. وغيرهم وغيرهم.
الثاني أن الصياد لا يعنيها اتخاذ موقف – أي موقف – من شخصياتها. لا يعنيها الإدانة أو الانحياز، وليس لديها موقف أخلاقي مثلا. يعنيها كتابة الشخصية ورسم ملامحها من خلال مواقفها وسلوكها واتساقها الفني لأنها شخصية فنية خلقتها الكاتبة وليست شخصية واقعية.
وأخيرا أظن أن المشهدين الأخيرين في الرواية زائدين بسبب التورط العاطفي في رواية كان من إحدى علاماتها الكبرى تجنب التورط العاطفي والنهنهة، إلى جانب تجنبها للإدانة أو الاستحسان المجاني، فمشهد توديع آلاء لعمها مصطفى في المطار وبكاء الأخير كان مشهدا أقرب للميلودراما. كما أن المشهد الختامي لانتحار كرم داود لا ضرورة فنية له، أو ربما كان مكانه داخل المتن الروائي.
على أي حال منحتنا الصياد عملا روائيا سينتزع لنفسه المكانة التي يستحقها، فهذا عمل شاق ينبغي تحيته والإشادة به.
كتّر خيرك يا أستاذة هالة على كل ما منحتيه..
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد