نهاية وبداية…. محمد عوض

بقلم محمد عوض

d8b5d988d8b1d8a9-d985d8add985d8af-d8b9d988d8b6 نهاية وبداية.... محمد عوض

كان مشهد الحوض الذي يتوسط غرفة نومه مشهداً قاسياً، تُسمع قسوته في زفرات الرجال الذين يحيطون به، وهم يتشبثون ببقية ما في روعهم من رباطة جأش لينجزوا طقوس عملهم الثقيل، وتختلس أعينهم النظرات إلى قسمات الوجه التي لم تعد تكتسي بالابتسامة أوتعبر عن البشر والمرح.

خرج الجميع وبقيتُ وحدي في المنزل الذي خلى من جسد صاحبه، ولم يخلُ من ذكريات لي معه في كل غرفة وكل زاوية،

في كل مكان هنا جلست، وفي كل مرحلة من مراحل عمري كانت لي ذكرى، في كل غرفة وفي كل شرفة وعلى كل مقعد وفي كل زاوية، حتى كبر سني ولم أعد الصغير الذي يصطحبه الكبار لزيارة أقاربه، ولا المراهق الذي يذهب للمبيت عند خاله العازب الذي تُختَطف في مملكته لحظات السعادة وتُمارس عنده أنواع من متع الحياة وملذاتها لا يمكن اقترافها في حضرة الوالدين

ثم فتر الود عدداً من السنين. 

غدا بعدها يداوم على الاتصال بي، يبدأ مكالمته بالتحدث عن مقدار سعادته وراحة باله، ثم ينخرط في سرد باقة جديدة من النوادر التي تمتليء بالفكاهات والغرابات والعبر والحكم أحيانا، بأسلوب خلاب وكأنه يؤلف سيناريو أو يعزف على أوتار العود، لا أكاد أمل من حديثه، ولم تكن وسط تلك اللوحات كثير من الأحاديث النمطية التي تمتليء بها حوارات الناس، عن المتاعب الصحية ومشاكل العمل، التي يضع الناس داخلها همومهم وآلامهم.

441560821_764100745708365_3050984201898793011_n نهاية وبداية.... محمد عوض
رسومات سلمى رسم رقم 10

وكثيراً ما تساءلت، على أي أرض يضع هذا الرجل همومه وأثقاله التي لا يحدث بها أحداً، وكيف تمضي ليلته في منزله المتعدد الغرف التي لم يعد يفتح منها إلا واحدة، وبمن يأتنس في ساعاته الطوال إذا أعرضت عنه وأعرض عنه من هم مثلي ممن تُقرع هواتفهم فلا يجيبونه لانشغالهم بشؤون حياتهم الرتيبة، وبما يجيب مخاوفه التي تريد أن تتزاحم على باب غرفته لتذكره بالمضاعفات الوشيكة لمرض السكري االذي ظل طول عمره يتحداه ويسخر منه وهو يعد لنفسه الوجبات الشهية المليئة بالممنوعات، فيرسم صورة متناقضة لا يفهمها أحد، ويتحير فيها الرفاق. 

إذ كيف يمكن لرجل من الوجهاء، يبالغ في العناية بكل ما يحيط بحياته من مظاهر الجمال والسعادة، ولا يكترث بدمائه وما يتراكم داخلها من أخطار، وكيف يمكن لطبيب مثله أنجز الشهادات العلمية وخاض المؤتمرات وقُدّم في الأحاديث التلفيزيونية والإذاعية وهو يعظ الناس في صحتهم، ألّا يعظ نفسه.

كان قد شارف على السبعين من عمره، ولا تزال أحاديثه الهاتفية تزداد عذوبة ومرحاَ وروعة حتى بعد أن غيرت صوته الأيام قليلاً، ولكن عجزت عن تغيير نغمات ضحكتة الجميلة، أسمعها تجلجل في الهاتف، وأراها حية أمامي في بعض المناسبات العائلية التي تجمعني به، ضحكة يزول على إثرها الوجوم والهيبة من وجوه الحاضرين ويهدم بقايا جدار الوقار الذي يحب أن يصنعه كبار الحضور في المجلس لا لشيء إلا ليحول دون استمتاعهم بلحظات جميلة في غربة حيواتهم.

لم يكن يتحدث عن الهموم ولا الأوجاع إلا بعد أن انطلقت الأورام تضع أيديها على كل مكان داخل جسده الرشيق بعد أن سمح لها بالمكوث داخله وأغلق عليها الباب ووارى تقارير المعمل وصورة الأشعة في أحد الأماكن داخل مسكنه الفسيح في يوم ما ربما قبل عام أو عامين ولم يحدث بها أحداً.

كان يصرخ في جوف لياليه، ويقول لإحدى إخوته التي جاءت لترافقه في تلك الليالي المعدودة، “أريد أن أموت، أموت الآن”، ثم يقوم في الصباح فلا يقابل عواده إلا بعد أن يتحامل على نفسه كثيراَ، ليس فقط ليستطيع السير على قدميه، بل ليلبس بعض ثيابه الجميلة، ويحلق ذقنه، ويصبغ شعره، ويرسم على وجهه بسمة مضطربة تجاهد وخز الألم.

لم أكن من أقرب الناس إليه، ولم أكن أعلم أنه سيسكن قلبي وروحي قبل ذلك اليوم القاسي، 

فاضت روحه، فصلى عليها الناس، وودعوها، ولكن تلك الروح أراها وكأنها عادت إلى الأرض لتستقر ثانية بيننا، تستقر بداخلي، كثيرا ما أجد ذكرياته معي حية في خيالي بكل تفاصيلها، بل تزداد وضوحاً كلما بعد بنا الزمان عن يوم رحيله، أبكيه أحياناً، بكاءً أحبه وأنتظر مجيئه، وحين يجيء يتملّكني، 

فيؤنسني.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات