هديتي الأخيرة لأحبتي … بقلم: د. زينب توجاني
بقلم: د. زينب توجاني

أتمنى لكم عطلة سعيدة وأوقاتا طيبة….
نحن كل شيء ولا شيء يا عاشوراء
في طفولتي، كنا نحتفل بعاشوراء. نذبح ديكًا روميًا، نكحّل أعيننا، نشعل نارًا ونقفز فوقها، نركض في الأزقّة، نغني بعد الغروب، ونضحك. قيل لنا إن عاشوراء ذكرى موت جلل. لم نكن نعرف من مات، ولا من قتل من، ولا لماذا. لم نكن نحمل أحقادًا مذهبية، بل فقط تعاطفًا طفوليًا بريئًا مع الحسن والحسين، كما مع معاوية ويزيد. كنا نمنح مشاعرنا للجميع، دون تمييز ولا تصنيف.
لم أكن أعرف أنني “سنية” أو “مالكية”. كنت فقط “مسلمة” وكفى. وعندما دخلت الجامعة، بدأ انكشاف العالم. بدأ كل شيء يتخذ له اسمًا، ومرجعية، وخلفية. واكتشفت أني على مذهب مالك أي والله وأني سنية.. وهات من تلك التصنيفات العجيبة.. ولكن في الجامعة عرفت أيضا أن ما ظننته دينًا صرفًا كان، في الحقيقة، مزيجًا مركبًا: وثنية قديمة، يهودية مغاربية، مسيحية باطنية، تصوف شعبي، وتديّن إسلامي بمرجعيات متعددة.
نعلّق في أعناقنا رموز الخصوبة من إرث فينوس، ندرأ العين برموز ربة البحر، نلبس “خمسة اليهود”، نكحّل أعيننا حزنًا على عليّ وبنيه، نحتفل بموالد النبي، ونحتفظ بشعرة سيدي معاوية طلبًا للبركة. طقوسنا ليست نقية، ولا هي مرتبة، لكنها صادقة، ممتزجة كما نحن، تحمل في طياتها ذاكرة أزمنة متراكبة.
ثمّ تخصصت. ودرست. وفتّشت. فأدركت أنّني لا أنتمي لحدٍّ واحد، ولا أُحاصر ضمن تعريف ضيّق. أنا نتاج خليط من طبقات الهوية، أنا فسيفساء متناثرة، أنا كلّ شيء… لا شيء.
عاشوراء يا عاشوراء،
عاشورة عاشورتي، تنفخ لي كورتي،
تنفخها وتزيدها، سمّوا من هو سيدها،
سيدها عبد الرحمن، لابد في قعر الدكّان،
ياكل في خوخ ورمان…
كنا نغني ونركض ونضحك. لكن داخليًا، كنت أغني شيئًا آخر. تهمس لي أمي: “كحلي عيونك يا بنتي”، فأكحلها وأقول في قلبي: “نولي كاتبة شهيرة… نكتب قصتي…
“وليت كما حلمت.”
عاشوراء زمن السحر العجيب كان الصبايا يتمنين فيه الزواج، المتزوجات يتمنين فيه الحبالة، الحبالى يتمنين فيه دوام الود من سيد البيت وشاشية الرأس، الرجال غائمون في ذاكرتي… كان جدي يأتي بالديك ثم مات جدي ولم يعد عندنا من يأتي بالديك فأمي كل عاشوراء تبكي لا الحسن بل أباها الذي كان يأتي بديك لها في عاشوراء.. وأنا أبكي مع أمي.. وأبكي لا الحسن بل الحلوى وعرائس القصب، الأموال والهدايا التي حرمت منها بوفاته.. أبكي أبالغ حين أقول أبكي.. فأنا طفلة، أتدبر أمري… أعوض عن نفسي.. أجد مصادر أخرى لاقتناء عرائس الحلوى الباجية اللذيذة أو في لغة أخرى آلهة نأكلها بنهم … أي نعم آلهة نأكلها بنهم…
عاشوراء… وكل بنت صبية لها أمنية… في قلبي أردد… نولي كاتبة شهيرة… اي وليت كاتبة كيف ماحبيت… اللي تمنيتو لقيتو لا زادني لا زدتو …
بركة عاشوراء؟؟ بركة النار اللي شعلتها وجريت بيها؟ الكتب اللي خبيتها وقريتها؟ الشعر اللي قصيت منو وخبيتو في ركن؟ الكسكي بالديك الرومي يذبحه جدي وتريشه أمي وأنا على رأسها أتشهى.. شهوة صبية بألف مشرية؟
شهوة بنت غيرت فكرتها عن مستقبل البنت كيف يجب أن تكون.. رقصت على النار وجرت مع البنات والأولاد لكن تمنت شيئا آخر.. شيئا لم تكن جداتها أو عماتها يتمنينه.. أن يكتبن.. أن يفهمن من أين وإلى أين.. أن يفتين في الدين..
يا عاشوراء وهل هي نار الحسين أم نار زرادشت؟ وهل هي بركات علي أم الآلهة القديمة للبربر؟ وهل هي طقوس الشيعة أم مزيج من ثقافات وطبقات وصراخ آت من قلب التاريخ: لا تيأس وحول الموت إلى رجاء.. ويسمع الصدى قلوب الصبايا من البنات فيحولن الموت إلى فرصة للبركة، للزواج للحب وللخصب وللمتعة وللنجاح..
لا حدود أبدا في الواقع بين سني وشيعي .. بين آلهتنا أحلامنا.. بين المغروس في دمنا…
نحن لم نتمنَّ أمنية إلا وتحققت.
نحن، يا عاشوراء، كل شيء… ولا شيء.
نحن كل شيء ولا شيء… يا عاشوراء.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل:
salontafker@gmail.com
تابعنا عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي:
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد